كانت الدولة قررت مد عمليات التطوير لمنشية ناصر -أحد أحياء العشوائيات بالمنطقة الغربية لمحافظة القاهرة- وهي منطقة قديمة جدًا. لا تطالها خطط تطوير على مدى عقود. لهذا كانت ملجأ لعدد كبير من الوافدين للقاهرة من المحافظات فزادت مظاهر العشوائية بطريقة كارثية.

“حضرتك احنا ساكنين في شارع الشهيد عبد الرحمن جواباتنا راحت على زينهم والأسمرات والشقق احنا هنعمل إيه بالتعويض وحياه كريمة إيه اللي بتقولوا عليها وانتم هترموا الناس في الشارع”. ترصد دنيا آدم -من سكان منشأة ناصر “منشية ناصر”- كيف تم إخراجهم من منطقتهم دون تفاوض أو استماع لهم.

“دنيا” التي لا تريد مغادرة نمط حياتها القديم مثل الآلاف من الذين عاشوا وولدوا في العشوائيات تؤكد رسالتها: “محدش عندنا في الشارع كان موافق على التعويض. يعني إيه نكون قاعدين في بيوتنا مرتاحين وتيجوا ترمولنا ملاليم عشان خاطر تاخدوا الأرض اللي اتولدنا وعايشين عليها وحامدين ربنا في أوضة وحمام مشترك. حطوا نفسكم مكان ناس لا حول لهم ولا قوة”.

قنبلة منشية ناصر العشوائية
قنبلة منشية ناصر العشوائية

آخر أعمال التطوير

قبل أيام نفذت الدولة آخر أعمالها في تطوير العشوائيات بالمطرية في القاهرة. من حيث نقل سوق الخميس وإقامة مشروع “أهالينا 4” بمنطقة المسلة بعد تطهيرها من الإشغالات والقمامة. مع إزالة عدد من المباني العشوائية ونقل سكان عرب الحصن إلى وحدات سكنية مجهزة في المحروسة ضمن خطة القضاء على العشوائيات لتضيف الدولة إنجازا جديدا في هذا السجل.

ورغم هذا المجهود الضخم لم تتوقف الشكاوى الإنسانية من عدم ارتياح كثير من أبناء العشوائيات لأوضاعهم الجديدة. وتطرح الكثير من الأسئلة نفسها طوال الوقت لمعرفة إن كان البناء يتم على كل المستويات بشكل صحيح أم لا. وما الذي يتغير على المستوى الاقتصادي والثقافي والاجتماعي للسكان؟ وأي حال أصبحوا عليه بعد نقلهم إلى مناطق أخرى لا يتوفر للغالبية منهم أعمال ولا دراية بأنماط الحياة فيها.

بهذه الطريقة واستمرار الشكوى: “ما الذي يجب على الدولة اتباعه حتى تبدل المنظومة الاجتماعية والثقافية التي كانت سائدة في العشوائيات قبل نقل سكانها للأماكن الجديدة وخلق ثقافات تعزز الاعتماد على النفس وتقلل الجرائم وتنهي مشكلة المخدرات التي كانت شائعة في المناطق القديمة؟ وأي دور للجهات المعنية بالثقافة والحوار والتنشئة الاجتماعية؟”.

نقل السكان إلى الاغتراب
نقل السكان إلى الاغتراب

جهود الدولة.. ما الذي ينقصها؟

من الطبيعي أن تكون البيئة مؤثرة في حياة الإنسان. وثقافة العشوائيات تُرسخ داخل من يعيشون فيها. ومن هناك يأتي دور الدولة للتخلص من هذه الإشكالية. ومع كل الإنجازات لكن ما قامت به الدولة في هذه الجزئية ليس بالجهد المطلوب. يقول الدكتور فتحي قناوي -أستاذ كشف الجريمة بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية

يوضح “قناوي” لـ”مصر 360″ أن عامل الثقافة مهم للغاية. فكما ننقل المباني والأثاثات والماديات يجب نقل أفكار ومد البيئة الجديدة بثقافة مغايرة. خاصة أن ثقافة العشوائيات دخيلة وغريبة على البيئة المصرية. ولهذا عندما ينقل ساكن العشوائيات إلى بيئة أفضل ـطبيعية وإنسانيةـ مجهزة بحياة أفضل ما لم يتعود على سلوك يناسبها لن تكون هناك نتيجة على النحو الأمثل.

تحويل المناطق الخطرة إلى آمنة
تحويل المناطق الخطرة إلى آمنة

العشوائيات.. فلاش باك

أزمة العشوائيات عرفها المجتمع المصري منذ خمسينات القرن الماضي. كانت هذه الفترة الزمنية في حياة البلاد بداية الهجرة المتزايدة من الريف للمدن بسبب تمركز حركة التصنيع وأغلب فرص العمل في القاهرة الكبرى.

بحلول السبعينيات تضخمت المناطق العشوائية بسبب تبني الدولة سياسة الانفتاح. وقد واكبها انخفاض كبير في الإنفاق الحكومي على مشروعات الإسكان.

واستمرت الدولة في تطبيق هذه السياسة خلال الثمانينيات والتسعينيات والعقد الأول من الألفية الجديدة. ولم تتحرك لوقف الزحف الخطير للعشوائيات ليتضاعف حجم الكارثة.

أصبحت هذه المناطق مع الوقت أشد الأماكن جذبا لغير القادرين. وتوحشت في الوقت نفسه لوبيات البناء العشوائي وتحالفت مع الفساد الذي طال مناحي الحياة في مصر خاصة المحليات. واستغلت هذه الدوائر غلاء الأسعار وعدم قدرة الكثيرين على دفع ثمن البناء أو السكن في بيئة صالحة للحياة الإنسانية.

وكان طبيعيا أن يتواكب ذلك مع ضعف شديد وترهل غير مسبوق في قدرة الدولة على المواجهة بعد أن شوهت العشوائيات كل مظاهر الحياة المصرية. حيث زحفت على كل الأحياء والعمران الحضاري الذي يميز البلاد وأصبحت تحاصره.

بعد ثورة 25 يناير وإسقاط الرئيس الراحل حسني مبارك تفاقمت المشكلة في الأعوام الأولى بسبب انشغال أجهزة الدولة في الأحداث السياسية  واشتعال الشارع المصري. فضلا عن نشاط عمليات البناء المخالف واقتطاع مزيد من الأراضي غير المخصصة للسكن. ما مد في خطوط العشوائيات بدرجة مخيفة لكن بعد عزل جماعة الإخوان وتولي الرئيس عبد الفتاح السيسي تغير الأمر.

جهود الدولة في تغيير واقع العشوائيات
جهود الدولة في تغيير واقع العشوائيات

التزامات دستورية

حسب الدستور المصري فإن للمواطن الحق في سكن لائق وكريم تتوفر فيه الخدمات التعليمية والصحية والثقافية والترفيهية. وتخص المادة 87 من دستور 2014 كل شيء عن العيش الكريم. وقال نصها:

“تكفل الدولة للمواطنين الحق في المسكن الملائم والآمن والصحي بما يحفظ الكرامة الإنسانية ويحقق العدالة الاجتماعية. وتلتزم الدولة بوضع خطة وطنية للإسكان تراعي الخصوصية البيئية وتكفل إسهام المبادرات الذاتية والتعاونية في تنفيذها.

كما تلتزم الدولة بوضع خطة قومية شاملة لمواجهة مشكلة العشوائيات. تشمل إعادة التخطيط وتوفير البنية الأساسية والمرافق. وتحسين نوعية الحياة والصحة العامة. كما تكفل توفير الموارد اللازمة للتنفيذ خلال مدة زمنية محددة”.

مشروع 2030

في 2016 عبرت الدولة عن انحيازاتها ورؤيتها للتغيير الاجتماعي. وقطع الرئيس عبد الفتاح السيسي وعدًا على نفسه والحكومة بالقضاء على العشوائيات والمناطق غير الآمنة. وأكد نقل كل من يعيشون في الأحياء الفقيرة إلى شقق جديدة على مدى 3 سنوات كجزء من مشروع طموح بقيمة 14 مليار جنيه.

وتم رفع الميزانية لتصل إلى 39 مليار جنيه. وكانت حصة القاهرة فقط 16 مليارًا.

قال الرئيس نصا آنذاك: “ما يزيد على 50% من مساحة مصر عشوائيات وناس مرمية في الشوارع. بيعايرونا بفقرنا بس أنا مش هسكت”.

كشفت خطة القضاء على العشوائيات التي تنتهي عام 2030 وجود 1100 منطقة عشوائية في مصر. 300 منها بالقاهرة الكبرى.

تحدد الخطة أهمية التعامل السريع مع بعض المناطق مثل منشية ناصر التي كانت أقل المناطق أمانًا في مصر. فبجانب انعدام الخدمات تماما ـ دون مياه جارية أو شبكة صرف صحي أو كهرباءـ كان هناك خطر دائم من الانهيارات الأرضية. مثلما حدث عام 2008. حيث أدى انهيار صخري في منطقة الدويقة المجاورة إلى مقتل ما لا يقل عن 119 شخصًا.

الإنجازات على الأرض

حسب آخر تصريحات مسئولي صندوق تطوير العشوائيات فإن ما تم تنفيذه حتى الآن نحو 177 ألفا و500 وحدة سكنية في نحو 298 منطقة عشوائية. ويجري تنفيذ نحو 34700 وحدة في نحو 59 منطقة.

وتبلغ تكلفة تطوير المناطق غير الآمنة نحو 36 مليار جنيه. فيما تصل قيمة الأراضي المقام عليها الوحدات السكنية لسكان هذه المناطق نحو 23.5 مليار جنيه.

ما بعد النقل.. هل انتهت أم بدأت المشكلات؟

منشأة ناصر بعد نسف العشوائيات
منشأة ناصر بعد نسف العشوائيات

نقل الناس من مناطق لا يتوافر فيها الحد الأدني من أسباب المعيشة الكريمة والمحترمة إلى مناطق أفضل وأكثر إنسانية بالتأكيد له تأثيره الإيجابي. يقول الدكتور طه أبو حسين -أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية.

وقال لـ”مصر 360″: “لا بد من إيجاد دوافع مادية ولوجستية وأخلاقية وثقافية لدى هؤلاء لتحقيق المأمول من نقلهم لأماكن أخرى أكثر إنسانية”. ويضيف: “يجب توفير لوحات استرشادية بالسلوكيات المطلوبة وتوفير سلات قمامة بالشوارع ومسارب امتصاص مياه المطر”.

يوضح أستاذ علم الاجتماع أهمية إيجاد مجمعات للقمامة على مستوى الشوارع الرئيسية والفرعية وتوفير المواصلات الرخيصة التي تتناسب مع أوضاعهم. وكذلك المدارس والمستشفيات وكل سبل الإعاشة وإتاحة الفرصة للقطاع الخاص لمساندة الدولة بإقامة مشروعات اقتصادية يعمل بها السكان.

يكشف “أبو حسين” أهمية العمل على تغيير الأنماط الثقافية للبيئة وخلق نظام متكامل قائم على الاحترام في المؤسسات الخدمية كالمستشفيات والشهر العقاري وأقسام الشرطة وغيرها. إذ يجب أن يشعر المواطن بأن هناك تغييرا.

بهذه الطريقة سيتخلص الجيل الأول من الثقافات والأخلاقيات الموروثة مهما حدث من خروقات. لكن الأجيال القادمة ستبدل أخلاقياتها وثقافتها بما يناسب أحوالهم الجديدة.

أما التعامل مع مخالفات السكان بعد استنفاد كل طرق التوعية فيرى أستاذ الاجتماع أهمية تنفيذ القانون بمنتهى الحسم والصرامة. إذ يجب أن يكون هناك ردع وعقوبة بالتوازي مع التعليم والتثقيف والتوعية. حتى تتبدل السلوكيات والأخلاقيات التي تخترق المنظومة القانونية. فالبيئة الجديدة ملك للمجتمع وعلى الجميع المحافظة عليها حتى لا تتأسس فوضى جديدة.

التفاوض مع الناس

نقل العشوائيات بعشوائية
نقل العشوائيات بعشوائية

محمد حجي -أحد سكان الدويقة- يقول: “نحن حصر 2017 شمال الحرفيين الدويقة منشأة ناصر. وطلعونا بناء على رغبتهم”. وأضاف مختصرا معاناته دون إسراف في الحديث: “طلعونا بالقوه الجبرية وحسبي الله ونعم الوكيل”.

“حجي” أحد الذين خرجوا من المنطقة لتنفيذ خطط محافظة القاهرة لإنشاء مشروع سكني يضم 3500 وحدة سكنية بمنطقة شمال الحرفيين بمنشأة ناصر. بعد أن انتهت المحافظة من أعمال رفع مخلفات هدم المنطقة العشوائية التي تم نقل سكانها للأسمرات ضمن خطة تطوير العشوائيات. وكذلك تهذيب الهضبة وفحص التربة ليتناسب المشروع مع الطبيعة الجيولوجية للمكان. لكن كان الاتفاق مع السكان للخروج غير ودي بالمرة -حسب العديد من سكان المنطقة.

التأهيل للحياة الجديدة يعتبره أمجد عامر -خبير التنمية المحلية واستشاري تطوير العشوائيات- من أشد الضرورات لتطوير وعي السكان بكيفية الانتقال لحياة جديدة.

يوضح “عامر” لـ”مصر 360″ أن هناك ضرورة للاهتمام بالتأهيل بالدرجة ذاتها التي نهتم فيها بالعمران.

ويطالب مؤسسات المجتمع المدني بالقيام بأدوار رئيسية في ذلك. وكذلك المؤسسات الحكومية المعنية مثل وزارة التضامن والثقافة لبث روح التحضر والفنون في المواطنين بما يعطي لهؤلاء حياة أكثر تطورًا.

يعترف “عامر” أن طريقة نقل الناس من العشوائيات في المراحل الأولى تسببت في مشكلات. وذلك بعدم إعطاء الدولة خيارات مناسبة للسكان قبل النقل. لكن بعد ذلك انتبهت للمشكلة وأصبحت هناك جلسات حوار مع المواطنين من خلال صندوق تطوير العشوائيات. وهو جهة مدنية مناسبة ومؤهلة لذلك بعد ثاني عملية تطوير. وجرى تخييرهم بين عدة فرص سواء بالبقاء في المنطقة بعد التطوير أو الحصول على تعويض مناسب.

يضيف: “حصل ذلك في مثلث ماسبيرو. إذ سيعود بعض سكان المنطقة لها بعد التطوير بعد الاتفاق مع الصندوق على إطار مناسب لذلك. والبعض جرى نقله إلى الأسمرات وغيرها”.

الدخل والاقتصاد.. أي فرص؟

عن الدخل وفرص العمل في المستقبل وكيف يتصرف الذين تركوا محل أعمالهم وأرزاقهم وموارد دخلهم يقول استشاري تطوير العشوائيات إن الغالبية جرى تعويضهم. فالبعض عاد للمكان نفسه بعد تطويره والعمل بالمساحة والنشاط والترخيص نفسه. والبعض الآخر حصل على ثمن مناسب وقرر الخروج من المنطقة إلى حياة أخرى.

في اتجاه مختلف يركز الدكتور فتحي قناوي -أستاذ كشف الجريمة بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية- على ضرورة تغيير الثقافة التي تسوق للنمط القديم بعد أن جعلت “الأكل والشرب والنوم والعمل” في مكان واحد.

 

العشوائيات المنغلقة ونمو الجريمة
العشوائيات المنغلقة ونمو الجريمة

يحمل “قناوي” النمط القديم للحياة في العشوائيات المسئولية عن أحد الأسباب الرئيسية لانتشار المخدرات في هذه الأماكن قبل هدمها. فالمقيم هناك لا يقابل يوميا إلا السكان أنفسهم ولا يدخلها غيرهم. لذلك أصبح كل شيء مباحا. ونقل المخدرات وترويجها يسيرًا للغاية. كما أسهم النمط المعيشي ذاته في زيادة حدة الجرائم. يوضح “قناوي”: “عندما يشعر سكان المناطق بالنبذ من المجتمع والانغلاق على أنفسهم يصبحون ضد المجتمع بالضرورة”.

الأستاذ بالمركز القومي للبحوث الجنائية يشدد على أهمية تشجيع هؤلاء المنقولين للتحرك من المكان الذي يقطنون فيه. إذ هناك فارق كبير بين المناطق السكنية والأخرى التي يتوفر بها فرص عمل. لا سيما أن بعض الوظائف والأعمال كانت تضر بالبيئة السكنية ولا تصلح لها بالأساس مثل المعادن والدهانات والدوكو وغيرها.

يلفت “قناوي” إلى أن فرص العمل تتوفر بناء على سعي الإنسان في المقام الأول. ولا يجب الاعتماد على الدولة دائما. فكل مواطن يختلف عن الآخر في الاحتياجات والمهارات. لا سيما أن المناطق القديمة لم تكن تحمل أي بيانات تذكر للمقيمين فيها. لهذا على المواطن مساعدة الدولة في تغيير ثقافة عدم إجهاد النفس بالبحث عن عمل مناسب في آلاف الوظائف المتوافرة خارج النطاق السكني. وعلى الدولة أن تساعد عبر مكاتب المشورة والمؤسسات الاجتماعية لإخباره بالتصرف المناسب وفقا لمهاراته.

يختتم الأستاذ بالمركز القومي للبحوث الجنائية موضحا أن تغيير الثقافة يحتاج إلى أكبر من الندوات الثقافية التي تنظمها الدولة في المساكن البديلة للعشوائيات. فالأمر له نواح نفسية تحتاج إلى تنمية بجانب الأبعاد المادية والبيئية.