“النهوض عن طريق الاستثمار في رأس المال غير المادي”.. تعتبر تلك الجملة هي المحرك الأساسي للاقتصاد المغربي، حاليًا، فالحكومة ترى أن أقصر الطرق لتحقيق انطلاقة تنموية مرتبطة في المقام الأول ببناء رأس المال المؤسسي والبشري والاجتماعي معًا.

كانت تلك الخطة أحد المحركات الأساسية التي واجهت بها الرباط الأزمات الاقتصادية العالمية المتتالية. فحينما تفشى فيروس كورونا تبنت الحكومة مخططًا للإنعاش الاقتصادي يتضمن نموذجًا تنمويًا تضمن إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة وتعميم الحصول على التأمين الصحي العام وتقديم التعويضات العائلية، وهو برنامج للتحويلات النقدية.

في الفترة ذاتها، استحدثت الحكومة صندوقًا للاستثمار بغرض حفز استثمارات القطاع الخاص تضمن استثمارات بأسهم رأس المال في المقاولات الصغيرة والمتوسطة التي تمتلك مقومات الاستمرار والتي تعمل في القطاعات الاستراتيجية (الزراعة والسياحة والصناعات التحويلية والابتكار والنمو). مع تعزيز إقامة الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتمويل مشروعات البنية التحتية التجارية.

اقرأ أيضًا: دراسة للبنك الدولي: تحسين الإنتاج يحمي الدول من التضخم المتوقع

كما فرضت الحكومة تدابير استثنائية للتخفيف من آثار ارتفاع الأسعار وندرة المواد الأولية على الالتزامات التعاقدية في إطار الصفقات العمومية. مع توجيهات لكل الوزراء بمعالجة الصعوبات المتعلقة بالمقاولات العمومية المعنية، ضمانا لاستمرار نشاطها وقدرتها التنافسية، ولاستكمال إنجاز المشاريع المتعاقد بشأنها.

استطاعت الرباط احتواء التضخم خلال 2021 عند 1.4% في المتوسط قبل أن يرتفع خلال العام الحالي بنسبة 3.6% في فبراير/ شباط 2022 على أساس سنوي بسبب ارتفاع تكاليف الواردات بنهاية العام. إلى جانب تزامن أزمة الحرب الأوكرانية مع موجة جفاف عنيفة أضرت بالزراعة أحد المقومات الأساسية للاقتصاد.

رغم ارتفاع التضخم وموجة رفع أسعار الفائدة في العالم “سياسة نقدية متشددة”، حافظ البنك المركزي المغربي على سياسة نقدية تيسيرية، وأبقى سعر الفائدة دون تغيير عند 1.5% منذ يونيو/ حزيران 2020، وهو أدنى مستوياته التاريخية. ما يعزز من فرص توسع القطاع الخاص والاقتراض وينعكس على معدلات البطالة.

“الفائدة” لا تجدي

لا يزال المغرب مقتنعًا بأن الضغوط التضخمية التي يواجهها مستوردة من الخارج، وما دام لم تتشكل نتيجة ارتفاع الطلب الداخلي عن حجم المعروض، فإنها حالة لا يمكن مواجهتها برفع سعر الفائدة وسحب السيولة، وبالتالي انخفاض الطلب وانخفاض الأسعار.

في عرف السياسة النقدية المغربية، فإنه حال تم رفع سعر الفائدة ونتج عنه انخفاض في الطلب، ستبقى الأسعار مرتفعة؛ لأنها تتعلق بمواد لا تنتجها البلاد بل يتم استيرادها من الخارج، مثل المحروقات، وبالتالي سيكون رفع سعر الفائدة مضرًا بالاقتصاد وغير مجدٍ في الوقت ذاته.

جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، قال إن اقتصاد المغرب كان أسرع الدول في العودة إلى النشاط الاقتصادي بعد جائحة كورونا، وذلك يعود لإجراءات مهمة اتخذتها الحكومة وبنك المغرب لحماية القطاعات الاقتصادية لتأمين قدرة الشركات على العودة إلى الدورة الاقتصادية، ما ساهم في دخول البلاد الأسواق المالية الدولية بمستويات جيدة جدًا على مستوى الفوائد.

الاستفادة من الأزمات

إبان الأزمة المالية العالمية في 2008، عانت المغرب من تدهور الأداء الاقتصادي وتقلص احتياطيات العملة الصعبة. فالحساب الجاري سجل حينها عجزًا بنسبة 5،6% من الناتج الداخلي الخام بسبب عجز الميزان التجاري. كما تراجعت احتياطيات الصرف حينها بنحو 11.5 مليار درهم لا تغطي سوى 6.6 أشهر من الواردات، بسبب تراجع إيرادات السياحة وكذلك الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

بدأت الرباط العام الحالي بقفزة كبيرة في احتياطيات العملة الصعبة بلغت أكثر من 3 مليارات دولار مقارنة بسنة 2021 لتصل إلى حوالي 40,45 مليار دولار. وهو أعلى احتياطي في تاريخه مقابل 37 مليارًا و377 مليون دولار سنة 2021 و35 مليارًا و287 مليون دولار في 2020، رغم تداعيات كورونا وأزمة الرقائق. ما يعني أن الاحتياطيات المغربية زادت بنسبة تقترب من 100% خلال 12 عامًا. إذ سجلت 23.71 مليار دولار في 2010، وقبل عقدين لم تكون تتجاوز 4.7 مليار دولار.

السبب الرئيسي في قفزات الاحتياطي المغربي ترجع إلى الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي ارتفعت سنة 2021 بـ16%، إلى جانب ارتفاع تحويلات مغاربة الخارج بـ46% خلال 8 أشهر، أعطى البلاد القدرة على توفير احتياطي مريح من العملة الصعبة تمثل 7 أشهر من الواردات (النسبة العالمية نحو 3.6 شهر). الأمر الذي انعكس على سعر صرف العملة التي قفزت أمام الدولار بنحو 0.14% في يناير/ كانون الثاني الماضي.

تعتبر نسبة الاستثمار في المغرب أحد أعلى المعدلات عالميًا بنسبة تصل إلى 30% من الناتج الداخلي الخام بفضل تطوير الأطر القانونية والإجرائية والإدارية وتسهيل تراخيص البناء والضرائب وإجراءات نقل الملكية، وخلال أربع أعوام فقط تم توقيع 114 اتفاقية استثمار بقيمة 334 مليار درهم وفرت 39.3 ألف فرصة عمل، كما تحسن ترتيب البلاد في مؤشرات أداء الأعمال إلى المركزي الـ 53 عالميا في 2020، ما يتماشى مع هدف وضعته الحكومة لجدول الاقتصاديات الخمسين الأوائل في ممارية الأعمال.

تطور ترتيب المغرب اقتصاديًا بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
تطور ترتيب المغرب اقتصاديًا بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

الاهتمام بالتصنيع

منذ نهاية عصر الملك الحسن الثاني الذي وضع إصلاحات تضمن انتقالا سلسلا للسلطة لنجله الملك محمد السادس وتقوم من الناحية النظرية على أربع مجالات أساسية هي احترام المتزايد لحقوق الإنسان، التوسيع المحدود لسلطة البرلمان، تعزيز فرص مشاركة الأحزاب والمجتمع المدني في الحياة السياسية، والحد من الفساد.

بحسب البنك الدولي فإن المغرب قاد تجربة رائدة في تحسين الظروف المعيشية وتحديث البنية التحتية المادية وتنويع اقتصاده، وتدشين استراتيجيات قطاعية ناجحة لتطوير سلاسل القيمة، وتحسين القدرة التنافسية والإنتاجية في الأجزاء الرئيسية من الاقتصاد وزيادة الإيرادات.

أطلقت الحكومة مبادرات عديدة ذات أهداف طموحة لتهيئة فرص العمل بينها الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات عام 2015 التي تستهدف تأهيل الباحثين عن عمل غير ذوي الكفاءات، وأطلقت أيضا ثلاثة برامج عمل نشطة: برنامج إدماج (تقديم دعم مالي للأجور للخريجين العاطلين)، وبرنامج تأهيل (لتدريب الشباب)، وبرنامج مقاولتي (لتعزيز ريادة الأعمال من خلال التدريب والمساعدة المالية).

كما بدأت الوزارات تطبيق ثلاث استراتيجيات منها إدماج الشباب الذي يهدف إلى تحسين نظام التأهيل وإدماج الشباب في سوق الشغل عن طريق فرص للتدريب والتوفيق بين المهارات واحتياجات السوق؛ والتشغيل الذي يهدف إلى زيادة الوظائف والإنتاجية؛ والنهوض بمقاولات الأعمال الصغرى الذي يهدف إلى مساندة تمويل المقاولات الصغرى.

وعلى جانب الطلب، تهدف الكثير من المخططات القطاعية مثل الوظائف العالمية للمغرب ومخطط المغرب الأخضر إلى توفير فرص العمل من خلال سياسات الاقتصاد الكلي والسياسات القطاعية مثل إصلاح منظومة الأجور، وسياسة سعر الصرف المرن، واستراتيجيات قطاعية داعمة للنمو.

تغلبت الرباط على مشكلة أزلية واجهتها في التقلب الواضح بسبب اعتماد البلاد على القطاع الزراعي غير المستقر والذي يتأثر بأوضاع المناخ وكذلك قطاع الخدمات الذي يتعرض لهزات خاصة فيما يتعلق بالسياحة، وبدأت الاهتمام بالتصنيع خاصة السيارات.

اقرأ أيضًا: لبنان تحت حصار الأزمة الاقتصادية.. ارتفاع أسعار وتسريح من العمل واختفاء الدواء

قفزة بصادرات السيارات

قفزت صادرات قطاع صناعة السيارات بالمغرب خلال الربع الأخير من 2021 إلى 22 مليارًا مقابل 16 مليار درهم في الربع الثالث من 2020، بنسبة نمو 40% مع اجتذاب البلاد ماركات عالمية مثل “رينو” و”بيجو” و”سيتروين” و”بي إس إي”، بفضل القدرة على خفض تكلفة الإنتاج والعمالة الماهرة والبنية التحتية القوية والحديثة.

استطاعت المغرب تحقيق عائد من السيارات بقيمة 7.2 مليار دولار والتصدير إلى 74 دولة، ومن المرجح أن تحقيق عوائد أكبر مع رغبة العديد من المصنعين في العالم نقل أنشطتهم إليها بعد أزمة أوكرانيا مثل المصنع الياباني “سوميتومو” المتخصص في صناعة الأجزاء وليوني الألمانية، المتخصصة في صناعة الأسلاك، والمصنع الإيرلندي “أبتيف”.

بحسب تقرير لمعهد الشرق الأدنى للدراسات، فإن المغرب تنتج حاليًا 700 ألف سيارة سنويا، يصدر نصفها إلى الخارج، بينما تهدف الرباط إلى زيادة الإنتاج ليصل إلى مليون سيارة بحلول 2025، لكن الحكومة تسعى لمضاعفة القدرة الإنتاجية للسيارات الكهربائية في البلاد بنسبة 100% على الأقل لتبلغ 100 ألف سيارة سنوياً في غضون عامين أو ثلاثة أعوام.

منذ أن عادت المغرب إلى الاتحاد الإفريقي عام 2017 بعد 33 عامًا من انسحابها من عضويته في 1984، أسست لشراكة اقتصادية مهمة مع الدول الإفريقية، حتى أن “التجاري وفا بنك” يمتلك حاليًا أكبر شبكة فروع في إفريقيا، وحصل على جائزة أفضل مؤسسة مصرفية للمقاولات الصغرى والمتوسطة بالقارة الممنوحة من مؤسسة يورومني العالمية.