أصبحت حدة الأزمة التي يواجهها الاقتصاد المصري واضحة للجميع، من أصغر مواطن وحتى رئيس الجمهورية، الذي لم يكتف بمحاولة تقديم تصوره لأسبابها، وإنما دعا يوم 9 سبتمبر/أيلول إلى عقد مؤتمر اقتصادي، لبحث الأمر، و”مناقشة التحديات الراهنة”، إلى جانب ما تحقق من “إنجازات”.

والحقيقة أن وقتًا طويلًا قد مضى دون أن تحاول الحكومة توسيع قاعدة المشاركة في القرار الاقتصادي، اقتناعًا بنجاعة سياساتها الاقتصادية التي تبنتها منذ ثماني سنوات، والتي يمكن تلخيصها في توسيع دور الدولة في الاقتصاد، والتركيز على التنمية العمرانية، شاملة المدن الجديدة والبنية الأساسية، خاصة في قطاعي النقل والطاقة كقاطرات للتنمية، وتمويل ذلك من خلال التوسع في الاقتراض الداخلي والخارجي، وإنتاج وتصدير الغاز، والتخلص من دعم أسعار الطاقة والوقود، والتوسع في حجم ما يتحمله المواطن عند تلقي الخدمات العامة، مع محاولة تخفيف تأثير ذلك عن طريق برامج اجتماعية موجهة. إلا أن ما وصلت إليه الأوضاع الاقتصادية اليوم -لأسباب داخلية وخارجية- جعل من الضروري إجراء مراجعة جادة للسياسات الاقتصادية، وإحداث تغييرات تمكن مصر من تجاوز الأزمة واستعادة مشروعها التنموي، لا سيما وأن الشعور العام هو أن الحكومة تتحمل جانبًا معتبرًا من المسئولية عن الأزمة الحالية وأنها المطالبة بعلاجها على أية حال، الأمر الذي كان، بلا شك، سببًا رئيسيًا في توجيه هذه الدعوة.

ولهذا، فإن هذا المؤتمر ربما يكون طوق نجاة لمصر من أزمتها الاقتصادية، وفرصة لفتح آفاق أرحب لتطوير مشروع التنمية الاقتصادية بشكل أعم، الذي لا يؤدي فقط إلى الارتقاء بأحوال المواطنين والوطن، وإنما أيضًا هو الذي يحصن الاقتصاد من تكرار مثل هذه الأزمات ويجنبه أثارها في حالة حدوثها. لكن المؤتمر يحقق هدفًا آخر لا يقل أهمية، وهو بناء قدر أوسع من التوافق الوطني حول السياسات الاقتصادية، وبالتالي قدرة أكبر على التحمل والتضحية على أساس من الاقتناع والرضا، وليس الاضطرار وقلة الحيلة. ويضع هذا عبئًا ضخمًا ومسئولية جسيمة على المؤتمر، وبوجه خاص من سيكلف برئاسته وتنظيم أعماله وإدارة مناقشاته وبلورة خلاصاته ونتائجه.

وحاولت تخيل كيف سيكون تفكيري لو تم تكليفي بمهمة رئاسة هذا المؤتمر، وأنا مدرك لعظم المهمة وخطورة المسئولية، فوجدت أن الخروج بالنتيجة التي يترقبها الوطن ويحتاجها أبناؤه بصورة ماسة، يتوقف على طبيعة المهمة التي سيكلف بها المؤتمر، وعلى المحددات التي ستوضع لعمله. لهذا وجدت أن وضع أساس سليم للعمل يتطلب إعداد مذكرة للرئيس تتسم بالأمانة والدقة، لوضع تصور محدد لمهمة المؤتمر والمحددات التي أرى أنها ضرورية للنجاح، وتصورت نصها كما يلي:

مذكرة للعرض على رئيس الجمهورية

بعد التحية، واتصالًا بالتكليف الصادر لي بالتحضير لعقد المؤتمر الاقتصادي، أود فيما يلي عرض تصوري لهذا المؤتمر، آملًا في أن يتم التصديق عليها، لتصبح الأساس الذي يقوم عليه وينظم أعماله، وتلتزم مؤسسات الدولة بالعمل في إطاره:

فقد جاء قرار الدعوة لهذا المؤتمر في ضوء التقدير بأن الاقتصاد المصري يواجه تحديات شديدة، مصحوبة بمؤشرات على تصاعد القلق لدى مختلف فئات المجتمع. وبناء على ذلك، فإن هدف المؤتمر ينبغي أن يكون الخروج بخريطة طريق لمواجهة الأزمة الاقتصادية، ووضع مصر على مسار تنموي قوي، استنادًا إلى توافق وطني عريض. ولذا فربما يكون مناسبًا أن يتخذ المؤتمر عنوانًا له “مؤتمر مصر الاقتصادي.. نحو توافق وطني على برنامج لمواجهة الأزمة وإعادة إطلاق مشروع التنمية”.

ومصداقًا لهذا العنوان، فإن نجاح المؤتمر في تحقيق الهدف منه معلق على جدية ما يشهده من مناقشة، واقتناع المشاركين بوجود استعداد حقيقي لمراجعة السياسات القائمة، وتبني ما يقتضيه الأمر من سياسات جديدة لتصحيح ما ظهر من أخطاء، وعلاج ما بها من عيوب، بل حتى مجرد توسيع قاعدة التوافق الوطني حول السياسة الاقتصادية، إيمانًا بأن فرص نجاح السياسات التي تحظى بتوافق عريض تفوق تلك التي تواجه تحفظًا أو رفضًا، حتى لو كانت الأخيرة أفضل.

وبديهي أن توجه الدعوات لحضور المؤتمر إلى عدد محدود ومنتقى من الشخصيات التي تمثل الأطراف التي يمكن أن تسهم في هذا الحوار، من الخبراء والمتخصصين متنوعي التوجهات والانتماءات الفكرية، وممثلي القطاع الخاص والقطاع العام، ونقابات العمال والقوى السياسية والمجتمع المدني، والمسئولين الحكوميين السابقين، ودون أي خطوط حمراء، باعتبار أن ذلك هو ما يعزز من مصداقية أعمال المؤتمر، ويحد من فرص المزايدة عليه ممن لا يشاركون.

ولكي يقوم النقاش على أساس موحد ودقيق، فهناك ضرورة لتوافر أقصى مساحة ممكنة من الشفافية، وإتاحة كاملة للبيانات الاقتصادية الرسمية، بحيث يتمكن المتحاورون من بناء أفكارهم واقتراحاتهم على أسس سليمة، والابتعاد عن الأفكار التي لا تعكس الواقع بشكل كافٍ.

اتصالًا بالنقطة السابقة، وفي ضوء ما هو متوقع من المشاركين، ينبغي الاستعداد من الآن لتقديم خريطة متكاملة عن الشركات والمشروعات المملوكة لمؤسسات تابعة للدولة، خاصة المسجلة كمشروعات خاصة، بما فيها قوائمها المالية. كما أنه من الحكمة الاستعداد لمختلف الاحتمالات في التعامل مع هذا الملف، بما في ذلك نقل ملكيتها سواء إلى القطاع الخاص أو القطاع العام، لتخضع للنظام القانوني المستقر لأي من هذين القطاعين، بعيدًا عن الأوضاع الاستثنائية التي تزعزع الثقة في عدالة المنافسة وتعرقل الاستثمار.

بجانب ما سبق، فينبغي الاستعداد للدخول في مناقشات تفصيلية وبالأرقام حول المشروعات الكبرى الجارية في مصر، بدءا بالعاصمة الإدارية والعلمين الجديدة ومشروعات الطرق والكباري واستصلاح الـ4 مليون فدان وتبطين الترع، وغيرها من برامج ومشروعات، لمناقشة أي نقاط تطرح حول تكاليفها أو جدواها الاقتصادية أو سلامة الاستمرار في تنفيذها. يسرى ذلك أيضا على صندوق تحيا مصر وصندوق مصر السيادي، وما يدور حولهما تساؤلات.

بجانب النقاط السابقة، اعتزم تنظيم المؤتمر حول المحاور التالية، مع مراعاة المرونة في صياغتها النهائية وفقا لما تسفر عنه المناقشات الأولية في المؤتمر:

  • السياسات الكلية والمالية العامة: وتشمل عجز الموازنة والإنفاق الحكومي والضرائب والاقتراض والمديونية وسعر الصرف والفائدة.
  • دور الدولة في الاقتصاد: وتشمل الاستثمار العام والبنية الأساسية، والدولة كفاعل في السوق، والدولة كمنظم ومقدم للخدمات العامة.
  • السياسة الصناعية: وتحديدا كيفية بلورة برنامج شامل لتنمية القطاع الإنتاجي في مصر، شاملا الصناعات التكنولوجية وتكنولوجيا المعلومات، وأدوات السياسة العامة التي يمكن توظيفها لدعم السياسة الصناعية.
  • الاستثمار الداخلي والخارجي: وتتناول متطلبات تنميته، ومعوقاته، والسياسات الضرورية لزيادته، مع آليات تحديد المجالات والقطاعات ذات الأولوية، وسبل النهوض بها.
  • إدارة الموارد: سواء المائية أو الناضبة، يما في ذلك أفضل السبل لحسن إدارتها على نحو يحقق أعلى عائد منها، ويحفظ حقوق الأجيال القادمة فيها.
  • السياسات الداعمة للتنمية الاقتصادية: خاصة التعليم والتدريب، وأداء الجهاز الحكومي ومؤسسات الدولة المتصلة بالنشاط الاقتصادي.
  • السياسات الاجتماعية: اللازمة لتخفيف حدة الأزمة على الفئات الأكثر تأثرا، بما في ذلك من خلال مراجعة السياسات والبرامج القائمة لزيادة فاعليتها والوصول بها إلى من يحتاجونها بالقدر المناسب.
  • ولتفادي التضارب وازدواجية العمل، أقترح نقل الملف الاقتصادي في الحوار الوطني والفريق القائم عليه إلى المؤتمر الاقتصادي، في ضوء وحدة الهدف والنتائج المتوقعة منهما. كما أقترح أن يشكل المؤتمر لجنة دائمة للمتابعة مع المشاركين، ولتكون حلقة اتصال بينهم وبين الحكومة والأجهزة التنفيذية في المستقبل، للحفاظ على قوة الدفع وعلى التوافق الوطني، وإتاحة المجال للمراجعة والتطوير إذا استدعى الأمر.
  • أتصور أنه إذا عقد المؤتمر في إطار العناصر السابقة فسيكون عملية شاقة ومعقدة، وستكون مناقشاته صعبة ومتشابكة، وهذا ما تستحقه قضية بأهمية موضوع المؤتمر. لكنه أيضا يعد بالخروج بنتائج مفيدة للغاية للبلاد، كما سيوفر أرضية صلبة للعمل الاقتصادي الحكومي على أساس توافق عام واسع، وتناغم مع باقي الفاعلين في الاقتصاد. كما أنه سيضع الحكومة في مركز قوة في التفاوض مع الأطراف الخارجية. أما إذا تقرر إقامة المؤتمر على أساس تصور آخر، فلا يسعني إلا تمني التوفيق لمن يكلف بمهمة رئاسته، حيث إنني لا أرى -في هذه الحالة- فرصة لأن أتمكن من تحقيق النتيجة المرجوة.

مع وافر الاحترام.

***

لا شك أن ما سبق يبتعد عما استقر عليه الحال في مناقشة وإدارة شئوننا العامة في السنوات الأخيرة، إلا أن ما وصلت إليه الأمور هو في حد ذاته دعوة لنا جميعاً لمراجعة ما استقر عليه الحال، لعل في ذلك ما يساعد على الخروج من الأزمة الحالية، والتوصل إلى المسار الذى نرجوه ونتطلع إليه.

 أيمن زين الدين قانوني وسفير سابق