كتب- عبد الوهاب شعبان:

الحمد لله إننا ما نزال قادرين أن نطرح السؤال ما ذا يأكل المصريون في ظل موجات الغلاء الفاحش التي تضرب معظم طبقات المجتمع، ونخشى قريبا مع موجات التضخم المتفاقم والمتسارع أن نطرح سؤالا في موضوع قادم هل يأكل المصريون. وعلى أمل الا يأتي أبدا اليوم الذي نطرح فيه هذا السؤال الكارثي. نسعى اليوم للبحث في قوائم الأكل المحدودة وشبه الإجبارية في أطباق المصريين التي قل حجمها وصغرت كمياتها.

لم تنشغل “م.ص” -ربة منزل- بتصاعد معدل التضخم في مصر خلال أغسطس/آب الماضي بنسبة 14.6% متأثرًا بانخفاض صرف الجنيه أمام الدولار. حين وقفت بجوار قسم اللحوم داخل متجر شهير مقلبة بصرها في أسعار “قطع الدجاج”. وهي تزيح وجهها عمدًا عن لافتات اللحوم المختلفة.

عن يمين ثلاجة الدواجن طلبت من البائع “نصف كيلو من ديك رومي” يباع كاملًا. وبسؤالها عن تفضيلها لـ”قطع صغيرة” على حساب شراء “فرخة كاملة”. لم تخف أن أبناءها يعتادون أكله الخميس من كل أسبوع. لكن زيادة الأسعار دفعتها لتقليل الكمية مع الحفاظ على عادة الأسرة.

وذكر البائع -الذي لم يعد يندهش من تقليل كميات اللحوم والإقبال على قطع الدواجن- أن عادات المصريين اختلفت منذ مارس/آذار الماضي في الأطعمة. فالأسرة التي كانت تعتاد شراء 3 كيلو لحوم أسبوعيًا اكتفت بكيلو. وينطبق ذلك على الأسماك والطيور.

وسجل معدل التضخم أعلى مستوياته منذ عام 2018 خلال الشهر الماضي. وتوقعات بأن يتصاعد في أكتوبر/تشرين الأول المقبل حسب خبراء. متأثرًا بانخفاض الجنيه أمام الدولار وتداعيات التضخم العالمي.

التضخم ولقمة المصريين
التضخم ولقمة المصريين

عظم المواشي بدل أجنحة الفراخ

وظهرت امرأة في مقطع فيديو تداولته صفحات موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” تعرض شراءها 2 كيلو عظام تناثرت عليها قطع صغيرة من اللحوم بـ20 جنيها للكيلو. وذلك كوجبة تعويضية للأسرة بعد ارتفاع سعر أجنحة الدجاج.

وقالت إنها تشتري العظم على أمل أن يتذوق الأبناء طعم اللحمة. وتعد على “مرقها” وجبة من الأرز والخضار المطبوخ. دون أن تفرط الأسرة في حبة أرز واحدة.

وحين تعامدت الشمس على “أصناف اللحوم” المعلقة على باب محل جزارة “صابر حسن” دون أثر لزبائن حتى الواحدة ظهرًا. رد ذلك إلى غلاء ضرب ميزانيات الأسرة المتوسطة في كل السلع الغذائية. ما دفع الناس إلى تعديل أولوياتها.

فالأسرة المصرية “عملت حسابًا” لكل كيلو لحمة بعد وصول أسعار اللحم البلدي إلى 180 جنيهًا. نظير ارتفاع أسعار الوقود والعلف -باعتبارهما مؤثرين هامين في تربية المواشي- بالتالي فإن المواطن الذي كان يشتري 5 كيلو شهريًا اكتفى باثنين. وكذلك حال الأسماك والدواجن في الأسواق.

وداعا للحمة
وداعا للحمة

وحسب بيان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فإن قسم الأطعمة والمشروبات ارتفع بنسبة 24.3% نتيجة زيادة أسعار الخبز والحبوب 50%. بينما ارتفعت مجموعة الأسماك والمأكولات البحرية بنسبة 33.8% نتيجة للتغيرات المناخية والألبان والجبن والبيض بنسبة 26.9% نتيجة ارتفاع أسعار الأعلاف ضمن مجموعة الحبوب. وجاء ارتفاع السكر والأغذية السكرية بنحو 25% متقاربا مع ارتفاع أسعار المشروبات لارتباطهما باحتياجات الفرد.

أغذية شبه منتهية

في ظل ارتفاع الأسعار المتصاعد غيّر “حسام.ع” -يعمل صحفيًا- وجهته من أسواق السلاسل الغذائية الكبرى إلى محلات في وسط القاهرة قرب محطة مترو سعد زغلول. كمحاولة للحفاظ على أصناف الطعام الصحي “جبن-عسل-ألبان” التي اعتادتها أسرته.

داخل المتجر المزدحم دائمًا في العشر الأواخر من الشهر -موعد صرف رواتب قطاع كبير من الموظفين- يصطف مواطنون أمام الأرفف العامرة بالسلع الغذائية المستوردة. لكنها قريبة من انتهاء صلاحيتها (بما يعني أنه يتبقى في مدة الصلاحية شهر تقريبًا) وتباع بأسعار مناسبة.

مغامرة “الصحفي” في الحفاظ على نوعية الأطعمة المستوردة المعتادة -رغم اقتراب انتهاء صلاحيتها- أحبطها اكتشاف فساد معظم العبوات بمجرد العودة للمنزل. ما دفعه إلى تقليل الكميات والتحول لشراء منتج أقل جودة لحفظ توازن استهلاك الأسرة الشهري في الأغذية المختلفة.

أغذية منتهية الصلاحية
أغذية منتهية الصلاحية

يحكي “حسام” -الذي شارف على بلوغ سن المعاش- عن معاناته الشهرية في ظل تلاحق مواسم العام (المدارس-شهر رمضان- الأعياد). لافتًا إلى أنه تحول إلى شراء المعجنات “الأرز-المكرونة” من متاجر الجملة. باعتبارها بديل الأسرة المصرية مع ارتفاع أسعار البروتين.

وفقًا لبيان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فإن الرقم القياسي لأسعار المستهلكين على مستوى الجمهورية بلغ نحو 131.7 نقطة خلال أغسطس/آب الماضي. مُسجلًا زيادة قدرها 0.5% عن يوليو/تموز. وسجّل معدل التضخم السنوي لإجمالي الجمهورية 15.3% لشهر أغسطس/آب مقابل 6.4% خلال أغسطس/آب من العام الماضي.

المعجنات.. الكشري أصبح عزيزا

مع انقضاء الرابعة عصرًا يتحول محل “مكرونة الشيخ” قرب ميدان الجيزة إلى قبلة للسائقين والطلاب والعاملين بالمتاجر المجاورة بحسب محمد عادل -المسئول عن الصالة.

وفي إبريل/نيسان الماضي اضطر المحل إلى تقليل كمية الأطباق المختلفة. مع رفع سعر بنسبة تغطي مصروفات المادة الخام ومرتبات الصنايعية. رغم ذلك فإن إقبال المصريين على طبق “المكرونة” كبديل ثابت في ظل ارتفاع أسعار ساندوتشات الفول والكبدة ووجبات الشارع الثابتة.

متوسط سعر الطبق كان “10 جنيهات”. وفي الأشهر الأخيرة لم يكن لديه بديل سور رفعه. ليبدأ من 12 جنيهًا حتى 20 جنيهًا. وحسب “محمد” فإن الزبون لم يعد يطلب “كمالة” ولا “كبدة زيادة” على الطبق كالمعتاد.

 

لم يعد وجبة الفقراء
لم يعد وجبة الفقراء

ورغم أن المحل لا يضيف مكونات أخرى ارتفع سعرها مثل “العدس والأرز” على طبق المكرونة. غير أنه يحتفظ بطائفة مرتاديه مقارنة بمحلات الكشري التي تعاني ركودًا بسبب تقليل الكميات والاستعانة بمواد أقل جودة لمجاراة الأسواق –على حد قوله.

وارتفع سعر طبق الكشري –الذي كان حتى وقت قريب وجبة الفقراء-من 15 إلى 20 حتى 30 جنيهًا في المطاعم الشهيرة.

وحسب خبراء فرغم انخفاض أسعار السلع الغذائية عالميًا فإن تراجع سعر صرف الجنيه أمام الدولار واستمرار الحرب الأوكرانية جعل من أسعار الغذاء الهم الأول للأسرة المصرية.

وجلبت معدلات التضخم ارتفاعًا إجماليًا في أسعار السلع الغذائية الأساسية بنسبة 29.3%. حيث ارتفعت أسعار الخضراوات والفاكهة بنسبة 66.2% والزيوت 36.6% والحبوب. فيما ارتفع الخبز بنسبة 28.5% والأسماك 24.4% واللحوم والدواجن 22.3%.

“الفول” فقد الإحساس بالمسئولية

الغلاء يطول الفول
الغلاء يطول الفول

أمام أحد المقاهي بمنطقة الدقي يقضي أحمد الصعيدي -ماسح أحذية- ساعات الصباح منذ 10 سنوات. لكنه في السنوات الأخيرة لا تنتهي مقارناته بين أسعار “طبق الفول” -وجبة الإفطار الثابتة- كل شهر تقريبًا. فالفول الذي كان الناس يتندرون عليه بعبارة شعبيىة “إن خلص الفول أنا مش مسئول” ، أصبح الآن فاقدا للمسئولية تجاه زبائنه ومعتاديه ألأقدمين الذين هم معظم المصريين.

يحكي الشاب قصته مع وجبة الإفطار: “كنت باشتري طلب (طبق فول+سلطة+باذنجان+طعمية) بـ4 جنيه سنة 2015. فإذا كملت شغل لـ4 العصر باخد طبق كشري بـ5 جنيه. يبقى كدا فطاري وغدايا بـ9 جنيه مع كوباية شاي بجنيه واحد وقتها يبقى كدا كمالة العشرة جنيه في اليوم أكل وشرب”.

والآن -والحكاية لـ”أحمد”- أصبح طلب “الفول” بـ20 جنيهًا في المطعم. “وعلى العربية بـ15 جنيهًا”. بينما الـ”ساندويتش” –نصف رغيف- بـ”5 جنيهات”. ما يعني أن وجبتين خارج البيت لظروف الشغل بـ”30 جنيهًا” يوميًا.

ويضيف لـ”مصر360″: “فكرت زي باقي الناس في التعامل مع الوضع. الصبح أشتري رغيفين بـ2 جنيه وكيس فول بـ3 جنيه. وأجيب معايا طبق م البيت آكل فيه وقت شغلي في القهوة. وزيها الغدا. وأستغنى خالص عن وجبة الكشري”.

“ماسح الأحذية” الذي يعول أسرة من 3 أفراد يتجول في سوق “شارع سليمان جوهر” –الدقي- لشراء “هياكل الدجاج أو كبد وقوانص”. أو أسماك “البساريا” صغيرة الحجم. كما يقتفي أثر عروض “المكرونة والأرز” بالأسواق للشراء بأقل الأسعار. حفاظًا على وجبة بروتين للأبناء. يستطرد قائلًا: “ماقدرش أرفع الأجرة على الزبون لأن الكل بيعاني وباسيب الموضوع لتقديره”.

محاولات “حكومية” لامتصاص الصدمة

في الميادين العامة وعبر سيارات متجولة توسعت الحكومة المصرية في فتح منافذ لبيع السلع الغذائية بأسعار مدعمة لامتصاص صدمة التخضم غير المسبوق.

ورغم توفر أنواع السلع الغذائية يوميًا على رأسها “اللحوم ومنتجات الألبان والدواجن”. فإن تراجعًا في إقبال المواطنين تشهده هذه المنافذ لصالح هجوم على أسواق بقايا الدواجن واللحوم ذات الأسعار المنخفضة في المناطق الشعبية.

وشكلت الحكومة لجنة لدعم السلع الغذائية وضبط الأسواق مثلما فعلت لمواجهة أزمة “كورونا” خلال السنوات السابقة.

وطرحت الحكومة في منافذها ثلاثة أنواع من اللحوم بأسعار مختلفة في متناول المواطن “البسيط”  تبدأ من 55 جنيها لـ”اللحوم الهندية”. و85 جنيه لـ”البرازيلية” و100 جنيه لـ”السودانية”. وتتوفر الأنواع الثلاثة يوميا بالمنافذ المختلفة.

كما توفر الدواجن “كاملة” وقطعا مقسمة في أطباق بالتعاون مع وزارة الزراعة واتحاد الدواجن. نظير ارتفاع أسعارها في المتاجر العادية.

الحكومة وأزمة التضخم
الحكومة وأزمة التضخم

وحسب تصريحات سابقة لرئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي فإن المخصصات المالية الخاصة ببرامج الدعم شهدت نموًا بنسبة 69%. حيث بلغت 490 مليار جنيه في موازنة العام المالي الحالي 2022-2023. بمتوسط زيادة سنوية تبلغ نحو 33.33 مليار جنيه.

وخصصت احتياطيًا إضافيًا لمواجهة أي زيادة مرتقبة. فيما أقر البرلمان المصري اعتمادًا إضافيًا بلغ نحو 6 مليارات جنيه بالموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2021/2022. بعد زيادة أسعار السلع الاستراتيجية عالميًا. مع احتمالية اعتماد مبلغ إضافي بعد ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الجنيه وزيادة الدولار الجمركي.

يشار إلى أن الحرب الروسية-الأوكرانية تسببت في ارتفاع أسعار السلع الغذائية بما يشكله البلدان من سيطرة على نحو ثلث إنتاج العالم من القمح. و80% من إنتاج زيت عباد الشمس وخُمس صادرات الذرة.

وارتفعت أسعار القمح العالمية بنسبة 48% خلال الفترة الماضيةز بزيادة جاوزت 100 دولار لسعر الطن. والسكر بنسبة 7%. واللحوم المجمدة بنسبة 11% والدواجن بنسبة 10% -حسب تصريحات سابقة لرئيس الوزراء المصري بشأن أزمة الغذاء.