عشر سنوات مرت تقريبا على آخر مرة أحيل فيها أحد الأساقفة إلى لجنة المحاكمات الكنسية بالمجمع المقدس. وكأن اللجنة ارتبطت بعصر البابا شنودة وانتهت بوفاته رغم ما كانت تشكله من هاجس يؤرق جفون أصحاب الحل والربط في كنيسة مار مرقس.
اقرأ أيضا.. بيزنس الكنيسة القبطية.. القمص: خطر.. فلُبُس: يخدم الفقراء
محاكمات غير قانونية
يقول أنيس عيسى الباحث بعلم الاجتماع الديني بجامعة باريس إن لجنة المحاكمات الكنسية كانت جزءا من المجلس الإكليريكي أو مجلس الكهنة. وكان الأنبا بيشوي مطران كفرالشيخ وسكرتير المجمع المقدس آنذاك يرأس تلك اللجنة التي كانت تشكل أحد عناصر قوته في الكنيسة القبطية، بينما يشرف على لجنة شئون الكهنة سكرتير المجمع المقدس الحالي الأنبا دانيال. مؤكدًا أن مشكلة تلك اللجنة هي عدم وجود أي أرشيف لها ولا مضابط ولا محاضر جلسات وكأن ليس لها أي أثر.
ينقل عيسى ما ذكره الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي في عصر البابا شنودة، حين قال إن هذه المحاكمات غير قانونية. مؤكدًا: “وجود لجنة للمحاكمات أو الرقابة كيان مهم في أي مؤسسة ولكن السؤال هنا كيف تستخدم ومن يحاسبها؟”.
يشير ماركو الأمين الباحث المتخصص في تاريخ الكنيسة، إلى أن لجنة المحاكمات الكنسية كمسمى لم تعرفه الكنيسة طوال تاريخها الطويل إنما كانت تنعقد مجالس إكليروس بكل كنيسة لحل المشكلات أو الاستماع إلى من يتم اتهامه بالهرطقة أو مخالفة تعاليم وإيمان الكنيسة. كذلك الحال في الأديرة والمجتمعات الرهبانية. أضاف: “ولما أصبح انعقاد المجمع المقدس يتم بشكل أكبر وأسرع في عهد الأنبا كيرلس السادس زاد الاهتمام بحل المشكلات والرد على ما يثار. لكن أول لجنة محاكمات كنسية نسمع عنها استحدثت في عهد البابا شنودة وخاصة بعد عام 1985”.
أما كمال زاخر الكاتب المتخصص في شئون الكنيسة فيقول إن لجنة المحاكمات الكنسية ظهرت مع البابا شنودة واختفت بذهابه. كما يضيف: “ظني إنها كانت بقرار منفرد من البابا شنودة. كما استخدمت لعقاب من لا يستريح له البابا من الأساقفة والكهنة”.
قاد لجنة المحاكمات الكنسية الراحل الأنبا بيشوي الذي شغل منصب سكرتير المجمع المقدس لـ27 عاما حتى وفاة البابا شنودة عام 2012، وكان يشتهر بلقب “الرجل الحديدي” نظرا لقراراته الجريئة طوال توليه رئاسة اللجنة. أحكم الرجل الحديدي قبضته على مجريات الأمور داخل المقر البابوي عبر سلسلة من المحاكمات الكنسية العنيفة لعدد من الأساقفة والكهنة.
لجنة تصفية حسابات
يتفق مع ذلك الطرح “الأمين” الذي يرى أن المحاكمات الكنسية في عصر البابا شنودة استخدمت لتصفية الحسابات. إذ أن أكثر من 90% من قرارات تلك اللجنة تمت لهذا الغرض وبعضها لم يتم فيها الاستماع إلى الشخص المعاقب أو التحقيق معه حتى إنها توقفت تماما بعد عام 2012. لكن تم الإبقاء على حق كل إيبراشية في محاسبة وتجريد وشلح من يخطئ من الكهنة.
لم تتوقف اللجنة عند تقديم الأساقفة والكهنة لسلسلة من المحاكمات وصفت “بغير العادلة” داخل غرف المقر البابوي. لكنها بدأت في استخدام سلاح التشهير بـ”المخالفين” من وجهة نظرها، عبر مؤتمر العقيدة، الذراع الإعلامي للجنة المحاكمات الكنسية. وهو مؤتمر كانت الكنيسة تحرص على إقامته سنويا في إيبراشية الفيوم لتفنيد ما أسمته خروج عن العقيدة الأرثوذوكسية.
باباوان وطبيعة مختلفة
يلفت كمال زاخر النظر إلى أن البابا تواضروس استبدل تلك اللجنة تمامًا في عصره. إذ يؤكد: “اختلاف المنهج والطبيعة والرؤية بين البابا شنودة وبين البابا تواضروس وراء اختفاء هذه اللجنة. واستبدلها البابا الحالي بإرسال أسقف كمبعوث شخصي للحوار مع الأسقف محل الخلاف أو المتسبب في المشكلات لتنبيهه وينتهي الأمر بالتصالح أو تقديم الأسقف لاستقالته أو مقاطعته لكنيسة المركز (البطريركية)”.
أما أنيس عيسى فيرى إن البابا تواضروس شخص غير صدامي ولديه قناعة شديدة بأن الأساقفة أشقاؤه في النهاية. كما يميل للم الشمل وحل الأمور بشكل ودي دون عنف مؤسسي. كما قال: “لا أظن إن سنواته تشهد تلك المحاكمات بأي حال”. كذلك أضاف: “طبيعة البابا تواضروس متأثرة بالروحانية الديرية ولا يميل لحل الأمور بالذراع الحديدية ولا يعمل بطريقة مراكز القوى. وقبل رسامته لم يكن عضوًا في أي جماعة من جماعات الضغط وكان مهتمًا بالتعليم والطفولة”.
يعتبر عيسى أن حفاظ البابا على هدوئه أمر صعب على المدى الطويل فالأكثر تحديًا هو الحفاظ على سلام الكنيسة. مضيفًا: “البابا الحالي يحاول خلق توجها جديدا نحو السلام فيحث الآباء الأساقفة على التزاور والتعاون فمن الصعب أن يتخذ طريق العقوبات وهو ما يتفق فيه مع ماركو الأمين الذي يصف البابا الحالي بصاحب الرؤية التوافقية التي لا تميل للنزاع وفرض العقوبات”.
مستبعدون وضحايا
منذ بداية عصره نجح البابا تواضروس في إعادة بعض الأساقفة المستبعدين والمعاقبين للخدمة مرة أخرى ومن بينهم الأنبا تكلا أسقف دشنا الذي عاد لخدمته عام 2013 بعد استبعاده 11 عاما بقرار من الأنبا بيشوي. إثر مشكلة حول قطعة أرض قام ببيعها بعلم هيئة الأوقاف القبطية. حيث تدخل بعض الأساقفة وتسببوا في اختلاق أزمة بينه وبين البابا الراحل. ما أدى إلى تحديد إقامته في دير الأنبا بيشوي بقرار من المجمع المقدس، ثم قام بمغادرة الدير المحدد فيه إقامته. كان ذلك في عهد البابا الراحل شنودة الثالث، بعدما نظم رعايا إيبراشيته مظاهرات تطالب بعودته لم يستجب لها البابا شنودة. كذلك فإن الأنبا دانييل أسقف سيدني الذي تم إيقافه في عصر البابا شنودة بقرار من لجنة المحاكمات وأعاده الأنبا باخوميوس للخدمة قبل أن يوقف عن الخدمة مرة أخرى بسبب مشكلات مالية في إيبراشيته إلا إنه عاد منزوع الصلاحيات.
لم تقتصر عقوبات لجنة المحاكمات الكنسية على الأساقفة بل ضمت بعض من الكهنة كان أبرزها القمص إبراهيم عبد السيد، الذي أصدر كتبا يطالب فيها بالإصلاح الكنسي لاسيما الأمور المالية. وقرر الأنبا بيشوي إيقافه عن خدمته الكهنوتية دون تحقيق بل زاد في ذلك حتى إن البابا شنودة كان قد أصدر قرارا بعدم الصلاة عليه بعد وفاته. فظلت أسرته تتجول بجثمانه بين الكنائس تبحث عمن يكسر القرار الباباوي قبل أن يوارى جثمانه الثرى وهي عقوبة تنزل بالهراطقة مثلما روت سوسن عبد السيد ابنته.
كذلك فإن الكاهن إثناسيوس حنين كان ضمن تلك القائمة وهو الرجل الذي بدأ حياته باحثا في اللاهوت القبطي وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون. عينه البابا شنودة الثالث كاهنا ومعلما للاهوت بالكنيسة القبطية، ثم كلفه بتأسيس كنيسة مصرية في اليونان. لكن صدر قرارا بشلحه ومنعه من الخدمة من قبل الأنبا بيشوي أيضا واضطر حنين بعدها إلى الخدمة في كنيسة الروم الأرثوذكس اليونانية حتى وفاته منذ أشهر.