يجادل هذا المقال أننا ومنذ 2019 -فيما أطلق عليه احتجاجات محمد علي- بصدد استعادة للسياسة مرة أخرى في بر مصر وبشكل متصاعد. وذلك بعد بلوغ مرحلة نزع السياسة بعد 2014 منتهاها. ولكننا في الوقت نفسه وامتدادا لطبيعة السياسة التي شهدناها قبيل يناير 2011 وبعدها نشهد إعادة تعريف للسياسة من مداخل جديدة. من حيث خصائصها وفواعلها وخطابها ونوعية الأولويات فيها. وهذا لا يعني -بأي حال- أننا تجاوزنا الفجوة بين التفكير والفعل. إذ تظل القدرة على ترجمة هذه التصورات الجديدة إلى فعل سياسي محدودة لاعتبارات تخص منهج النظر إلى السياسة أصلا. بالإضافة إلى مواريثها المتعلقة بالبنى والهياكل والأشخاص.

أما لماذا كانت أحداث 2019 مهمة؟ فلأسباب عدة أهمها:

1- أعادت طرح سؤال التغيير الذي دشنته يناير ولم تقدم له إجابة حتى الآن -لا من الدولة ولا من قوى التغيير. فيناير في جوهرها تطلع شعوب المنطقة وخاصة الفئات الشابة منها -وفي مقدمتهم النساء- نحو العيش الكريم في أوطان تسودها قيم العدالة -بمعناها الواسع- والحرية. كما أن الأسباب التي أنتجت يناير لا تزال مستمرة. ولم يتم التعامل معها في أبعادها الهيكلية.

٢- جاءت هذه الأحداث مع انتهاء المرحلة الأولى من تطبيق برنامج صندوق النقد الدولي (2016-2019). ذلك البرنامج الذي طبقته الحكومة المصرية كاملا لأول مرة في تاريخها. فقد سعت الحكومات المصرية المتعاقبة منذ آواخر السبعينيات من القرن الماضي إلى الاتفاق مع الصندوق دون أن تطبق كامل وصفته في أي مرة من المرات.
٣- أعادت هذه الأحداث طرح المسألة الاجتماعية في مصر مرة أخرى. برغم سعي نظام ما بعد 2013 إلى مصادرة المسألة الاجتماعية بخطاب وطني يعلي من قيمة مصر. باعتبارها كيانا مصمتا فوق الجميع ولا تنعكس فيه مصالح الفئات الاجتماعية المختلفة.

شهدت هذه الفترة تصاعد خطاب “الحرب علي الإرهاب”‘ وذروة الاستقطاب السياسي الذي دار حول الإخوان أساسا. وأخيرا وليس آخرا دشنت في هذه المرحلة “عقيدة الأمن القومي” التي تتمحور حول الخوف من عدم الاستقرار والفوضى والتفزيع من مصير بلدان في المنطقة انزلقت إلى الحرب الأهلية.

4- ولا يحسن أن نترك هذه النقطة دون أن نشير إلى خصائص الحراك الذي جرى في 2019 وتكرر في 2020. فلم تقف خلفه أي قوة منظمة واتسم بالعفوية. وكان عماده طبقات شعبية وليس طبقة وسطى متعلمة. خرجت الناس العادية للمطالبة بحياة أفضل لها ولذويها دون أن ترفع مطالب وطنية عامة من قبيل إصلاح النظام السياسي أو الديمقراطية. كما أنها اتخذت طابعا محليا صرفا. أي اقتصرت على الاحتجاج في مناطقها ولم تسع إلى الانتقال إلى الميادين العامة كتعبير عن تحولها إلى حالة وطنية.

وهنا يحسن أن نشير إلى أن هذه الخصائص جميعا هي ما اتسم به معظم الحراك في العقد الذي سبق يناير وما تلاه. وهي الظاهرة التي أطلقت عليها بعض الدراسات “ما بعد السياسة”.

فجوات الخطاب الرسمي

تكمن استعادة السياسة الجارية في مصر الآن. حيث تظهر تناقضات الخطاب الرسمي:

1- جادلت إحدى الدراسات التي تتبعت أزمة رأسمالية الدولة المصرية بأن القومية التنموية الشعبوية لناصر (1954-1970) قد فشلت لأن مطالب الاستثمار للتنمية اصطدمت مع المطالب الاستهلاكية للشعب. فكيف يمكن أن يطلب نظام ما بعد 2013 من المصريين الوقوف مع مصر وأن يكونوا في ظهرها في وقت يسيطر عليهم الاستهلاك الشره. ودون أن يعالج التفاوتات في الفرص والدخل والثروة التي باتت ظاهرة للعيان في كل ركن من مصر. وتعدها بعض الدراسات أحد الأسباب الكامنة وراء الانتفاض على مبارك (1981-2011).

ظهور المجتمع الاستهلاكي المحلي كان بمثابة خسارة للقيم الأصلية والهوية والاستقلال ومصادمة للخطاب الوطني.

ارتبط مفهوم التنمية ما بعد الاستعمار بمفهوم سياسي آخر: الاستقلال.

ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أن التحول من التنمية إلى الربح رافقه اختفاء تدريجي للاستقلال واستبدال الانفتاح به. يدعو الانفتاح هنا إلى التواصل مع العالم. وليس العزلة عنه. وخاصة مع مركزه الرأسمالي -الغرب. يتم التعرف على الغرب في خطاب الانفتاح هذا. ليس بالدبابات والجنود والقمع ولكن بالجينز والسيارات ومكيفات الهواء والسينما.. إلخ.

2- اقترن الخطاب الوطني بمفهوم الاستقلال السياسي إبان الفترة الليبرالية (1923-1952). وأضيف إليه الاستقلال الاقتصادي والاكتفاء الذاتي وسياسة إحلال الواردات إبان الفترة الناصرية. ولكن يلاحظ أنه تم اختزال الاستقلال في النظام الحالي إلى منع التدخل الغربي في عمل مؤسسات المجتمع المدني أساسا. ففي الوقت الذي يمكن فيه قبول الدعم الخارجي من دول ومؤسسات دولية. بل وأفراد عبر مؤسسات الدولة فقط. يجري استحواذ الأجانب على الشركات المصرية أيضا.

يرتبط خطاب الاستقلال بالإمكانيات الذاتية والقدرات الوطنية. وفي حين يستند إلى أن المشكلات نتاج القوى الاستعمارية والعوامل الخارجية أساسا. فالخطاب السائد الآن يعزو مشكلة مصر إلى عوامل داخلية من قبيل أشباه الدول. وألم تعلموا أننا “فقرا أوي”؟…إلخ. وفي هذا تصادم مع الخطاب الذي يعزو الأزمة إلى قوى الشر والمؤامرة الخارجية. وفي الوقت نفسه فإن الاندماج في الاقتصاد الخارجي وتلقي تمويلاته والحصول على قروضه هو السبيل لحل مشكلات الاقتصاد.

3- كان الانفتاح الاقتصادي في السبيعنيات من القرن الماضي ملازما لتدشين التنافسية في المجال السياسي. كانت الحرية السياسية مرتبطة بالحرية الاقتصادية والسوق الحرة وبهجة الاستهلاك – فهل يمكن أن يتم الفصل بين المجالين علي غرار النموذج الصيني؛ بمعني أن نتبني اقتصاد السوق والقطاع الخاص والانفتاح علي العالم دون انفتاح سياسي؟
أظن أن مصر تفتقد المقومات الاساسية التي انتجت التجربة الصينية من حزب شيوعي قوي يدير التنافسية والصراع علي الموارد داخله، وسوق ضخم، وثورة اجتماعية استطاعت أن توفر أيدي عاملة رخيصة، بالاضافة إلي مؤسسات دولة قوية، وقوي غربية تريد أن تحتوي الاتحاد السوفيتي بتقريب الصين.
٤- اتسم الخطاب الناصري بالاتساق فالاستقلال يرتبط بالتنمية والتصنيع وإن قضي عليه الاستهلاك -كما قدمنا، أما خطاب السادات ومبارك فقد اتسم بالازدواجية أو ثنائية القطاع العام والقطاع الخاص، وليبرالية الاقتصاد مع استمرار الدعم …إلخ، أما ما نشهده الآن فهو خطاب نيوليبرالي صرف يفرض إعادة صياغة دور الدولة ووظيفتها بانتقالها من التحكم والسيطرة والهيمنة إلي دور المنظم.

وفي الوقت الذي يشهد الخطاب النيوليبرالي قوة دفع بمعاودة الاتفاق مع الصندوق. والدفع بالقطاع الخاص إلى أن يحتل على مدار السنوات الثلاث القادمة 70% من الاقتصاد الكلي -وفق ما نصت عليه وثيقة سياسة ملكية الدولة. التي يعد جزءا من متطلباتها هو إعادة تموضع مؤسسات الدولة في بعض القطاعات على حساب أخرى. بما يعنيه ضرورة بيع أصولها في القطاعات التي ستنسحب منها. إلخ. في الوقت الذي تتضافر هذه السياسات جميعا وتتناغم مع بعضها لتعميق روابط الدولة مع الرأسمالية الدولية. نجد تصاعد خطاب وطني وديني واجتماعي محافظ يعد بمثابة البنية الأساسية لاستمرار تحكم الدولة وهيمنتها على المجتمع.

ذكر لي أحد الصحفيين المتابعين للشأن الاجتماعي أن أجهزة الدولة التي يطلق عليها سيادية بأحد المحافظات قد اجتمعت مع المأذونين وعلماء الدين لمناقشة ظاهرة الطلاق باعتبارها تهديدا للأمن القومي.

نحن هنا نشهد ظاهرتين متكاملتين: اتساع لمفهوم الأمن القومي في تناقض مع خطاب النيوليبرالية. والنظر إلى الطلاق وما يجري في مجال الأسرة من إعادة لصياغة المعايير المرجعية والقيم الحاكمة لها باعتباره في قلب السياسة. فما طرأ على الأسرة المصرية بمثابة تمرد على أهم مؤسسة تنتج الضبط في المجتمع. ويمكن من خلال الدعوة إلى المحافظة على قيمها أن يضمن للنظام استمرار دعم وتأييد قطاعات جماهيرية من الأكبر سنا ترى -كما يرى النظام- في المحافظة الدينية والاجتماعية سبيلا لتحقيق الاستقرار.

5- انفتاح مؤسسات الدولة على الربح والاستهلاك والريع والرأسمالية الدولية. وخاصة الخليجية منها. مع تأكيد دورها في حماية البلاد وحفظ أمنها القومي.

ما نشهده هو انتفاء مقاومة بيروقراطية الدولة للترتيبات النيوليبرالية. فقد باتت جزءا منها لأن قطاعا معتبرا من شرائحها العليا اندمجت فيها بآليات مختلفة أبرزها إطلاق حقها في تأسيس شركات والإشراف على المناقصات وعضوية مجالس الإدارة. إلخ. هنا يحسن التذكير بأن برجوازية الدولة المصرية كانت إحدى القوى الأساسية التي حركت الانفتاح الساداتي في السبيعنيات من القرن الماضي. كما يحسن الإشارة إلى أن الستة ملايين الذين لا يزالون يعملون في جهاز الدولة حتى الآن ولا يدرون مصيرهم في ظل “الإصلاحات النيوليبرالية” بالتأكيد يستشعرون مزيدا من القلق. فهذه التغييرات تصاحبها دائمًا معدلات بطالة عالية ونظام ضمان اجتماعي غير ملائم. كما يمكن أن نشير إلى أن عمليات الدمج القائمة لبرجوازية الدولة -أي الشريحة العليا منها وعدد محدود من شبكات امتيازها- من شأنه أن يثير حفيظة من لم يتم إدماجه بما سيكون له تأثير في فاعلية هذه المؤسسات في أداء وظائفها وأدوارها الأساسية.

بشّرني ضابط الأمن الوطني الذي التقيته عند خروجي من السجن أول إبريل 2019 بقدرة النظام على اتخاذ قرارات صعبة مثل تحرير سعر صرف الجنيه. فأجابته بأن ذلك نهاية لدولة يوليو 52. ولكننا بصدد موقف شديد التعقيد: احتفاء بالترتيبات النيوليبرالية. ولكنه وباعتباره ينتمي للطبقة الوسطى سيعاني من هذه الإجراءات. وفي الأخير فمطلوب منه باعتبار مهمته حفظ “الأمن الوطني” أن يواجه الاضطرابات الاجتماعية التي تترتب على هذه السياسات -كما جرى في سبتمبر من العام نفسه.

6- وهنا يحسن أن نتقدم خطوة بالتحليل لنبرز الفاعلين السياسيين الجدد والمجالات أو المناطق التي سيبرز فيها الفعل السياسي. والأهم فحيث تبرز تناقضات المصالح بينهم في هذه المجالات تتصاعد السياسة.

سبق وأن ناقشت في مقال سابق عارضتُ به مقالة الصديق أنور الهواري ضرورة التمييز بين النظام والدولة في مصر. ففي التناقضات بينهما تصنع السياسة. وكان مثلها البارز يناير 2011. أما الآن فنحن إزاء قطاع خاص كبير الحجم فيه يستعيد مكانته في الاقتصاد بعد أن تحددت إسهاماته من خلال قيادة المؤسسة العسكرية وإدارتها للمشاريع الكبرى. وهو في عودته يتصاعد دوره في صنع السياسات الاقتصادية خاصة أن هذه السياسات تأخذ قوة دفع من روشتة صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية. والأخيرة باتت أحد الفواعل السياسية الهامة في مصر خاصة في المسائل الاقتصادية.

ويكفي أن نشير إلى أن هذه المؤسسات هي التي رسمت ومولت برامج الحماية الاجتماعية التي حولت الدعم إلى الاستهداف -أي توجيهها نحو فئات محددة.

جزء من خطاب عماد أديب -بغض النظر عن تفاهته- يقول بصراحة إن هناك أصحاب مصلحة عديدين باتوا مهتمين بالسياسة في مصر ويسهمون في تشكيلها. وأنا هنا لا أقدمه بالمعنى التآمري ولكنه اعتراف بالتعقيد والتركيب الذي بات يتسم به العالم الآن. وتعبير عن ضرورة تجديد تفكيرنا في المجال السياسي. فقد تحولت خصائصه وتغيرت قواعده واختلفت الفواعل فيه ناهيك بالمجالات والموضوعات الجديدة التي بات يظهر فيها بقوة. يكفي أن أشير إلى تغير التكنولوجيا وتأثيرها في العمالة والتغير المناخي وتداعياته على الاستقرار وتغير خرائط الطاقة الجيوسياسية وموقع البلدان المختلفة فيها.

7- وأخيرا وليس آخرا، فقد انتقل الخطاب الرسمي للنظام من محورية الرئيس في تحديد أولويات المشروعات الكبرى -وبالتالي عدم أهمية دراسات الجدوى- إلى أن أصبح في الصورة الرئيس والتكنوقراط أو بيروقراطية الدولة المتمثلة في الحكومة والمكاتب الاستشارية. وبالتالي أهمية الدراسات الفنية للمشروعات قبل تنفيذها.

هذا الخطاب بات محل جدل ونقاش. ففي ظروف الأزمة الاقتصادية التي يستشعرها قطاع عريض من المصريين طرح سؤال في قلب السياسة ويغير خصائصها أيضا وهو: “ما أولويات الإنفاق في السياسات العامة؟”.

وهنا نتحول من السياسة إلى السياسات -وهي إحدى السمات الهامة للفعل السياسي في المستقبل.

لكن الملفت أيضا أن خطاب التقنيين أو الفنيين يجري مساءلته أيضا من مداخل فنية وإن كانت في قلب السياسة بمعناها الجديد بحكم أنه تم صناعته بعيدا عن الشفافية والمساءلة والحوكمة الرشيدة.

أمثلة عديدة يمكن أن نسوقها أبرزها:

الخطأ في الاعتماد على الأموال الساخنة -كما صرح وزير المالية. مراجعة مشروع تبطين الترع من وزير الري الجديد لأن طريقة تنفيذه والمواد المستخدمة فيه تؤدي إلى مزيد من البخر. فائض الكهرباء وما استخدم في توفيره من استثمارات كبيرة.

تتعدد الأمثلة ولكن ما يجمعها هو حديث في الجوانب الفنية التي تستدعي السياسة. ويدعم هذا خطاب الرئيس الذي بات يجادل مع الخطاب المعارض من المدخل نفسه. أي افتقاد الأخير وعدم إلمامه بالتقني والفني.

لقد كانت هناك رغبة أن يحل التكنوقراط مكان السياسي. ولكن فشل التكنوقراط استدعى السياسة دون الفاعل السياسي الذي زادته السنون. وهنا على وهن لافتقاده منهج نظر جديد إلى ما نذر نفسه للعمل فيه. ناهيك بضعف تاريخي في بنيته وهياكله.

أختم هذا المقال على أمل أن يتبعه ثان يتحدث عن مظاهر استرداد السياسة من جديد. ومنازعاتها للسياسات التي تستهدف “نزع السياسة” فأقول: نحن عالقون في إدراكاتنا القديمة التي لم تعد موجودة الآن إلا في ذهن أصحابها. والتي تجاوزها الواقع بمسافات كبيرة. نعيد اختراع أشياء لم تعد موجودة: الدولة المركزية المهيمنة ذات التخطيط المركزي. وأحزاب سياسية بلا أي جهد لإعادة التفكير فيما جرى وما سيأتي. وتوهم بأن الأيديولوجيا لا تزال مسيطرة ولم يتركها الزمن خلفه لتنشأ استقطابات جديدة. وتصور لانقسامات طبقية لم يعد المجتمع موزعا عليها. ومجتمع عالق بين كل هذا. ولا يدري ماذا يفعل بلقمة عيشه. وما زلنا نتكلم عن المصالحة مع الإخوان التي تشرذمت. ولا نتحدث عن المصالحة المجتمعية الشاملة التي تعني أول ما تعني أننا لم نعد كما كنا مجتمعا ودولة. ولا نعترف بالتعددية التي وصلت بنا إلى التشظي. ولكنه تشظٍّ نتج عن عدم اعترافنا به لا نتيجة له. وواقع محلي في الريف والصعيد والمحافظات يعاني من عدم المساواة التنموية وتضعف إسهاماته في الناتج المحلي إلا بنذر يسير.