يندهش الكثيرون من صرامة الدولة التي تصل إلى حد القسوة تجاه معارضين سياسيين أو نقابيين مستقلين أو مثقفين وكتاب يغردون خارج السرب أو مدافعين عن دولة القانون واحترام أحكام القضاء، وكيف أن البعض يحاسب حساب الملكين على هفوة أو كلمة، في حين لا تمتد هذه الصرامة إلى المجال العام والشوارع العامة وكل أنماط الحياة في مصر حيث تعاني من تسيب وفوضى واستباحة وغياب لأي قواعد قانونية وبصورة غير مسبوقة.
في مصر لا توجد إشارة مرور تحترم إلا نادرا، ولا توجد محطات للباصات إلا موقف البداية والنهاية، أما الميكروباص فحدث ولا حرج فلا توجد محطات أصلا إنما الوقوف والسير فجائي وحسب مزاج السائق ودون أي قواعد، ولا يمكن مشاهدة “السلوك الميكروباصي” من غشم ومخاطر مميتة وعشوائية في القيادة واستهانة بأرواح الركاب إلا في مصر وليس في بلد آخر.
اقرأ أيضا.. فوق السلطة: بين بريطانيا وإيران الفارق الكبير
في مصر فوضى السير هي مع سبق الإصرار والترصد لأنها لا تعتبر من الأصل أن الطريق من أجل الناس والبشر، فقد اخترعت الحكومة نظام مروري غير موجود في أي مكان في العالم، وانتشر كالسرطان في شوارعنا ومياديننا ويسمى “الدوران الحر”، ويقوم على إلغاء التقاطعات والميادين، ونقل دوران السيارات كيلو مترات للأمام كبديل لاستخدام إشارات المرور، حتى يسعدك الحظ لتجد دوران يرجعك كيلومترات أخرى للخلف لتصل لمقصدك.
لقد نسى المسئولون أو تناسوا أن في البلد مشاة يستحقون إشارات مرور ومكان آمن للعبور، كما يجري في كل بلاد الدنيا إنما اختاروا “منظومة الفوضى” تحت مسمى “الدوران الحر” الذي يذكرك بالموظف الفاشل الذي يرحل المشكلات للموظف التالي ولا يرغب في مواجهتها، فمواجهة مشكلات المرور ستكون بإشارة مرور وبأماكن آمنة لعبور المشاة وبجهاز أمني كفء ومهني لتنفيذ القانون هكذا تقول تجارب كل البلاد المتقدمة أو الراغبة في التقدم وليس تجارب الفوضى والعشوائية.
فوضى الشوارع والميكروباص تكاثرت لتنجب الـ”توك توك” وهي وسيلة مواصلات يمكن قبولها لو قنن وضعها ورخصتها الحكومة وأصبح للسائق “فيش وتشبيه” ورخصة، وهو يمثل فرصة لجلب بعض المال لخزينة الدولة، ولكن المدهش أن الحكومة التي تحركت وتفننت في فرض ضرائب مختلفة الأشكال والأنواع لم تفعلها مع الـ”توك توك” رغم أن عددهم اقترب من 6 ملايين “توك توك”.
وتبدو هذه الصورة غريبة عن المشهد الكلي، وكأن هناك من قرر أن يتسامح مع “التكاتك” لأنها مصدر للفوضى والعشوائية والشجار اليومي، ويقوم بعكس التوجهات السائدة في الضرائب والجباية!!
مشهد آخر هو التصالح مع مخالفات البناء، فقد كان هدفه جمع الأموال لخزينة الدولة، وهو في ذاته ليس عيبا، ولكن العيب إنه لم يتواكب معه أي إصلاح لمؤسسات الدولة الشريكة في المخالفات سواء كانت أجهزة إدارية أو محليات ولذا لم يتغير الحال وبقيت فوضى البناء ومخالفات الأحياء نمط مستمر لم يتغير.
مصر تكاد تكون البلد الوحيد في العالم التي لا تغلق فيها محلات الملابس والأحذية وورش الصيانة والتصليح وغيرها في مواعيد محددة (غير معني بها المطاعم ومحلات المأكولات)، ويبدوا الأمر غريبا أن تجد كثير من المحلات تستمر في العمل إلى الفجر وتستهلك كهرباء وتفتح بعد الظهر، وأصبحت فكرة الالتزام بمواعيد للإغلاق غير مقبولة من قطاع واسع من الشعب.
واللافت هنا أن الحكومة استجابت لضغوط التجار من أجل الفوضى وعدم الالتزام بأي مواعيد تحت حجج مختلفة من نوع: “خلونا نبيع” و”نأكل عيش” في حين أنها لا تستجيب لأي ضغوط أخرى من أجل تحقيق مطالب فئوية في مصنع أو شركة، أو مطالب إصلاحية في مجالات الصحة والتعليم والخدمات العامة، أو شكاوى المستثمرين والـ11 ألف مصنع المغلق (راجع التقرير الهام في مصر 360 حول هذا الموضوع).
11 ألف مصنع متوقفة عن العمل.. نقص الدولار سبب رئيسي والحل ليس قريبا
يبدو أن هناك تواطؤ حكومي مع الفوضى والتسيب وغياب المحاسبة، هذا التواطؤ يرجع في جانب منه إلى عدم وجود قناعة كاملة بأن الخروج من أزماتنا سيكون بدولة قانون عادلة، وفي جانب آخر فإن هناك ثمن لمواجهة الفوضى والتسيب لا ترغب الحكومة في دفعها، فلو فرضت مواعيد على المحلات فإنك ستغضب البعض ممن اعتادوا الفوضى والتسيب، وإذا قمت بترخيص “التكاتك” فهذا سيعني بداية محاسبة المخالفين الذين اعتادوا ألا يحاسبوا، وهو سيعني غضب بعضهم، كما أن تنظيم الشوارع ومواجهه المخالفين يتطلب قانون عادل يطبق على الجميع بصرف النظر عن رتبته، وهو ما سيعني غضب من تعود على المخافة من الحرافيش أو من أهل الحظوة.
إن مواجهة الفوضى والتسيب والاستباحة وغياب المحاسبة سيغضب البعض ممن تعودوا عليها ومارسوها، وأن أي نظام سياسي سيتحمل غضب هؤلاء يحتاج إلى شروط أهمها امتلاكه توافق ودعم سياسي، ونجاحه في دمج القوى السياسية والنقابية والمجتمعية المؤيدة والمعارضة داخل إطار الشرعية الدستورية والقانونية بما يعني امتلاك ظهير شعبي وسياسي داعم للمسار الشرعي والإصلاحي عندها فقط يمكنه أن يقدم بقلب جامد على مواجهة الفوضى والتسيب والاستباحة في الشارع وفي كل مجالات الحياة.