كنت لا أزال أعاني من أثار الـ”jet lag”، أو “اضطراب الرحلات الجوية الطويلة” الذي يسمى أيضا “تلكؤ النفاثة”، بعد أن قضيت حوالي 24 ساعة في السفر من القاهرة إلى ولاية آيوا الأمريكية للمشاركة في “البرنامج الدولي للكتابة”، قاطعا خلال ذلك عدة مناطق زمنية على خارطة العالم، وصولا إلى فارق توقيت يبلغ 7 ساعات بين القاهرة وآيوا سيتي.

يمكن أن يستمر “تلكؤ النفاثة” لعدة أيام وأحيانا أكثر، وهو لا يظهر فجأة، بل بعد يوم أو يومين من الوصول، إذ يمتلك جسمك ساعته الداخلية الخاصة التي تخبر جسمك متى تبقى مستيقظا ومتى تنام. ويحدث اضطراب الرحلات الجوية الطويلة لأن ساعة جسمك تظل متزامنة مع المنطقة الزمنية الأصلية بدلا من المنطقة الزمنية التي سافرت إليها.

اقرأ أيضا.. إنقاذ الأفلام في بلد السينما (رسالة آيوا)

وكلما اجتزت مناطق زمنية أكثر، زادت احتمالية تعرضك لاضطراب الرحلات الجوية الطويلة. ويمكن أن يسبب اضطراب الرحلات الجوية الطويلة الشعور بالتعب أثناء النهار، والشعور بالتوعك، وصعوبة البقاء يقظًا، ومشاكل في الجهاز الهضمي”.

هكذا كانت أول المرات التي أصاب فيها باضطراب الـ”jet lag”، ليس فقط لأنها أولى رحلاتي الطويلة إلى “العالم الجديد”، ولكن لأن الطائرة لم تتجه من القاهرة غربا مباشرة عبر المحيط الأطلسي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بل قضت متطلبات الحجز، أن تتجه طائرتي أولا تجاه الشرق إلى اسطنبول، ومرة أخرى بدلا من أن تكمل طريقها غربا عبر المحيط الهادي إلى الولايات المتحدة، عادت واتجهت غربا فوق قارة أوروبا وصولا إلى ولاية شيكاغو، ومنها إلى ولاية آيوا. هكذا عبرت عدة مناطق زمنية، مستقلا ثلاث طائرات، في مدة زمنية قصيرة، وهو ما يسبب بالتعريف اضطراب الرحلات الجوية الطويلة.

لكن هذا ليس كل شيء، ففي زمن الإنترنت والفيسبوك وتويتر، لا تبقى ساعتك البيولوجية وحدها متعلقة بمنطقتك الزمنية الأصلية، بل تبقى أنت نفسك – على المستوى الواعي أيضا – متعلقا بـ”زمنك الأصلي”، لأنك تتابع أهلك وأصدقائك طوال الوقت، إذ يستيقظون في وقت نومك، وينامون في وقت استيقاظك، ترتفع ذروة النقاشات والجدل والتهاني و”التريند” في أوقات هي بالنسبة لك ساعات النعاس، والعكس صحيح، فيبقيك ذلك في كثير من الأحوال مستيقظا رغما عنك، تعاني عسر النوم.

أما لو كنت من محبي متابعة الأحداث التي تجري على الهواء، كمباريات كرة القدم، فإنك تجد نفسك منفعلا تتابع المباراة في السادسة صباحا أو الخامسة فجرا أو على الأكثر في الثانية عصرا، هذا إن انتبهت لتوقيت المباراة حسب منطقتك الزمنية في السفر، إذ كثيرا ما تكون في انتظار مباراة لتكتشف أنها أجريت بالفعل منذ ساعات، وقد تكون في انتظارها اليوم فتجد أنها أجريت أمس، خاصة عندما تكون في الغرب لأن الأحداث في الشرق –بطبيعة الحالة وحركة الأرض حول الشمس- تجري أولا، إنهم هناك في الشرق، ومصر من بينهم، يقعون في “المستقبل” بالنسبة إليك وأنت في الغرب، على حد تعبير صديقي الشاعر الفلسطيني/ السوري/ السويدي غياث المدهون، الذي يشارك بدوره في برنامج الكتابة بآيوا، ولفتني تعبير “المستقبل” ذلك، ودفعني إلى التفكير طويلا فيه.

يعاني المسافرون لمسافات طويلة من ما يعرف بتلكؤ النفاثة

يقع “أهل الشرق” في المستقبل بالنسبة إلى الغرب بالمعنى الحرفي، فإذا استيقظت يوم الخميس وأجريت اتصالا بأحدهم في مصر قبل أن تذهب إلى عملك، ستجد أن الشخص الذي تتصل به كان قد أنهى يوم عمله –يوم الخميس نفسه– وعاد إلى البيت بالفعل، بينما لم تبدأ أنت يومك بعد، وإذا نهضت متحمسا يوم الأربعاء انتظارا لمباراة الأهلي والزمالك المرتقبة، ستكتشف إنها أجريت بالفعل الليلة السابقة التي كانت الأربعاء في مصر، ستفتح فيسبوك لتجد أصدقائك يتناقشون حول نتيجة المباراة – أو يحفّلون على بعضهم البعض- بينما أنت كنت لا تزال في انتظار بدءها. بالطبع، يبدو هذا الكلام بديهيا للغاية لمعتادي السفر، لكنه مسألة أخرى حين تعيشه بنفسك، وهو لا يتعلق المرة الأولى أو الثانية للسفر عبر المناطق الزمنية، إذ يبدأ جسمك بعد قليل في ضبط ساعته البيولوجية حسب المنطقة التي أصبحت تقيم فيها، ولهذا فإن الـ”jet lag” يتكرر كل مرة كأنها المرة الأولى.

لكن فكرة غريبة خطرت لي حين سمعت تعبير “غياث” عن المستقبل، إذ لا يمكن تجاهل المفارقة الكامنة في تلك الحقيقة، حقيقة أن أهلنا في الشرق –الأدنى– يبدأون يومهم منذ الأزل قبل أهل الغرب بساعات طويلة، ورغم ذلك التقدم في الزمن، ورغم ذلك التبكير في بدء اليوم، إلا أنهم يتراجعون ويتراجعون، كأن الزمن يصلهم متأخرا، كأن تلك البقعة في الشرق الأقرب –لأن الشرق الأقصى ليس كذلك– توقف لديها الزمن بغض النظر عن مكان عقارب الساعات، يبدأ الزمن شرقا ويتجه غربا بفارق ساعات، ومع ذلك فإنك إذا اتجهت غربا تشعر أنك انتقلت مئات السنين إلى الأمام، من أبسط التفاصيل كالرصيف الآدمي إلى أعقدها كمعامل البيولوجيا وأودية التكنولوجيا وحكم القانون. وبالعكس إذا عدت من الغرب إلى الشرق، ورغم أنك تحركت سبع ساعات في المستقبل كما تصفه الساعة، فإنك تجد أقواما لازالت نسبة معتبرة منهم يناقشون حتى مسألة كروية الأرض، يؤمنون بالخرافات وينكرون الحقائق، كأنهم لا يهدرون فحسب فارق الساعات السبع كل يوم، بل يصممون على عدم الانتقال مطلقا إلى المستقبل.