في استمرار احتجاز الإعلاميتين هالة فهمي وصفاء الكوربيجي مؤشر سيء وتشكيك واضح في كل دعوات الانفتاح السياسي المقبل، أو المجال العام المفتوح.
فلا يمكن تصديق أي ادعاءات عن حريات سياسية أو إعلامية بينما احتجاز الزميلتين لا ينتهي منذ عدة أشهر، وليس هناك ما يشير إلى أن محنة سجنهما في طريقها للزوال.
ليس لهالة ولا لصفاء انتماء سياسي لأي حزب ولا تيار، هذه حقيقة مؤكدة يعلمها القاصي والداني، رغم أن الانتماء للأحزاب السياسية حق قانوني ودستوري، وليس فيه ما يشين صاحبه أو يعرضه للحبس، ومصر بلد يعرف الحياة الحزبية منذ عشرات السنين، حتى لو كانت حياة حزبية مقيدة أو منقوصة.
اقرأ أيضا.. أرشيف الصحافة يحكي أزمتها
صفاء الكوربيجي وهالة فهمي إعلاميتان مصريتان، لم ترتكبا جريمة، ولا اشتركتا فيما يهدد أمن البلد، فقط انتقدتا بعض سياسات السلطة الحالية، وطالبتا بالمساواة فيما يخص ظروف العمل داخل مبنى الإذاعة والتلفزيون، وأعلنتا بوضوح رفضهما لكل الخطط الهادفة إلى بيع مبنى ماسبيرو أو تصفية العاملين فيه وإحالتهم إلى المعاش أو إلى أعمال أخرى أيهما أقرب، وهي كلها أمور لا تدعو للحبس الاحتياطي المطول، ولا للعقاب القانوني أياً كانت طبيعته.
بكل حساب قانوني ودستوري فإن ما فعلته هالة وصفاء لا يخالف القانون، بل إنه يصب بشكل مباشر في خانة حقهما الطبيعي في حرية الرأي والتعبير والاحتجاج السلمي، وكلها حقوق يحميها الدستور ويؤكد عليها ولا يمنعها عن المواطنين بأي شكل.
هالة فهمي هي ابنة التلفزيون المصري، بدأت عملها فيه في منتصف الثمانينيات، وقدمت على شاشته عددا من البرامج المشهورة مثل برنامج “الضمير” والذي اختارت شعاره في كل فيديوهاتها التي تنتقد السلطة الحالية: “خلي الضمير صاحي”.
على مدار سنوات عملها المهني والإعلامي اختارت هالة طريق الاستقلال، فلم تتورط في تبعية لأي سلطة أو حزب أو تيار، ودفعت ضريبة استقلالها راضية، فقد انتقدت نظام الرئيس السابق حسني مبارك والفساد الذي انتشر في المجتمع وقتها بعنف، ودفعت ضريبة هذا الانتقاد من عملها، وأوقف التلفزيون برنامجها الشهير، وتعرضت مرات عديدة للإحالة إلى التحقيق، ولكنها لم تتراجع ولم تفقد استقلاليتها، بل تمسكت بكل قناعاتها المبدئية حتى كانت الفرصة للتعبير عن موقفها من نظام مبارك بشكل أوضح عبر مشاركتها الفعالة والواضحة في ثورة 25 يناير 2022، وقتها أعلنت هالة دعمها للثورة ومشاركتها ملايين المصريين للتظاهر ضد نظام مبارك حتى سقط.
ولأنها اختارت دائما طريق الاستقلال، ورغم مشاركتها في الثورة حتى سقوط مبارك فقد رأت هالة فهمي أن حكم الرئيس الراحل محمد مرسي وجماعة الإخوان ليس هو المعبر عن أحلامها بعد الثورة، لذلك فقد واصلت التمسك باستقلالها عبر الهجوم الحاد على حكم الإخوان المسلمين، وظلت على رفضها لحكم الدكتور مرسي حتى رحل في عام 2013.
وعلى نفس الدرب -الاستقلال- كانت هالة فهمي على خلاف حاد مع حكم السلطة الحالية، ورغم اعتقادها في بداية حكم رئيس الجمهورية الحالي أن تغييرا يمكن أن يحدث، فقد اكتشفت أن أحلامها في حكم مدني ديمقراطي لم تتحقق أيضا، لذلك واصلت رفضها لكل ما لا يقبله ضميرها “الصاحي”، وانتقدت سياسات تراها لا تعبر عن أحلام المصريين، وفي القلب منهم أهل ماسبيرو الذين حملت لواء الدفاع عنهم وعن حقوقهم، وهنا كان الخلاف الذي انتهى بالإعلامية الشجاعة إلى خانة سجناء الرأي، الذين يستحقون الحرية بلا شك، فليس في إصرار إعلامية مخلصة على التمسك باستقلالها وضميرها ما يدعو لحبسها وتقييد حريتها لشهور أبدا.
صفاء الكوربيجي صحفية في مجلة الإذاعة والتفزيون، وعضو نقابة الصحفيين، وهي صحفية كما زميلتها هالة فهمي، حاولت دائما أن تحافظ على استقلالها وقدرتها على التعبير عن رأيها في السياسات العامة، فلم تكن تابعة أبدا لا للسلطة الحالية ولا لأي حزب أو تيار، فقط كان انتماؤها لمهنتها كصحفية محترفة، ثم كان انتماؤها الثاني لحقها الذي لم تفرط فيه أبدا في التعبير والكتابة بحرية وإعلان كل ما تراه بضميرها أنه يعبر عن الحق والحقيقة.
مع تفجر أزمة “ماسبيرو” التي بدأت بسبب تأخر الرواتب والعلاوات وغيرها من حقوق اجتماعية لموظفي المبنى الشهير، برزت صفاء الكوربيجي بشجاعتها كواحدة من المدافعات بحق عن زملائها وحقهم في معيشة كريمة.
خرجت صفاء عبر كتاباتها وفيديوهاتها تنتقد ما تراها سياسات خاطئة، وترفض بحدة كل ما تراه لا يعبر عن أحلامها في واقع مهني أفضل ووطن أكثر عدلا وحرية، فعلت كل هذا وهي لا تتبنى أچندة أحد، ولا تنحاز أو تتبع لأي جهة أو حزب، فقط إنحازت لضميرها وأحلامها، وتمسكت بحقها القانوني والدستوري في التعبير بحرية، وحتى لو رأى البعض أن انتقادها كان حادا، فالقانون لا يعاقب على حدة النقد ما دام لا يبغي غير الصالح العام، وهكذا فعلت صفاء، وهكذا آمنت وعبرت عن قناعاتها النبيلة، وارتضت أن تدفع ثمنا غاليا من حريتها.
لا هالة ولا صفاء تستحقان السجن لأشهر، فكل ما آمنا به هو حقهما الطبيعي والقانوني في أن يرفضا ويحتجا متسلحيّن بالسلمية، ومعبرين بصدق عن أحلامهما النبيلة لمهنتهما ولوطنهما، وهي أحلام تستحق التكريم لا الحبس، فالاهتمام بالوطن وأزماته وبالناس وحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية هو تعبير عن وعي من الطبيعي أن يتسلح به حملة الدفاع عن الحقيقة، الذين هم ضمير الشعب وصوته في مواجهة الحكام والمسئولين.
أحلم كما يحلم كل المخلصين في هذا البلد بإغلاق ملف سجناء الرأي بشكل كامل، فالرأي مهما كان حادا، ليس عقابه السجن وتقييد الحرية، وآمل أن تنتهي قريبا جدا محنة الزميلتين صفاء الكوربيجي وهالة فهمي، وأن تعود إليهما حريتهما المستحقة بلا تباطؤ، فهالة وصفاء يستحقان الحرية بلا شك.