بعد أكثر من 11 عاما على اندلاع الأزمة السورية، وما تخللها من حرب أهلية راح ضحيتها نحو نصف مليون إنسان، وتحول بسببها 11 مليون سوري للاجئين في مختلف دول العالم، يشهد ملف سوريا حاليا زخما كبيرا نابعا من تحولات كبرى في مواقف اللاعبين الرئيسيين في المشهد الدولي والإقليمي. قد يقود إلى تسوية ليس للأزمة السورية فقط ولكن ربما تطال أزمات أخرى تتقاطع مع مصالح القوى الرئيسية الفاعلة.
اقرأ أيضا.. التخلص من العقال “والي الشام”.. رسائل أمريكية لداعش والخليج قبل زيارة بايدن
“أستانا” توافق واختلاف
يسعى تحالف مجموعة أستانا الذي يضم كل من روسيا وتركيا وإيران إلى تحقيق تسوية للأزمة السورية تكون مواتية لمصالحهم، رغم اختلاف الرؤى بين الدول الثلاث لشكل وطبيعة الحل.
فبينما تشترك كل من طهران وأنقرة وموسكو بانخراطهم عسكريا عبر قواتهم في الصراع على السلطة في سوريا. يمكن التعرف ببساطة على الاختلافات الكبيرة الجوهرية بينهم. فإيران وروسيا هما الركيزة الرئيسية لنظام الأسد في دمشق. بينما تهدف سياسة تركيا “الرسمية” إلى الإطاحة برئيس النظام السوري بشار الأسد وتغيير السلطة.
في الخامس من أغسطس/آب الماضي أمضى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أربع ساعات من التفاوض في منتجع سوتشي في البحر الأسود مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين. التفاوض كان من أجل الحصول على الضوء الأخضر لعملية عسكرية في شمال سوريا أعلنها هو في مايو/آيار الماضي. إلا أن مساعيه باءت بالفشل وهو ما بدا واضحا في عدم إصدار بيان رسمي بشأن المباحثات بين الرئيسين. الأمر نفسه تكرر مع إيران التي فشل أردوغان في إقناعها بتمرير تلك العملية.
فشل أردوغان في انتزاع الضوء الأخضر للعملية العسكرية جعل السياسية التركية تتأرجح خلال الأيام الأخيرة بين الرغبة في التقدم العسكري في شمال سوريا، والتقارب مع بشار الأسد. خاصة أن كليهما يحقق الهدف الرئيسي في تلك المرحلة، وهو التحضر للانتخابات ومواجهة دعاية المعارضة. فيما يضمن الحل الخاص بإعلان التقارب مع الأسد استمرار الدعم الاقتصادي الروسي لأنقرة، إلى جانب التخفف من ملف اللاجئين قبل الذهاب للانتخابات.
أهداف تركيا
وتتلخص أهداف المساعي التركية للتقارب مع النظام السوري في محورين رئيسيين هما دعم الاقتصاد، من خلال تمتين العلاقات مع روسيا وتصفير عداد الأزمات. بالإضافة إلى ملف اللاجئين. إذ أنه لا يمكن فصل التحولات الأخيرة في السياسة التركية، خاصة على صعيد الأزمة السورية عن الوضع الداخلي بشقيه السياسي، المتمثل في دخول تركيا مرحلة الاستعداد للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في 18 يونيو/حزيران 2023. والضغوط التي يتعرض لها أردوغان وحكومته في الملف السوري وتحديدا فيما يتعلق بحل مشكلة اللاجئين السوريين الذين تتصاعد موجات الرفض الداخلي لبقائهم. والاقتصادي المتمثل في أزمة خانقة كان حزب العدالة والتنمية الحاكم وصل إلى السلطة بسبب أزمة مثيلة لها شهدتها البلاد في عام 2001. وخشيته من أن يرحل بسبب غياب الحلول للأزمة. حيث إن اتفاقا مع نظام الأزم الأسد بمباركة روسية وترحيب إيراني، سيضمن لأنقرة فتح المناطق الحدودية أمام التوطين الجماعي للاجئين السوريين، في وقت تجري الاستعدادات التركية للبدء في مرحلة أولى لتوطين هؤلاء اللاجئين في المناطق الحدودية السورية الشمالية وتشمل 64000 لاجئ.
وعلى الصعيد الاقتصادي، تشير البيانات الرسمية إلى أن الاقتصاد التركي تلقى دعما من روسيا هذا الصيف، من خلال التدفقات النقدية التي بلغت نحو 6.7 مليارات دولار. كما تنوعت بين استثمارات مباشرة وغير مباشرة، تركزت في القطاع العقاري ثم الطاقة. بالإضافة إلى نقل بعض المصانع الروسية وخطوط الإنتاج، بخلاف الزيادة الكبيرة في عدد السياح الروس. في حين تضاعف صافي احتياطات النقد الأجنبي لدى البنك المركزي 3 مرات تقريبا منذ أوائل يوليو/تموز الماضي.
تلك المساهمة الروسية التي جاءت على وقع التفاهمات السياسية بين البلدين، أدت إلى إنعاش الاقتصاد التركي وصعود مؤشر بورصة إسطنبول بشكل كبير.
وبمحازاة التقديرات التركية للازمة السورية، توظف إيران ورقة دمشق، للتحكم في إيقاع مفاوضات عودة الولايات المتحدة الأمريكية للاتفاق النووي، والتي يتوقف عليها إعادة اندماج طهران مع محيطها.
تحول خليجي
محمد بن زايد والأسد في أبو ظبيبعد عقد كامل من الغياب، يقترب الرئيس السوري “بشار الأسد” من العودة للحظيرة العربية التي خرج منها عقب اندلاع الثورة السورية في عام 2011. ومؤخرا بات هناك ثمة أطراف أخرى بجانب الروس والإيرانيين يصرون على بقاء “الأسد” في السلطة. وتحديدا بعض الدول العربية التي انضم اليها دول خليجية دعمت المعارضة في المراحل الأولى إبان فترة الربيع العربي.
ومنذ مطلع العام الجاري، تسارعت الخطى الخليجية تجاه سوريا، وهي التحركات التي وصلت ذروتها بزيارة بشار الأسد إلى الإمارات لتكون أول زيارة لدولة عربية منذ اندلاع الثورة الثورية. الخطوة سبقتها خطوات أخرى على نفس الصعيد. ففي مايو/آيار الماضي، التقى رئيس المخابرات السعودية اللواء خالد الحميدان مع نظيره في دمشق علي المملوك. ووفق تسريبات صاحبت الزيارة فإن الحميدان التقى مع “الأسد” أيضا.
التحولات في مواقف بعض دول الخليج وعلى رأسها الإمارات والسعودية تجاه النظام السوري جاءت مدفوعة بمجموعة من الأسباب التي ارتبطت بشكل وثيق بالتطورات التي تشهدها المنطقة.
وخلص صناع القرار في كل من السعودية والإمارات، إلى تقييم مفاده بأن الحرب في سوريا انتهت. كما أن دمشق بحاجة إلى إعادة دمجها في المنطقة لمنع أي سيناريو يجعلها دولة فاشلة أو يتسبب في تداعيات أخرى مزعزعة للاستقرار.
واكتسب هذا التقييم زخما متزايدا منذ التدخل العسكري الروسي الحاسم في عام 2015.
وفيما يتشارك المسئولون السعوديون والإماراتيون في المخاوف بشأن نفوذ إيران المتزايد في سوريا. تأتي تحركاتهم الأخيرة على أمل أن إعادة التواصل مع نظام “الأسد” يمكن أن يقنع سوريا بتقليل اعتمادها على طهران.
“في المقابل يمكن تفسير الجرأة الإماراتية في الانفتاح الكبير على نظام الأسد، في رغبة من جانب أبوظبي لأن تكون صانعة قرار في الشرق الأوسط. ويشمل ذلك أن تلجأ إليها كل أطراف النزاع باعتبارها موضع ثقة. بما يسمح لها بتوسيع دورها في المنطقة كقوة إقليمية قادرة على المنافسة، مستفيدة من تراجع اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة وانشغال روسيا في الصراع بأوكرانيا.
إضافة إلى ذلك يرى الإماراتيون أن هناك فرصة للتفاوض على واقع جديد في الشرق الأوسط يساهم في استقرار المنطقة، لأن الأسد ربح في حربه الأهلية، وهناك قوة نووية تدعمه بشكل كامل.
تلك الرؤية أشار إليها أنور قرقاش المستشار السياسي لرئيس الإمارات، عند تعليقه على زيارة الأسد لبلاده. كذلك لفت إلى أن الخطوة، جاءت في سياق توجه يرمي إلى “تكريس الدور العربي في الملف السوري”، وسط مقاربة وصفها بـ”الواقعية”، تبتغي إيجاد حلول لأزمات المنطقة. إذ أن “الظروف الإقليمية المعقدة تستوجب تبني منهج عملي ومنطقي لا يقبل تهميش الجهود العربية الساعية لمواجهة التحديات وتجنب شرور الأزمات والفتن”.
دعم إسرائيلي
الطرف الآخر الذي ترتهن به الأزمة السورية، يتمثل في إسرائيل والتي تنخرط عسكريا من وقت لآخر في سوريا عبر الضربات الجوية التي تستهدف أهداف تابعة لحزب الله اللبناني وإيران.
ويمكن تلخيص الموقف الإسرائيلي في كون تل أبيب ترى في بشار الأسد قائدًا غير شرعي. إلا أنها ترى -في الوقت ذاته- أن بقاءه يمثل مصلحة للكيان الإسرائيلي. وفي هذا السياق يمكن القول إن المصالح الإسرائيلية في وجود بشار الأسد تتلاقى مع الطموح الإماراتي. من خلال لعب دور أوسع في المنطقة والتحول لقوة إقليمية، يمكنها إدارة ملفات الإقليم.
ومنذ الزيارة التي قام بها بشار الأسد إلى أبوظبي ولقائه الرئيس الإماراتي محمد بن زايد حينما كان وليا للعهد في مارس الماضي، تمارس الإمارات الضغوط للتقريب بين إسرائيل ونظام الأسد. ووفق تقارير عبرية في هذا الصدد فإن القادة الإماراتيين منذ الأيام الأولى للتطبيع مع تل أبيب، يتحدثون بشكل سري في الغرف المغلقة عن طموحهم للعب دور الوساطة بين إسرائيل والأسد.
وفي ظل الحديث المتأرجح عن اتفاق نووي جديد بين إيران مع الدول الكبرى تريد تل أبيب أن تضمن تقليص النفوذ الإيراني على حدودها. خاصة أن الحكومة الإسرائيلية حذرت واشنطن مرارًا من عقد هذا الاتفاق. لكن إمكانية أن تمضى الأخيرة بالمفاوضات جعل تل أبيب تدعم التطبيع العربي مع الأسد في خطوة تأمل من خلالها تحقيق مصلحة أكبر من النظام السوري، وذلك بانسحاب الميلشيات الإيرانية الموجودة في سوريا، بالتنسيق مع الإمارات.
التهيئة لدور مصري
منذ تولى النظام السياسي الحالي في مصر مقاليد الأمور في أعقاب ثورة 30 يونيو 2013، وسقوطالرئيس الراحل محمد مرسي وجماعة الإخوان، التزم الموقف المصري بمجموعة من المسلمات بشأن الأزمة السورية. أهم هذه المسلمات أولوية الحفاظ على الدولة السورية ووحدة أراضيها. ورفض أي مشروعات إقليمية لتقسيم سوريا. كذلك الحفاظ على مؤسساتها الأمنية، ورفض التدخلات الإقليمية والدولية في الشأن السوري. ولعل هذا الالتزام الأخير تحديدا هو الذي شكّل سلوك القاهرة بشأن رفض التدخل العسكري في سوريا. ورفض الحلول العسكرية وإعطاء أولوية للمساعي السياسية، كما التزم الموقف المصري بضرورة تهيئة الأوضاع لعودة اللاجئين.
على ضوء ذلك يمكن القول إن القاهرة مرشحة بقوة حال تمكن صانع القرار المصري من صياغة رؤية شاملة، للعب دور الوسيط الإقليمي الرئيسي ضمن جهود حل الأزمة السورية. وما يجعل مصر مؤهلة لذلك الدور كونه يأتي في وقت دفعت فيه التطورات الإقليمية، والدولية القوى الرئيسية والفاعلة في الأزمة السورية تحديدا والإقليم بشكل عام إلى إعادة صياغة علاقاتها وتحالفتها. فالنظام في تركيا تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والمعركة الانتخابية المرتقبة، بات يسعى لتصحيح مسار علاقات بلاده مع مصر. إضافة إلى إيران التي تتعدد رسائل الغزل من قادتها تجاه القاهرة على أمل عودة كاملة للعلاقات معها.
يمكن القول إنه إذا أحسنت القاهرة إدارة دورها في الأزمة فإنه سيكون بإمكانها امتلاك أوراق تحسن من موقفها التفاوضي بشأن القضايا التي تمس مصالحها المباشرة مثل الأزمة الليبية. كذلك الحفاظ على مساحة نفوذ مصرية تتلائم مع حجم القاهرة. ما يساعدها في ملفات أخرى مهمة وحيوية مثل أزمة سد النهضة، عبر الضغط على الفاعلين المؤثرين في حكومة أديس أبابا.