استكمالا لما بدأناه في مقال الأسبوع الماضي بتناول المساحات التي تحتاج إلى تغييرات جادة في التوجهات وتعديلات جوهرية في التشريعات. في إطار الحديث عن فتح المجال العام والإصلاح السياسي بمناسبة الدعوة للحوار الوطني. والذي بدأناه بتناول بعض الجوانب المتعلقة بالأحزاب السياسية. فإن أي إصلاح حقيقي ورغبة في فتح المجال العام لا يمكن أن تكتمل إلا بمعالجة أوضاع الحريات الصحفية والإعلامية وحرية التعبير عن الرأي بشكل عام. والتي واجهت خلال السنوات الماضية تحديات بالغة وقيودا واسعة بفعل السياسات والتوجهات وبفعل الإجراءات والتشريعات.

نقطة البدء التي يفترض أن تلزم الجميع هي نصوص الدستور المصري الواضحة والقاطعة في المواد 70 و71 و72 بتأكيدها على حرية الصحافة والنشر بمختلف أشكاله، وحظر فرض الرقابة عليها إلا في أوقات الحرب والتعبئة العامة وحتى في هذه الأحوال تكون (رقابة محددة)، وحق إصدار الصحف وتأسيس الوسائل الإعلامية المختلفة بالإخطار، واستقلال المؤسسات الصحفية والإعلامية الحكومية وحيادها وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات، وحظر العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر باستثناء ما يتعلق بالتحريض على العنف والتمييز بين المواطنين والطعن في الأعراض.

ربما نظرة واحدة لنصوص هذه المواد الدستورية وما تعبر عنه من فلسفة، ومقارنته بواقع الصحافة والإعلام كفيل بكشف حجم التباين والتناقض بين ما يقرره الدستور وما يجرى بالفعل، ومن هنا، فإن ضرورة البدء بتفعيل النصوص الدستورية وتحويلها إلى واقع فيما يتعلق بحرية الصحافة والإعلام خصوصا وحرية التعبير عن الرأي عموما دون قيود إلا ما حدده الدستور نفسه، ثم ترجمة ذلك في مراجعة تشريعية واجبة لكافة القوانين المنظمة للصحافة والإعلام بدءا من القوانين أرقام 178 و179 و180 لسنة 2018 والمتعلقة بالهيئة الوطنية للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة وقانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، بكل النصوص الواردة فيها التي تفرض قيودا على حرية الصحافة والإعلام وتحول الهيئات الصحفية والإعلامية لأداء أدوار أقرب للرقابة والتحكم لا التنظيم والتنسيق، فضلا عن الحد من صلاحيات تلك الهيئات وبالذات المجلس الأعلى للإعلام الذى يتيح له القانون فضلا عن اللائحة التنفيذية للقانون وما ترتب عليهما من قرارات أبرزها القرار رقم 16 لسنة 2019 المتعلق بلائحة الجزاءات والتدابير التي يجوز للمجلس توقيعها.

أيضا فإنه من الضروري التذكير مجددا بما سبق وأشار له أصدقاء وزملاء من المهتمين بمجالات العمل الصحفي والإعلامي، حول استعادة مشروع قانون إلغاء العقوبات السالبة للحرية في جرائم النشر، والذى سبق أن تبنته الجماعة الصحفية ونقابة الصحفيين وتم تجاهل إصداره ضمن حزمة القوانين الصحفية والإعلامية، لمعالجة نصوص القوانين المختلفة التي تفتح الباب للحبس في قضايا نشر بالمخالفة للدستور، وكذلك ضرورة ضبط ووضع تعريفات محددة ومنضبطة لمصطلحات مثل (بث أخبار كاذبة وشائعات) وغيرها من المصطلحات الفضفاضة التي أثبتت التجربة أنها كانت بابا يفترض أن يغلق للتوسع في الحبس لكثير من الصحفيين والإعلاميين وحتى النشطاء والمواطنين ممن يعبرون عن آرائهم.

لكن ذلك في ذاته لا يبدو كافيا في الواقع الحالي، وهو بالتأكيد نقطة بدء واجبة وضرورية، لكنها لن تكون سوى مجرد إجراء شكلي قابل للتفريغ من المضمون، إذا لم يصاحبها تغير حقيقي في إدراك فلسفة دور حرية الصحافة والإعلام، لا باعتبارها تهديدا للاستقرار ولا للأمن القومي ولا وسيلة لبث شائعات وأكاذيب، وهو كله وارد، لكن مواجهته تكون بحرية الصحافة والإعلام، والرد على تلك الشائعات نفسها، وباعتبارها ضمانة للحريات وفى ذات الوقت حق المجتمع في المعرفة، ووسيلة لكشف مكامن الخطأ والخطر، وقناة لتداول الآراء والأفكار، وجزء من منظومة الحقوق والحريات العامة التي تضمن استقرارا حقيقيا لمدى أبعد، وسلطة للمحاسبة والمساءلة بيد الرأي العام تضمن تفعيل دور المؤسسات الرسمية وتكشف أمامها قضايا وتوجهات الرأي العام ونخبه المثقفة والوطنية والمجتمعية.

من هنا فإن سياسات فرض القيود والتحكم فيما تنشره الصحف ووسائل الإعلام، وتحول كثير منها بحكم السياسات القائمة في السنوات الماضية لما يشبه النشرات شبه الموحدة، التي لا تجعل بينها تمايزا ولا اختلافا، ولا تترك مساحة للاجتهاد والابداع الصحفي والمهني إلا في أطر محدودة جدا، لا يمكن معالجتها بتعديلات تشريعية فحسب، وإنما أولا بإدراك لضرورة رفع تلك القيود لإتاحة المساحة لحرية الرأي والتعبير، وثانيا بتغير حقيقي في سياسات التعامل مع ملف الصحافة والإعلام بشكل عام، وثالثا بتغييرات واسعة واجبة في الوجوه الصحفية والإعلامية التي أدارت المشهد على مدار السنوات السابقة، وليس السبب هنا مواقفهم السياسية وانحيازهم لسلطة أو معارضة بقدر ما أننا بحاجة لوجوه تكون أكثر موضوعية ومهنية ومواقفهم وسياساتهم وانحيازاتهم لصالح المهنة وحريتها والدفاع عن مصالح المنتمين لها من صحفيين وإعلاميين.

بالإضافة لما سبق، فإن هناك ضرورة واجبة لخطوات وإجراءات سريعة وعاجلة لا تنتظر التعديلات التشريعية المطلوبة، ولا حتى صدور توصيات عن الحوار الوطني، مثل رفع الحجب عن المواقع الصحفية والإعلامية المستقلة التي لا تحرض على عنف ولا تمييز ولا تخوض في أعراض، فضلا عن ضرورة طرح ضوابط محددة لمثل تلك الإجراءات وتقنين حالاتها بشكل محدد وتعريفات واضحة، فضلا عن أهمية الالتزام بالقانون فيما يتعلق بترخيص بعض المواقع المتقدمة بإخطارات لتقنين أوضاعها دون الاستمرار في وضع التجميد القائم، وضبط وتحديد إجراءات الإخطار ومدده في نصوص القانون الحالي.. وهناك أهمية بالتزامن مع الحوار الوطني أن تكون هناك مساحات انفتاح إعلامي واضحة على مختلف الآراء والرؤى، وهو ما بدأ يحدث بدرجات متفاوتة في الشهور الأخيرة، لكنه يحتاج ليكون توجه أكثر رسوخا وثباتا وأن يترك للصحف ووسائل الإعلام نفسها أن تحدد سياساتها وموضوعاتها وضيوفها.

حرية الصحافة والإعلام هي الأسلوب الأصح والأجدر بمواجهة الشائعات والأكاذيب، بدلا من ترك الجمهور والرأي العام يتجه لقنوات ووسائل أخرى لمعرفة ما يجرى ويدور، وهو بذلك يترك عرضة لتصديق ما قد يكون كذبا وترويج ما قد يكون شائعات، وأن يكون هناك جدلا وتفاعلا وتعددا في الرؤى وفتحا لملفات وقضايا بشكل علني وعام أمام الرأي العام من خلال الصحافة والإعلام والمواقع وغيرها هو الأسلم والأجدى، وأن يضبط أي تجاوز في إطار الدستور والقانون والمؤسسات القائمة ونقابات الصحفيين والإعلاميين ووفقا لمدونات سلوك منضبطة لكنها أيضا واضحة ومحددة وليست خاضعة للتأويل والإسراف في استخدامها لتقييد حرية التعبير أو فرض قيود على الصحفيين والإعلاميين والمواطنين.

وبما إننا تطرقنا للحديث عن دور النقابات الرئيسي والواجب في القضايا المتعلقة بالصحافة والإعلام، فقد تكون تلك فرصة ملائمة للإشارة لأهمية استعادة دور فاعل للنقابة سواء من خلال مجلسها أو أعضائها وجمعيتها العمومية للنقاش حول قضايا المهنة وطرح تصور واضح للمعالجات والمقترحات المطلوبة للمرحلة المقبلة، وهو واجب عاجل وملح وضروري، وقد يكون بداية لاستعادة النقابة لدورها الرئيسي والمفتقد في مختلف قضايا المهنة، والتي لا تقتصر بالتأكيد على ما يتعلق بالحريات فحسب، وإنما تمتد لما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للصحفيين والتي لا يمكن أن تستمر معالجتها فقط من خلال زيادة بين الحين والآخر لبدل الصحفيين، والتفكير في أفكار جديدة وعصرية لتطوير أوضاع المؤسسات الصحفية والممارسات المهنية في وقت تواجه فيه الصحافة الورقية تحديدا تحديات واسعة لا تتعلق بمصر وحدها تتجاوز ما يتعلق بالقيود المفروضة عليها وإن كانت تلك نقطة البدء التي تفتح المجال أمام مختلف الاجتهادات والأفكار والتجارب. فضلا عن أن النقابة نفسها بحاجة لقانون جديد يواكب التغيرات الواسعة التي شهدتها العقود الماضية وبالذات فيما يتعلق بالصحف والمواقع الإلكترونية وحقوق العاملين بها في الانضمام للصحافة وسبل وآليات التقدم لعضوية النقابة.

تبقى إشارة واجبة، وبالعودة لنصوص الدستور، ضرورة أن يكون مطروحا في سياق ملفات وقضايا الحوار الوطني تفعيل المادة 68 من الدستور المتعلقة بإصدار قانون ينظم إتاحة المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية، فحق الحصول على المعلومات وحرية تداولها هو أحد الضمانات ليس فقط لحرية الصحافة، وإنما كذلك لمسئوليتها العامة ولموضوعيتها، وهو حق للرأي العام وليس للصحافة والإعلام فحسب.

أخيرا، فإن ملف الحريات الصحفية والإعلامية هو واحد من أهم الملفات الواجب قطع أشواط واسعة وجادة فيها خلال المرحلة المقبلة إن كنا جادين في انفتاح حقيقي في المجال العام، ويبدو عدم وجود لجنة خاصة بهذا الملف بشكل مستقل في إطار لجان الحوار الوطني إشارة سلبية، لكن يظل أن هناك إمكانية لطرحه ضمن لجان المحور السياسي مثل حقوق الإنسان والحريات العامة، خاصة أن قضية حرية التعبير عن الرأي هي أحد القضايا الأساسية التي تناولتها الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي تعد أحد الوثائق الرئيسية المطروحة أمام لجنة حقوق الإنسان والحريات العامة، وخاصة أيضا أن نقيب الصحفيين على رأس مجلس أمناء الحوار الوطني ومعه ضمن عضوية المجلس عدد ليس قليلا من الصحفيين والإعلاميين، وبالتالي فإن تخصيص جلسات لهذا الملف تحديدا وبحضور مختلف المهتمين بحريات الصحافة والإعلام من نقابيين وصحفيين وإعلاميين وخبراء يبدو مهمة ملحة وضرورية للنقاش حول كافة تلك القضايا وغيرها، والوصول لمعالجات حقيقية وإجراءات محددة بخصوصها.