في ظل أجواء الحوار الوطني الذي تبدأ جلساته الأولى خلال أسابيع، يتشكك المتابعون دائما في نية الدولة إجراء عملية إصلاح سياسي. منذ دعوة الرئيس في إبريل الماضي لبدء الحوار، وحتى الآن لم تظهر أي بوادر حول نية الدولة تغيير سياساتها العامة فيما يخص الانفتاح السياسي وصون حقوق الإنسان، ورغم خروج عشرات السجناء من محبسهم، إلا أن ماكينة الحبس الاحتياطي لم تتوقف حتى الآن، بحسب المنظمات الحقوقية فإن مئات الأشخاص تم إلقاء القبض عليهم وإصدار قرارات بحبسهم احتياطيا وفق نفس الآلية التي تم حبس الآلاف بها منذ صدور قانون مكافحة الإرهاب عام 2017.

بعيدا عن كل ما طرحناه في مقالات سابقة من أفكار حول جدية الدولة في إغلاق ملف سجناء الرأي، فإن الضمانة الرئيسية لإغلاق الملف تتمثل في إيقاف ماكينة الاعتقال والحبس وجلسات تجديد قرارات الحبس.. يتحدث أغلب المتابعين عن تعديل قانون الإجراءات الجنائية، تحديدا المادة الخاصة بمدة الحبس الاحتياطي، وهو ما تتعلل الحكومة بصعوبة تعديله لوجود آلاف القضايا الجنائية المنظورة أمام المحاكم، والتي سوف يتم إخلاء سبيل المتهمين المحبوسين على ذمتها بمجرد صدور التعديل. التعديل سوف يقلل مدة الحبس في القضايا السياسية ولكنه لن يوقف الحبس في حد ذاته.

أجرى برلمان 2015 عملية واسعة لتعديل التشريعات وفق فلسفة تشريع واضحة هدفها مصادرة حقوق الإنسان بالكلية، كما هدفت التعديلات إلى توسيع صلاحيات الأجهزة الأمنية والرقابية وتغليظ العقوبات في أي نشاط يعارض الدولة.

لم تكن التعديلات التشريعية بعيدا عن الاستراتيجية العامة للنظام والتي كان هدفها الرئيسي حماية الدولة من تكرار ما حدث في يناير 2011، وهو ما أعلنه الرئيس بوضوح عدة مرات، فكان الهدف الرئيسي لخطة التشريع هو تحقيق الردع العام، وبسط سيطرة الأجهزة الأمنية على الدولة والمجتمع بشكل عام، وهو ما تم بالفعل.

صحيح أن هذه التعديلات التشريعية حققت هدفها ومنحت الدولة المركزية هيمنة كاملة على المجتمع، ولكن رد الفعل الطبيعي كان تراجع دور الشق المدني داخل الدولة بشكل كبير، مما أدى إلى تزايد الضغوط والمسئوليات على أجهزة الدولة وتعطل القرارات التنفيذية، كما تباطأت حركة الدولة ككل بعد أن تسببت المركزية الشديدة في زيادة الأعباء على كبار المسئولين في الدولة، وتقليص صلاحيات ومسئوليات القيادات الوسطى، وهم الشريحة الأوسع.

سواء أدرك النظام كل ذلك أو لم يدركه، وسواء كانت الدعوة للحوار بهدف بدء عملية إصلاح سياسي حقيقي، أو مجرد مسكنات لتخفيف الاحتقان المجتمعي، فإن من واجبنا أن نناقش أسباب الأزمة التي نراها والتي لولا وجودها ما كانت الدعوة من الأساس، وكذلك طرح حلول لتخطي تلك الأزمة، أو فتح باب للخروج منها.

وهو ما يجب أن يبدأ بتعديل ترسانة التشريعات التي تمترست الدولة خلفها والتي جرى تمريرها من خلال البرلمان الماضي، والتي كان يجري التصويت على أغلبها دون مناقشات –حقيقية أو صورية– تحت قبة البرلمان، ويتطلب ذلك في المقام الأول فلسفة تشريع جديدة تهدف إلى فتح المجال العام وتوفير ضمانات لحرية الرأي والتعبير، وتنفيذ تعهدات الدولة سواء الداخلية عبر الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، أو التعهدات الخارجية من خلال الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها الحكومة، والوعود التي قدمتها للمجلس العالمي لحقوق الإنسان في جنيف 2020.

أتصور أن التعديل التشريعي الأكثر إلحاحا في الوقت الحالي هو التعديل الخاص بقوانين مكافحة الإرهاب، حيث يقضي آلاف السجناء سنوات من الحبس الاحتياطي على ذمة ذلك القانون، فإن تعديل القانون لوقف الظلم عن سجناء الرأي مقدمة لعملية الإصلاح التشريعي.

وقد وضعت قوانين الإرهاب تعريفات واسعة جدا وتحمل عددا من الأوجه والتأويلات، فكانت غطاء لحملة اعتقالات واسعة استهدفت عشرات الآلاف من سجناء الرأي، رغم أن أغلب هؤلاء السجناء لم تتم إحالتهم إلى المحاكمة وفق القانون، إلا أن الحبس الاحتياطي المطول كان بديلا مناسبا لما كان يجريه النظام السابق من اعتقالات إدارية وفق قانون الطوارئ، فقد أصبح قانون مكافحة الإرهاب بديلا أكثر عمومية من قانون الطوارئ بسبب عقوباته المشددة وألفاظه المائعة، بالإضافة إلى ديمومته، فقانون الإرهاب ليس أحد القوانين الاستثنائية التي يجري تفعيلها وفق ظروف غير عادية.

يحمل قانون مكافحة الإرهاب وقانون الكيانات الإرهابية من الانتهاكات التي تخالف مبادئ حقوق الإنسان ومواد الحقوق والحريات في الدستور المصري ذاته، ما يجعلنا نعتبره قانونا لمصادرة حقوق الإنسان وليس مجرد قانون لمكافحة الإرهاب، رغم تراجع الإرهاب في القطر المصري خلال السنوات الماضية حتى يكاد يكون منعدما خلال عامي 2020 و2021، الا أن المشرع قد أجرى على القانون عدة تعديلات وسعت من مداه وجعلت منه سيفا على رقاب المواطنين بدلا من أن يكون درعا لهم.

اشتملت أغلب مواد القانون على مواد تكفل بشكل واضح انتهاكات حقوق الإنسان، ولكن أخطر ما في القانون هو تعريف “العمل الإرهابي”، والذي يبني عليه جميع مواد القانون، فقد جاء تعريف العمل الإرهابي في المادة 2 من قانون مكافحة الإرهاب كالتالي “يقصد بالعمل الإرهابي كل استخدام للقوة أو العنف أو التهديد أو الترويع في الداخل أو الخارج، بغرض الإخلال بالنظام العام أو تعريض سلامة المجتمع أو مصالحه أو أمنه للخطر، أو إيذاء الأفراد أو إلقاء الرعب بينهم، أو تعريض حياتهم أو حرياتهم أو حقوقهم العامة أو الخاصة أو أمنهم للخطر، أو غيرها من الحريات والحقوق التي كفلها الدستور والقانون، أو الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي أو الأمن القومي، أو إلحاق الضرر بالبيئة، أو بالموارد الطبيعية أو بالآثار أو بالأموال أو الأصول الأخرى أو بالمباني أو بالأملاك العامة أو الخاصة، أو احتلالها أو الاستيلاء عليها، أو منع أو عرقلة السلطات العامة أو الجهات أو الهيئات القضائية أو مصالح الحكومة أو الوحدات المحلية أو دور العبادة أو المستشفيات أو مؤسسات ومعاهد العلم، أو البعثات الدبلوماسية والقنصلية، أو المنظمات والهيئات الإقليمية والدولية في مصر، من القيام بعملها أو ممارستها لكل أو بعض أوجه نشاطها، أو مقاومتها، أو تعطيل تطبيق أي من أحكام الدستور أو القوانين أو اللوائح.

اقرأ أيضا.. الحركة المدنية والحوار الوطني.. اختلاف على الأولويات واتفاق على الأهمية

وكذلك كل سلوك يرتكب بقصد تحقيق أحد الأغراض المبينة بالفقرة الأولى من هذه المادة، أو الإعداد لها أو التحريض عليها، إذا كان من شأنه الإضرار بالاتصالات أو بالنظم المعلوماتية أو بالنظم المالية أو البنكية، أو بالاقتصاد الوطني أو بمخزون الطاقة أو بالمخزون الأمني من السلع والمواد الغذائية والمياه، أو بسلامتها أو بالخدمات الطبية في الكوارث والأزمات”.

افتقد التعريف الوارد بالمادة لكل ضوابط الصياغة القانونية من وضوح المعنى وعموم القواعد وتجردها، فالتعريف غير منضبط لغويا ويمكن أن يشمل أي نشاط يعارض الدولة، وهو ما تم بالفعل بعد أن اعتبرت النيابة العامة في تنفيذها للقانون، أن أي انتقاد موجه للدولة هو تحريض على النظام العام، كما اعتبرت النيابة أن التظاهر تهديد لأمن المجتمع ومصالحه، وأن العمل في وسائل إعلام تعارض النظام، هو تهديد للأمن القومي، مما يجعل كل تلك الأفعال أعمالا إرهابية بحسب تفسير النيابة لمواد القانون، كما تم إلقاء القبض على مئات المواطنين بسبب منشورات عبر مواقع التواصل الاجتماعي حول ظروف جائحة كورونا وتعامل الدولة معها، رغم أن ما كتبوه يندرج تحت بند حرية التعبير وفقا للدستور، إلا أن إلصاق تهمة الإرهاب به تسبب في حبسهم سنوات داخل السجون.

كما أن باقي مواد قانون مكافحة الإرهاب استندت إلى التعريف السابق، لتجعل من كل مشارك بأي شكل في أي نشاط قد تراه الدولة تهديدا لأمنها فهو خاضع لقانون الإرهاب، وقد ساوى القانون في ذلك بين مرتكب الفعل والشارع في ارتكابه، كما ساوى بين المشارك والمحرض، ثم كانت أسوأ جمل القانون وأشدها عوارا حين نصت المادة على “كما يُعاقب بذات العقوبة المقررة للجريمة التامة كل من اتفق أو ساعد -بأية صورة- على ارتكاب الجرائم المشار إليها بالفقرة الأولى من هذه المادة، ولو لم تقع الجريمة بناءً على ذلك الاتفاق أو تلك المساعدة”.

بشكل واضح لا إصلاح سياسي بغير كفالة حرية التعبير، ولا كفالة لحرية التعبير بلا بنية تشريعية تضمن ذلك وتصونه، والمدخل الرئيسي لأي إصلاح تشريعي يهدف لضمانة الحقوق هو إعادة تعريف الإرهاب وتعديل قوانينه بشكل يضمن ألا يكون الإرهاب ذريعة لمصادرة الحق في التعبير، وألا يتحول قانون الإرهاب من قانون جنائي يحمي الشعب، إلى أحكام عرفية تعطي الأجهزة التنفيذية صلاحيات فوق الدستور.