بهدف النهوض بكافة الحقوق المتضمنة في الدستور والتشريعات والاتفاقيات الدولية والإقليمية المنضمة إليها مصر، وتحقيقا للمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين دون أي تمييز، أُطلقت قبل عام الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان.
واضعوا الاستراتيجية التي تم الإعلان عنها في سبتمبر 2021، أشاروا إلى أن المبادرة بإعدادها يمثل «ترجمة لقناعة وطنية ذاتية بضرورة اعتماد مقاربة شاملة وجدية لتعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية»، وتعهدوا بأن ما جاء فيها من بنود يمثل «خارطة طريق وطنية طموحة في مجال حقوق الإنسان».
تضمنت الاستراتيجية اعترافا واضحا بأن هناك قصورا في ملف الحقوق والحريات، وتعهُدا بإصلاح الخلل الذي شاب هذا الملف خلال السنوات الماضية، بما يضمن «إعلاء قيم الحرية والكرامة والإنسانية والعدالة الاجتماعية»، احتراما لرغبة وإرادة الشعب المصري الذي «قام بثورتين مطالبا بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي».
في الجزء الخاص بحرية الصحافة والإعلام والذي تم إدراجه في المحور الخاص بـ«الحقوق المدنية والسياسية» أعادت الاستراتيجية التأكيد على ما جاء في مواد الدستور من حق المواطنين في التعبير عن رأيهم بكل الوسائل، وحقهم في الحصول على المعلومات ونشرها، وشددت على ضرورة التزام الدولة باستقلالية الصحف ووسائل الإعلام، وحظر فرض الرقابة عليها إلا في زمن الحرب والتعبئة العامة، وعدم توقيع عقوبات سالبة للحرية في الجرائم التي تقع عن طريق النشر والعلانية.
الاستراتيجية تحدثت على استحياء عن غياب التنوع في وسائل الإعلام ما يجعلها لا تعكس بالقدر اللازم تعددية الرؤى والآراء، وحددت عددا من النتائج المستهدف تحقيقها، على رأسها إصدار قانون لتنظيم حق الحصول على المعلومات، وتعزيز مناخ حرية التعبير والتعددية وتنوع الآراء إزاء مختلف القضايا العامة، ومراجعة القوانين القائمة لضمان كفالة ممارسة الحق في التعبير عن الرأي.
الآن ورغم مرور 12 شهرا على إطلاق الاستراتيجية التي صاحب الإعلان عنها زخما هائلا، ومُضي 9 شهور من عام 2021 الذي أعلنه الرئيس عبد الفتاح السيسي «عام المجتمع المدني»، لاتزال مواضع الخلل قائمة كما هي، وشروخ ملف حرية الرأي والتعبير واستقلال الصحافة باقية على حالها لم يشرع أحد في جبرها أو ترميمها.
معظم المؤسسات الإعلامية تدور في فلك السلطة تعبر عنها وتتبنى مواقفها وتبرر توجهاتها وسياستها وتروج لإنجازاتها ومشروعاتها، ومن يخرج من هذا الفلك يوضع تحت طائلة التضييق والحصار والحجب والملاحقة القضائية أحيانا.
حتى تاريخه لا يعرف أحد على وجه اليقين هل هناك نوايا لإعادة النظر في التشريعات واللوائح التي تم تفصليها خصيصا لتقييد العمل الصحفي، والتي تتصادم موادها مع نصوص الدستور والمعاهدات والاتفاقات الدولية التي وقعت عليها مصر والتي حظرت الرقابة على وسائل الإعلام إلا في حالة الحرب والتعبئة وحالت دون ملاحقة الصحفيين بسبب ممارستهم عملهم في نقل ما يدور في كواليس مؤسسات السلطة وكشف الحقائق ومكافحة الفساد وعرض الآراء على مختلف تنوعها.
وحتى تاريخه، لا يعرف أحد على وجه اليقين هل ستكون أزمة حرية الصحافة واستقلال وسائل الإعلام مطروحة على أجندة محاور الحوار الوطني الذي من المفترض أن تبدأ جلساته مطلع الشهر الجاري، فرغم تعدد لجانه إلى حد الإغراق ورغم تطرقها إلى العديد من الملفات الملحة وغير الملحة لم يخصص مجلس أمناء الحوار الوطني ولو لجنة واحدة لمناقشة سبل الخروج من الأزمة التي تعاني منها صحافتنا، وعندما سألنا قيل لنا إنه سيتم تخصيص جلسة لتناول قضية الصحافة ضمن جلسات لجنة حقوق الإنسان المنبثقة عن المحور السياسي.
تجاهُل هذه الأزمة على هذا النحو، يُدلل على أن هناك من يدفع في اتجاه استمرار أوضاع الإعلام كما هي عليه، هناك من يصر على أن تظل منصات الإعلام تحت سيطرة قبضة مُحكمة توجهها وتطلقها على من ترى أنهم خصوم أو معارضين وأحيانا مخالفين، يظن هؤلاء أنهم بذلك يخدمون السلطة ويذودون عنها، لكنهم في الواقع يسيئون لها، ويثيرون حفيظة الناس ضدها.
كلما زادت جرعة التبرير والتجميل، وكلما أصر من يتصدرون المشهد الإعلامي على تزييف الواقع، وحاولوا إقناع الناس بأن معاناتهم اليومية وسوء أحوالهم المعيشية أما من صنع أيديهم أو ما هي إلا شائعات يطلقها أهل الشر أعداء الوطن، كلما زادت مشاعر التململ والتأفف ليس على مروجي تلك «الكليشيهات» فحسب بل على من يحركهم أيضا.
يبرر البعض حصار وتقييد حرية الصحافة والإعلام خلال السنوات الماضية، بأنه حالة فرضتها المواجهة الممتدة مع الجماعات الإرهابية منذ عام 2013، أما وقد انتهت هذه الحرب أو كادت بحسب ما أعلن الرئيس السيسي خلال كلمته في حفل إفطار الأسرة المصرية نهاية شهر إبريل الماضي، فعلى السلطة التي تعهدت من خلال الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان بإصلاح القصور والخلل، أن تبادر بتنفيذ ما جاء في تلك الوثيقة من «خارطة طريق طموحة»، حتى تتمكن الصحافة المصرية من استرداد مصداقيتها وحيويتها فيعود إليها الجمهور الذي هجرها منذ سنوات بسبب تشبعه بمحتوى واحد لا يعرف سوى الرأي الواحد والصوت الواحد.
تخفيف القيود عن الصحافة ورفع قبضة الدولة عن المؤسسات الصحفية وإعادة النظر في كل ما جرى خلال السنوات الماضية من ممارسات إلى تشريعات ولوائح تنفيذية، هي إحدى قواعد إقامة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، فبدون صحافة حرة تراقب أعمال مؤسسات السلطة نيابة عن المواطن، وتنقل للجمهور مختلف الآراء والتوجهات دون رقيب أو حسيب، بما يمكنه من اختيار الأصلح، لا أمل لنا في الخروج من المتاهة ولا يمكن الحديث عن استقرار وتنمية وتقدم.
فشلت الوصفة التي تتبعها السلطة الحالية في تأسيس دول حديثة، جُربت في عصور سابقة ولم تختلف النتائج كثيرا، فإذا كانت هناك نوايا حقيقية لوضع قواعد «الجمهورية الجديدة» التي يتم التبشير بها، فعلى النظام أن يبادر بفتح الباب لوسائل الإعلام حتى تقوم بدورها في إخبار الناس وانتقاد الأوضاع المتصلة بالعمل العام تبصيرا بنواحي التقصير فيه، «فانتقاد الصحافة للسلطة ومراجعة قراراتها لن يؤدي بالتبعية إلى الإضرار بأية مصلحة مشروعة»، على ما أورد المستشار الجليل محمد عوض المر رئيس المحكمة الدستورية الأسبق في حكم له منتصف تسعينيات القرن الماضي.
وإذا كانت التشريعات الحالية المنظمة للعمل الصحفي تضع عوائق أمام ممارسة الصحافة دورها، فعلى السادة نواب البرلمان المبادرة بإعادة النظر في تلك التشريعات، «فليس جائزا أن يكون القانون أداة تعوق حرية التعبير عن مظاهر الإخلال بأمانة الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة. أو مواطن الخلل في أداء واجباتها»، يضيف المر في نفس الحكم المشار إليه.
وأكد القاضي الراحل في حكمه أن الوثيقة الدستورية، شددت على أن «الحكومة خاضعة لمواطنيها، ولا يفرضها إلا الناخبون. وكلما نكل القائمون بالعمل العام -تخاذلا أو انحرافا- عن حقيقة واجباتهم مهدرين الثقة العامة المودعة فيهم، كان تقويم اعوجاجهم حقا وواجبا مرتبطا ارتباطا عميقا بالمباشرة الفعالة للحقوق التي ترتكز في أساسها على المفهوم الديمقراطي لنظام الحكم، ويندرج تحتها محاسبة الحكومة ومساءلتها، وإلزامها مراعاة الحدود والخضوع للضوابط التي فرضها الدستور عليها».
حرية الصحافة واستقلال وسائل الإعلام ليس ترفا ولا قطعة ديكور لاستكمال مشهد ديمقراطي مصنوع، حرية الصحافة ضرورة حتى يعلم المسئول أنه يمارس واجبه خاضعا لرقابة الشعب، وضمانة حتى يطمئن المواطن أن هناك عينا تكشف له الحقائق وتلاحق عنه الفساد والتقصير وأداة تحاسب الاعوجاج والتغول.
قبل أن تمضي الأسابيع القليلة الباقية من عام المجتمع المدني، يجب أن ندفع جميعا في اتجاه تنفيذ ما جاء في الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان من خارطة طريق لتعزيز حرية الرأي والتعبير وفك الحصار عن الصحافة والإعلام، حتى نتمكن من اللحاق بركب من سبقونا وتقدموا علينا وتحكموا في مصائرنا وإرادتنا وأقواتنا.