يبدو أن العالم يسير في مسار إجباري نحو حالة من الركود الاقتصادي في عام 2023. فالبنوك المركزية خاصة في الاقتصادات الكبرى تواصل رفع أسعار الفائدة في محاولة لكبح التضخم الذي لا يستجيب لتحركاتهم المضادة. في الوقت نفسه تعاني الأسواق الناشئة من رفع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي الذي يكبدها خسائر بالمليارات بشكل يومي.

لم يشهد الاقتصاد العالمي على مدار عقود الخمسة الماضية تسابقا من البنوك المركزية على رفع الفائدة في توقيت متزامن كما يحدث الآن. والمشكلة أنه توجه من المتوقع أن يستمر بقوة حتى ما بعد العام المقبل 2023. في الوقت نفسه يرجح مستثمرون سيناريوهات أشد تشاؤما لرفع فائدة قد يصل إلى 4% بزيادة نقطتين مئويتين عن متوسط عام 2021.

اقرأ أيضا.. الركود التضخمي.. مرارة السبعينيات تضرب اقتصاد العالم.. ومصر وتونس في قلب الأزمة

بحسب دراسة جديدة للبنك الدولي، فإن اضطرابات سلاسل الإمداد وضغوط سوق العمل، والزيادات المستمرة في أسعار الفائدة يمكن أن تترك معدل التضخم الأساسي العالمي باستثناء الطاقة، عند 5% عام 2023. أي ما يقرب من ضعف متوسط ​​الخمس سنوات السابقة لوباء فيروس كورونا.

كريستالينا جورجيفا، رئيسة صندوق النقد الدولي، قالت إن النظرة المستقبلية للاقتصاد العالمي “قاتمة”. لكن الظروف قد تصبح أكثر صعوبة في عام 2023 ما لم تتمكن البنوك المركزية من السيطرة على التضخم . كذلك أكدت أن احتمالات الانتعاش الاقتصادي الكامل في العام المقبل ستكون منخفضة.

أوروبا وأمريكا في الركود

وقف إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا

جورجيفا تشير إلى ما تشهده أوروبا من ارتفاع حاد في أسعار الطاقة بعد انقطاع إمدادات الغاز الروسية. حيث ارتفعت أسعار الكهرباء بأكثر من 1400%. بينما سجل مؤشر أسعار المستهلك أعلى من التوقعات في أمريكا عند 8.3% في أغسطس/آب، ولا يزال بعيدا عن هدف الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2% فقط على المدى الطويل. الأمر الذي أدى بالاحتياطي الفيدرالي إلى رفع أسعار الفائدة 75 نقطة أساس أخرى الأربعاء الماضي.

البنوك المركزية الأخرى حول العالم “ليس لديها خيار” سوى أن تحذو حذو أمريكا بحسب جورجيفا. كما أنها وصفت التضخم بأنه “أكبر عدو” للاقتصاد العالمي اليوم. والسؤال الحاسم الذي يواجه العالم هو استعادة ظروف النمو واستقرار الأسعار التي لها تأثير كبير على السكان الأكثر فقرا. إذ أن التضخم الخارج عن السيطرة سيؤدي إلى نزول المزيد من الناس إلى الشوارع.

يُجمع الاقتصاديون ذوي الشأن عالميا على انخفاض النمو العالمي في 2023، لكنهم يختلفون ما إذا كان الاقتصاد العالمي سيدخل في حالة ركود رسمي أم لا؟. الأمر أدى لظهور مصطلح جديد يسمى “ركود طبق المكرونة” في تشبيه لطبيعة الركود المتوقع بأنه غير عميق لكنه متسع.

غالبا ما يعطي الاقتصاديون مسميات لفترات الركود لتقريب تصوراتها من الجمهور فيرمزون للتضخم العميق قصير الزمن بحرف “V” والمتوسط بحرف “U” والذي يتسم بالتذبذب بين الصعود والهبوط بالرمز “W”، والأخير يمثل أحد توقعات الخبراء بأن يشهدها عام 2023.

ماذا يحدث في الركود؟

في الربع الثاني من العام الجاري انزلقت المملكة المتحدة إلى حالة من الركود. إذ أدى التضخم المرتفع لتآكل دخل الأسر. كما انخفضت ثقة المستهلك إلى مستوى قياسي منخفض. مع ارتفاع معدل تضخم أسعار المستهلكين إلى 10.1% على أساس سنوي في يوليو/تموز واتجه نحو الأعلى مع زيادة 75% في أكتوبر/تشرين أول في حدود أسعار الغاز والكهرباء. كما أنه من المتوقع أن يستمر الركود في المملكة المتحدة خلال ربيع 2023.

كان نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بمنطقة اليورو أعلى من المتوقع 0.7% في الربع الثاني بفضل تراكم المخزون والطلب المكبوت على الخدمات بعد إغلاقات كورونا. لكن آفاق النمو آخذة في التدهور بسرعة، استجابة لنقص إمدادات الطاقة المستمر، وتشديد الأوضاع المالية.

ومع احتمال أن تشهد منطقة اليورو ركودا معتدلا في أواخر عام 2022 وأوائل 2023. فمن المتوقع أن يتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي من 5.2% في عام 2021 إلى 2.9% عام 2022 و 0.8% عام 2023. خاصة بعد أن تعرضت مراكز التصنيع في شمال أوروبا، بما في ذلك ألمانيا، لتضرر عنيف بسبب انقطاعات إمدادات الطاقة الروسية.

في فترات النمو الاقتصادي المنخفض أو المنُعدم، تميل الشركات الكبيرة إلى التفوق في الأداء على الشركات الصغيرة. خاصة أن لديها مصادر إيرادات أكثر تنوعا وقاعدة عملاء أكثر استقرارا. بالإضافة إلى سلسلة إمداد أكثر قابلية للتنبؤ. والشركات الصغيرة يمكن أن تكافح. قد يكون من الصعب عليها الاستمرار في النمو بوتيرة تدعم أعمالهم المتوسعة، وبالنسبة للشركات التي لا تحقق أرباحا كبيرة، قد يكون من الصعب تحقيق انخفاض في الإيرادات.

أرقام كاشفة

البطالة أحد أبرز سمات الركود الاقتصادي

يعتقد راج سوبرامانيام، الرئيس التنفيذي لشركة “فيديكس” الأمريكية، أن الركود وشيك بالنسبة للاقتصاد العالمي. ودلل على ذلك بضعف حجم الشحنات العالمية للشركة المتخصصة أصلا في الشحن ونقل الطرود. قائلا: “نحن انعكاس لأعمال أي شخص آخر خاصة الاقتصاد عالي القيمة. وعادة ما يُنظر إلى مخزونات النقل على أنها مؤشر رئيسي للاقتصاد”.

وبينما أطلق الرئيس التنفيذي لشركة “فيديكس” جرس الإنذار بشأن حدوث ركود عالمي محتمل بسبب انخفاض أحجام الشحن. رجح المدير المالي لشركة “باي بست” الأمريكية المتخصصة في بيع الإلكترونيات الاستهلاكية، استمرار تباطؤ نمو المبيعات حول العالم. لكنه تجنب استخدام مصطلح الركود. بينما يشير مقياس تجارة السلع التابع لمنظمة التجارة العالمية إلى أن حركة التجارة الدولية دخلت مرحلة ركود بالفعل.

مصر وأخواتها

يقول ديفيد إيلي، في جامعة سان دييجو بالولايات المتحدة، إنه من المؤكد أن احتمال حدوث ركود عالمي خلال العام المقبل ازداد بشكل كبير. كما سيضر ارتفاع أسعار المواد الغذائية بالاقتصادات النامية.

بعض البلدان النامية تواجه حاليا مخاطر مالية واقتصادية عالية، نتيجة لارتفاع مخاطر الديون وإعادة التمويل. بالإضافة إلى تباطؤ معدلات النمو، ومحدودية حيز السياسات النقدية والمالية العامة. بينما واجهت أخرى مخاطر اقتصادية فقط بسبب مزيج من ارتفاع الديون والارتباط الوثيق بين العملة المحلية والدولار الأمريكي.

كما واجهت مجموعة ثالثة من البلدان بشكل رئيسي مخاطر مالية ناجمة عن تغير مفاجئ في رغبة المستثمرين، ومن شأن ذلك الحد من تدفقات رأس المال الأجنبي وتقليل السيولة في الأسواق المالية المحلية.

البنك الدولي من ناحيته توقع أن يعجز 12 اقتصادا ناميا عن خدمة ديونه. لتكون أكبر موجة من أزمات الديون في الاقتصادات النامية خلال جيل كامل. كما حذر من أن معظم ديون الاقتصادات النامية تتسم بأسعار فائدة متغيرة. ما يعني أنها قد ترتفع فجأة، كما هو الحال بالنسبة لأسعار الفائدة على ديون بطاقات الائتمان.

هايكه هارمجارت، المسئولة بالبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، قالت إن الدول الناشئة ستتأثر سلبا برفع الفائدة الأمريكية. كما أكدت أن الأمر سيسبب سحبا للأموال والاستثمارات الأجنبية من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومصر وتونس والجزائر. كذلك أضافت أن تلك الأسواق ستعاني من نقص في السيولة الدولارية.

مقترحات

رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي جيروم باول

ولخفض التضخم العالمي إلى معدل يتوافق مع أهدافها، تحتاج البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة بمقدار نقطتين مئويتين إضافيتين. وإذا كان هذا مصحوبا بضغوط السوق المالية، فإن نمو إجمالي الناتج المحلي العالمي سيتباطأ إلى 0.5% عام 2023، وهو انكماش بنسبة 0.4%. بينما يقول البنك الدولي إن النمو العالمي يتباطأ بشكل حاد، مع احتمال حدوث مزيد من التباطؤ، مع دخول المزيد من البلدان في ركود.

ديفيد مالباس، رئيس مجموعة البنك الدولي، لا يخفي قلقه من استمرار اتجاهات الفائدة التي سيكون لها عواقب طويلة الأمد مُدمرة للبشر في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية.

وبحسب البنك الدولي أيضا، فإن تحقيق معدلات تضخم منخفضة واستقرار العملة ونمو أسرع ، يتطلب من صناع السياسة تحويل تركيزهم من خفض الاستهلاك إلى تعزيز الإنتاج، وتوليد استثمارات إضافية وتحسين الإنتاجية وتخصيص رأس المال ، وهما أمران حاسمان للنمو والحد من الفقر “.