كَتَب أستاذنا الكبير المرحوم الدكتور “محمود عبد الفضيل” في مؤَلَفِه صغير الحجم عظيم القيمة “في نقد التحليل الاقتصادي المعاصر”، والذي أشرت إليه مرارًا في مقالاتٍ سابقة، عن المُساجلات الدائمة في الأسس المنهجية العامة بين أنصار مدرسة “الاقتصاد البحت” التي تُعَرِف الاقتصاد بأنه علم تخصيص الموارد النادرة بين الاستخدامات البديلة، ومدرسة “الاقتصاد السياسي” التي تهتم بدراسة أربع لحظات أساسية في العملية الاقتصادية: “الإنتاج، والتوزيع، والتبادل، والتراكم”*.

تطورت حياة الإنسان عبر الزمن وتغير واقعه بما اقتضى قيامه بالنظر في الأُطر الفكرية التي بَنَى عليها ممارساته في سياقات اجتماعية وسياسية تتبدل بسرعة شديدة بِسبب التقدم التكنولوجي الهائل، وبقيت الأسس المنهجية العامة محتفظة بدورها باعتبارها المركز الذي تدور حوله تلك الأطر وهذه الممارسات.

في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، ظهرت في الغرب اجتهادات هامة كان على رأسها طروحات مدرسة “ما بعد الكينزية” التي عملت على نقد هشاشة الأسواق وطبيعة آليات عمل الرأسمالية والتجارة الدولية والعولمة (هايمان مينسكي وجوزيف ستيجليتز وآخرون) بخلاف ما قدمته مدرسة “مناهضة التبعية” وكان قطبها الكبير هو المرحوم الدكتور سمير أمين.

استمر الواقع الإنساني في التغير خلال السنوات السبع الأولى من هذا القرن رغم ما كان باديًا من استقرار ثَبُتَ أنه واهٍ كخيوط العنكبوت إلى أن حَلَ العام 2008 حيث كانت الأزمة المالية العالمية التي استدعت الانتباه وإعادة النظر ومن ثَم الإنصاف لطروحات هايمان مينسكي الذي اتهمه الكثيرون بالهرطقة حين خرج عن مِلةِ ميلتون فريدمان وأقرانه.

استمرت أزمات إنسان هذا العصر في الانكشاف شيئًا فشيئًا على وقع التدهور في أحوال المناخ بسبب سياسات دول المركز ومحاولاتها المستمرة للسيطرة على مصادر الطاقة والثروات سعيًا لترسيخ هيمنتها إلى أن وصل الانكشاف إلى قمته بدفعٍ من أزمة كورونا 2019 ثم أزمة أوكرانيا 2022. اقتضت الحاجة ضرورة هذا السرد التاريخي المُقتَضَب باعتباره مُقدِمَةً لفهم السياق العام لتطور الواقعِ الاقتصادي كمسارٍ مازال –وسيظل- قيدَ التغيير الدائم طالما كان للإنسان وجود على هذا الكوكب، وهو ما يعزز من أهمية النظر في تراث الفكر الاقتصادي باعتباره وَليد ظروفٍ تاريخية ذات خصوصية غير متكررة بما يقتضي إخضاع هذا التراث برمته للنقد وبل النقض بحسب الأحوال. من هنا نبدأ، ففهم الواقع بتعدد وتداخل مستوياته لا يمكن أن يكتمل دون وضع الماضي في مكانه اللائق باعتباره تراثًا نتناوله بالدراسة لاستلهام قِيَمه العليا لا بِكَوْنِهِ مرجعًا وحيدًا نلجأ إليه بحثًا عن حلول لمعضلات حاضرنا بالغة التعقيد وتحديات مستقبلنا شديدة الغموض.

ولما كان الاقتصاد هو المحرك الأساسي لأي نشاط إنساني، فإن ضرورات فهم الواقع تقتضي -في المُبتدأ- نظرة “كُلية” لحالنا الاقتصادي بملامحه العامة وما يتأثر به من عوامل سوسيوبوليتيكية على المستويات الدولية والإقليمية أخذًا بالاعتبار تركيبة المجتمع وتوزيع عوامل الإنتاج ونمط علاقاته قبل الولوج إلى تفاصيل ظواهره المتعددة.

ولأن تلك الظواهر -رغم خصوصية طبيعة وسمات كل منها- مُتشابكة ومُتداخلة ومُتصلة بشكل وثيق، فسيكون من الأهمية بمكان ضرورة إدراك العلاقات بين تلك الظواهر وتأثيراتها المُتبَادلَة بحيث لا يتم التعاطي مع كل منها بمعزل عن الأخرى.

وهنا، يجد المرء نفسه بحاجة إلى التفحص في ثلاث مسائل مُؤسِسَةً لدراسة أي ظاهرة اقتصادية سيكون أي جهد دونها محض هباء، أولا: دراسة الأسباب الموضوعية التي أدت لنشوء ظاهرة اقتصادية ما حتى يمكن إبداع ما يتناسب معها من حلول خاصة، وثانيا: دراسة العلاقات والتأثيرات المُتبادلة بين تلك الظاهرة والظواهر الأخرى على المستوى المحلي، وثالثًا: دراسة مدى ارتباط هذه الظاهرة بمؤثرات خارجية على المستويين الإقليمي والدولي.

فلنأخذ ظاهرة التضخم وغلاء الأسعار مِثَالًا: كان العَلَّامة المرحوم الدكتور “جمال حمدان” يرى أن ظاهرة غلاء الأسعار لا تنفصل عن ظاهرة انخفاض الدخل، وهما لا ينفصلان بدورهما عن ظاهرة الزيادة السكانية، فإذا كان غلاء الأسعار هو تعبير عن الاختلال بين العرض والطلب، فإنه تعبير بصورة أخرى عن الاختلال بين حجم الإنتاج وحجم السكان، “لكن المشكلة بعد هذا ليست مجرد حجم إنتاج وسكان أو فقر وتخلف أو عرض وطلب فحسب، وإنما هي أيضًا وأساسًا مشكلة عدالة توزيع أو اختلال طبقي”**.

وأضيفُ أن جانبًا كبيرًا من ظاهرة التضخم يرجع لارتفاع تكلفة الإنتاج و/أو الاستيراد. إذن، فدراسة الأسباب الموضوعية التي أدت لظاهرة التضخم لا تقف فقط عند حدود التعامل معه باعتباره اختلالًا بين العرض والطلب، وهو الأمر الذي يراه بعض الاقتصاديين سببًا “وحيدًا” للتضخم ليقوموا في ضوئه باتخاذ إجراءاتِ تشديدٍ نقدىٍ كلاسيكية كالرفع التلقائي لأسعار الفائدة وهو ما ينعكس سلبًا على المالية العامة حيث ينتج عن رفع سعر الفائدة زيادة فيما يتم سداده من فوائد على الديون تُعَمِق من عجز الموازنة الذي يتم تمويله “تقليديًا” من خلال ديون جديدة تؤدى إلى زيادة حدة التضخم لا كَبح جماحه، لتكتمل الدائرة حين تأتي التأثيرات السلبية لانخفاض حجم الإنتاج وزيادة تعداد السكان وهما ظاهرتان من شأنهما أن تؤديا إيجابيًا وبشكل معاكسٍ تمامًا إلى تفكيك التضخم إن تمت معالجتهما بأدوات تحقق كفاءة في عدالة التوزيع كفعالية جهود السيطرة على الزيادة السكانية وكتحديد نمط الإنتاج المأمول وأساليب التخطيط له ووسائل تحقيقه وما يترتب على ذلك من خلقٍ لوظائف دائمة.

وإن أضفت إلى كل ما سبق تبعات المؤثرات الخارجية كمعضلات سلاسل الإمداد وارتفاع تكلفة الغذاء والنقل التي نتجت بسبب أزمتي كورونا وأوكرانيا، يتجلى أمامك التداخُل بين الظواهر الاقتصادية واضحًا كشمس النهار بما يؤكد الحاجة إلى ضرورة البدء بتأسيس نظرةٍ كُليةٍ تقوم على تحليلٍ للتأثيرات المُتبادَلة بين تلك الظواهر ليكون تكامل واتساق أساليب التعاطي معها هو “مفتاح” باب الخروج الاقتصادي.

*انظر الصفحتين 18 و19 من كتاب “في نقد التحليل الاقتصادي المعاصر”- طبعة 2015 عن “دار العين للنشر”.

**انظر الصفحة 136 من كتاب “شخصية مصر”، الجزء الثالث- طبعة 1994 عن “دار الهلال”.