لأسباب عديدة تتعلق بقدراته الفقهية والشخصية الفائقة، والمنابر الاعلامية المؤثرة التي أتاحت له مجال تأثير شبه مغناطيسي على ملايين المشاهدين العرب والمسلمين الملمين باللغة العربية يكاد يكون غياب الشيخ يوسف القرضاوي الذي توفي أمس عن 96 عاما هو غياب أهم شخصية في جماعة الإخوان المسلمين سواء من الناحية الفكرية أو المعنوية أو العلاقات والنفوذ السياسي.

وفي حالة الإخوان المسلمين الحالية المتدهورة تنظيميا وسياسيا ومعنويا فإن فقدان الشيخ القرضاوي هو بمثابة فقدان لآخر بوصلة كان يهتدي بها أعضاء جماعة حائرة مزقتها الخلافات التنظيمية وانشقت رأسيا الي حزبين متصارعين يتبادلان يوميا أسوأ النعوت الأخلاقية حول اختلاسات مالية وانحرافات أخلاقية.

فمع انهيار القيادة الراهن وانشطارها إلى جماعتي لندن واسطنبول المتعاديتين وخسارة بقية القيادات العليا للجماعة إما بالموت وإما السجن في السنوات الماضية واختفاء البوصلة التنظيمية الموحدة التي لطالما ميزت التنظيم الحديدي ذي الطابع السري القائم على الطاعة المطلقة.. لم يتبق في السنوات الأخيرة من بوصلة معنوية سوى القرضاوي.

ومن شأن غيابه تعميق جراح الإخوان وزيادة الصعوبات الهائلة أمام أي أمل في إعادة الجماعة التي عرفها العالم منذ 1928.

وكان الشيخ القرضاوي قد تطور وضعه منذ نشأة قناة الجزيرة وبرنامجه المستمر ” الشريعة والحياة ” فيها لربع قرن أو يزيد ليصبح في وضع “المرشد الروحي” للجماعة على المستوى الدولي بل إنه حاول في العقدين الأخيرين -بإنشائه تنظيم الاتحاد العالمي للمسلمين عام 2004- أن يصبح المرشد الروحي للعالم السني كله وأن يحل بشكل غير مباشر محل شيخ الأزهر كي يحوز الدور والمرجعية المعقودين تاريخيا للأزهر الشريف وإمامه الأكبر.

وهي لم تكن المحاولة الأولى لإزاحة الأزهر من مكان الزعامة السنية إذ كان الزعيم الديني الوهابي المرحوم الشيخ عبد العزيز بن باز قد حاول ضمنا أن يصل إليه في مرحلة ما ولم ينجح أيضا.

لمعرفة الأدوار المركزية التي لعبها الشيخ القرضاوي في تسويق الإسلام السياسي أو تسويق ما كان يفضل هو تسميته بـ الصحوة الإسلامية التي بدأت بعد تحالف السادات مع الإخوان المسلمين في مواجهة اليسار داخليا ومع الدول الداعمة للتيار الإسلامي مثل السعودية “في ذلك الوقت ” إقليميا.. ينبغي

أولًا: إدراك مصادر النفوذ الذي امتلكه القرضاوي وملاحظة أنه قد تصاعد باستمرار مع تصاعد نفوذ دول النفط العربية المحافظة عموما على السياسة والثقافة العربية بعد 1973 وتراجع نفوذ مصر ودول المشرق العربي عموما التي بدأت فيها النهضة والحداثة العربية قبل نحو قرنين وربع.

هاجر القرضاوي من مصر إلى قطر منذ أكثر من ستين عاما “1961” ليصبح نجما دينيا مرحبا به في كل دول الخليج حتى ما قبل أحداث وثورات الربيع العربي.. وسعى إلى الاستفادة بشكل خاص من التزايد المستمر في الوزن الإقليمي للدوحة إعلاميا وسياسيا منذ التغيير الهام في هرم السلطة عام 1994 وظهور الجزيرة كأهم مشروع تلفزيوني عربي 1996 .

وتوافرت له منذ ذلك الحين وبشكل متزايد الموارد المالية الغزيرة والمنبر الإعلامي المؤثر والقاعدة الإخوانية البشرية والمعنوية من عدة أجيال والتي كان قد ساهم مع قدامى الإخوان الذين ذهبوا قبله وبعده في أوقات متقاربة في الستينات (أحمد العسال، عبد المعز عبد الستار.. إلخ) في وضع أساسها وزرع بذورها في كثير من مجالات الحياة هناك خاصة مجالات القوة الناعمة ومجالات النفوذ على العقول مثل التعليم والإعلام والمطبوعات وتقديم الفتاوى والاستشارات الدينية والتعليمية لحكام قطر خاصة منذ عهد الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني ذي الاتجاه السلفي.

ثانيًا: تضافرت ثلاثة تطورات ذات طابع إقليمي ودولي لتمنح الرجل وجماعته مرحلة تأثير غير مسبوق في العالم والمنطقة لم يترددوا لحظة في استثمارها وامتطاء موجتها العالية .

– التطور الأول هو هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية على نيويورك من إرهابي القاعدة، ومعظمهم من دول عربية. إذ وصل الأمريكيون لقناعة تبسيطها يرى أن الحكومات الحليفة ولكن المستبدة في الشرق الأوسط أغلقت المنافذ أمام الديمقراطية فخلقت إرهابا ينتحل الدين الحنيف قام بصب غضبه على الغرب الحامي والداعم لهذه الأنظمة وأنه آن الأوان لنشر الديمقراطية وإيجاد بدائل حكم شعبية ولكن بشرط أن تكون قابلة للتفاهم مع الغرب ولا تتعارض أفكارها الاقتصادية والاجتماعية مع النظام الرأسمالي العالمي. وهنا ولكن بشكل خفيف تمت استعادة صلات مع جماعة الإخوان المسلمين كانت منسوجة بقوة منذ عهد الإمبراطورية البريطانية التي احتلت ورسمت حدود ودول المنطقة وورثتها الولايات المتحدة ضمن ما ورثته من نفوذ وتقاليد من هذه الإمبراطورية الآفلة.

– التطور الثاني هو غزو العراق 2003 وهنا حدثت الواقعة الأهم حيث انضم الحزب الإسلامي العراقي (حزب الإخوان المسلمين) هناك إلى القوى الشيعية والكردية التي دعمت إسقاط نظام صدام ودخول الأمريكان والبريطانيين وانضموا لاحقا إلى مجلس الحكم الانتقالي الذي تم تحت وصاية الحاكم الأمريكي للعراق السفير بول بريمر. وتولى الدكتور محسن عبد الحميد زعيم الإخوان في العراق آنذاك إحدى دورات المجلس التي كانت تتم بالتناوب تحت حراب الاحتلال الأنجلو/ أمريكي. (للإنصاف عارضت بعض القواعد الإخوانية في العراق وخارجه هذا التوجه ولكن لم يكن لمعارضتها قيمة عند القيادة).

هنا تبلورت الفكرة الرئيسية للتقارب: ها هو تيار شعبي جارف عنده القدرة علي التعاون مع الغرب حتى في لحظة إذلال قومي سوداء كغزو بلد عربي وإسلامي وهو من دون شك يصلح حليفا في بلاد عربية أخرى ليحل محل الحكومات العلمانية الاستبدادية القائمة والتي أصبح تحالفها عبئا على واشنطن بل سببا للهجوم حتى على الأراضي الأمريكية كما حدث في 11 سبتمبر.

لقد أعطت قيادة الإخوان العالمية المتمثلة في مرشد الإخوان في مصر ومكتب الإرشاد وقتها الضوء الأخضر لإخوان العراق للمضي قدما في التحالف مع هياكل السلطة التي أنشأها الاحتلال، ورفضوا كل المحاولات بما فيها محاولات مضنية -من كاتب هذه السطور- لإدانة سلوك التعاون مع المحتل، وخرج وقتها المرحوم الدكتور عصام العريان على “الجزيرة” ليقول ما فحواه: إن إخوان العراق أدرى بساحتهم وإن هذا نهج إخواني ثابت يقضي بأن كل تنظيم إخواني في بلد ما أعلم بظروف بلده.

– التطور الثالث هو تطور مصري محلي، ففي العام 2005 حصل الإخوان المسلمون في مصر على 88 مقعدا في الانتخابات البرلمانية، وهو ما اعتبره التنظيم والشيخ القرضاوي بمثابة إشارة الانطلاق الأهم ليسرعوا من خطاهم في حلم التمكين وأن ما انتظروه بصبر على مدى ٧٥ عاما من تحقيق لحلم المؤسس حسن البنا في الوصول إلى السلطة وإقامة الخلافة الإسلامية وأستاذية العالم قد اقترب كثيرا.

وإذا كانت الصلات قديمة بين الجماعة والدول الغربية خاصة بريطانيا فإن فوز الإخوان بنحو خُمس مقاعد البرلمان في أكبر دولة عربية كان بداية مرحلة متقدمة ومنتظمة في الاتصالات، خاصة مع القوة الأعظم الولايات المتحدة التي كان قد بدأ يصيبها اليأس من تبني النظم العربية القائمة إصلاحات ديمقراطية حقيقية، وبدأت علاقات واشنطن منذ عهد الرئيس بوش الابن في التوتر المكبوت أحيانا أو الظاهر أحيانا أخرى “من أمثلته الصارخة دبلوماسيا مغادرة الرئيس المصري حسني مبارك مؤتمرا صحفيا عقد في شرم الشيخ مع بوش الابن قبل أن يلقي الأخير كلمته وكان مبارك فيما يبدو قد عرف مسبقا بفحواها وتضمنها علي نقد لسجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر ودعوة لإصلاحات سياسية بنيوية حقيقية “. وهي إصلاحات نعرف جميعا أن مبارك أخفق في إجرائها طواعية فكانت ثورة 25 يناير في جزء من دوافعها نتيجة هذا الإخفاق وردا شعبيا عليه أطاح به في 11 فبراير 2011.

أدوار القرضاوي

مع استقرار استيلاء مجموعة النظام الخاص على جماعة الإخوان وضعف الكاريزما وحتى القدرات الفكرية مقارنة بالمؤسس أو حتى عمر التلمساني المرشد الثالث بدت الحاجة ملحة إلى شخصية إخوانية عامة ذات وزن فكري وفقهي غير مختلف عليه ويمتلك مصادر وموارد قوة معنوية ومادية وشبكة علاقات نافذة مع قادة وحكومات عربية وإسلامية. وكانت كل هذه الشروط منطبقة علي الشيخ القرضاوي أكثر من أي شخصية أخرى في الإخوان.

  • دور حلال العقد: مع تصاعد الخلافات مع الجناح الذي يمثله تيار العمل العام الذي خرج من اتحادات الطلاب للجماعة الإسلامية في السبعينات بقيادة عبد المنعم أبو الفتوح مع التيار التنظيمي الذي أصبح زعيمه الفعلي والمسيطر خيرت الشاطر بدأ الشيخ القرضاوي (ورغم ميله النفسي النسبي لأبو الفتوح) وسيطا يسعى إليه الطرفان بشكل دوري لتهدئة الخلافات وإطفاء حرائق داخلية قبل أن تشعر بنارها القواعد الإخوانية أو تمتد إلى العلن ووسائل الإعلام.

 

  • دور الوسيط والشفيع: سخر الشيخ القرضاوي نفوذه الفقهي خاصة في مجالات الفتوى ونفوذه السياسي لدى قادة وحكام عديدين في وضع شخصيات وكوادر إخوانية في مواقع نفوذ كبيرة ومؤثرة سياسية وإعلامية في بلدان عربية مختلفة، ويدين هؤلاء بالفضل فيما حصلوا عليه من فرص أو من منع من الإطاحة لعطف الشيخ الأيدلوجي والشخصي عليهم. كما وفر الحماية والإفلات من مشكلات مختلفة واجهت كوادر إخوانية أخرى تعرضت لمشكلات أو متاعب في بلاد متعددة.. كما كان الشخصية الأكثر قبولا من متجهمي التيار القطبي من مصطفى مشهور إلى مأمون الهضيبي ومن مهدي عاكف إلى محمد بديع للوساطة بين جماعات الإخوان في العالم وحل خلافاتها داخليا.

 

  • دور المرشد الروحي للجماعة التي تستطيع تحت جناح إنتاجه الفكري الغزير وسطوته الإعلامية المكثفة أن تسوق لأنها تغيرت وأصبحت أكثر اعتدالا خاصة عندما كان يصدر فتوى أو يطلق آراء سياسية وهو محاط في لحظتها بمفكرين إسلاميين أكثر اعتدالا مقارنة بآخرين مثل د سليم العوا والأستاذ فهمي هويدي.

 

  • دور المحرض السياسي، وهو دور ظهر بوضوح في مرحلة الربيع العربي أكثر من أي وقت سابق، إذ اشتبك الشيخ كثيرا –للأسف- مع السياسة وهو لا يجيدها، فدعا حلف شمال الأطلسي الناتو إلى التدخل في سوريا وليبيا وهو دور كافأته الجماعة في مصر عليه بصورة استفزت وقتها القوى السياسية المصرية استفزاز بالغا. وكانت في نظر كثيرين بداية الانقسام في صفوف ثورة ٢٥ يناير وأول ملامح السعي الإخواني للتمكين والاستيلاء على الثورة وطرد جميع القوى السياسية الأخرى.

هذه الصورة هي حصار منصة رئيسية من منصات ميدان التحرير يوم 18 فبراير 2011 (أطلق عليها جمعة النصر) ولم تسمح سوى للشيخ القرضاوي القادم في زيارة من قطر حتى يبدو كزعيم ملهم للثورة المصرية، وحتى يبدو الإخوان كصناع لها ورفضوا بقوة العضلات من ميليشياتهم الشبابية أن يصعد للمنصة أي شخص آخر لمخاطبة الحشود الهائلة.

وامتد المنع حتى إلى شخصيات إسلامية جذرها في الإخوان وقريبة بشكل شخصي للقرضاوي منهم الدكتور سليم العوا الذي منع بقسوة وقتها من اعتلاء المنصة ومشاركة الشيخ الذي نظر إليه من الجماعة بوضوح كرمز إخواني صريح لا لبس فيه يجسد إعلان الهيمنة على الميدان وإعلان الهيمنة – من طرف واحد- على ثورة يناير كلها.

تراجع هائل في نفوذ الرجل القوي حدث بعد انهيار حكم الإخوان في مصر وتراجع النهضة في تونس وكراهية جماعات ليبية كثيرة لأداء الإخوان في ليبيا وانهيار نفوذ إخوان السودان في مرحلة سقوط نظام البشير “الإسلامي”.

هل يفسر هذا التراجع ميل الشيخ القرضاوي إلى السلفية والتراجع النسبي عن أفكار معتدلة أبداها في أوقات سابقة على تشدد المودودي وسيد قطب ليعود للاحتفاء الشديد بالمودودي في كتاب حديث له؟.

الحقيقة لم يكذب تقرير صحفي قال مباشرة إن الشيخ كان دوما بين السلفية والتجديد، وقد غلبته فيما يبدو إحباطات السياسة في الفترة الأخيرة فأخذته نحو السلفية أكثر من التجديد، خاصة وقد ضعف اتصاله في الأعوام الأخيرة مع أصوات معتدلة مقارنة بغيرها في الحالة الإسلامية مثل المهندس أبو العلا ماضي والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وبات الأقرب إليه هم الفارون من مصر وغيرها والمملوءة نفوسهم بمشاعر المظلومية والسخط.

انصب هذا المقال على الدور العام والسياسي والذي غلب نسبيا على دور الشيخ الفكري والفقهي. وهذا الدور الأخير من نصيب المتخصصين في الفكر والفقه الإسلامي ومن نصيب الزمن أيضا وما سيستقر عليه حكم أجيال قادمة، إذ إن متخصصين لفتوا نظري إلى أن كتبا فكرية تناقش معارك فقهية خلافية له منعت الجماعة تدريسها في الأسر الإخوانية مثل كتب فقه الأقليات المسلمة وفقه الزكاة والحلال والحرام في الإسلام لما احتوته على تعارض مع قديم الإخوان الراكد فكريا وتربيتهم المعادية للنقاش والاختلاف. هذا الدور نتركه لأهله وللراسخين في العلم في الأزهر الشريف وغيره من المؤسسات الوسطية.