أصدر البنك المركزي المصري بيانًا يوم الخميس الماضي الموافق 22-9-2022 أعلن فيه عن قرارين؛ الأول: تثبيت أسعار الفائدة عند 11.25% و12.25%، والثاني زيادة نسبة الاحتياطي النقدي الإلزامي من 14% إلى 18%.
وسرعان ما انتقل البيان من وسائل الإعلام لصفحات التواصل الاجتماعي، مصحوبًا بتوقعات وتحليلات ومخاوف، طغى عليها الطابع اللوغاريتمي، وبدا الأمر كشفرة يصعب على غير المتخصصين إدراكها وفك طلاسمها.
ما معني تلك القرارت؟ لماذا تصدر الآن؟ ما انعكاساتها على المواطنين؟ لماذا انشغل المحللون بالقرار الأول الذي لم يأتِ بجديد، وتجاهلوا الثاني رغم أهميته البالغة؟
أسئلة منطقية يسعى هذا التقرير لتبسيطها والإجابة عليها…
القرار الأول: تثبيت سعر الفائدة
ارتبط تعبير “سعر الفائدة” في أذهان الناس بالفوائد التي يتحصلون عليها من ودائعهم في البنوك، مغفلين أن ذلك السعر ينطبق أيضًا على القروض، والتي تتحكم بدورها في حركة السوق وأسعاره، وهو ما ينعكس في النهاية عليهم، فما يدفعه لك البنك (كمودع) يحُصله من المستثمر (كمقترض) بفوائده، ليعود المستثمر ليأخذها منك (كمستهلك) مضيفًا إليها أرباحه.
وعليه فارتفاع سعر الفائدة لا يصب دائما في مصلحتك كما قد يبدو لك.
كيف يتم تحديد سعر الفائدة؟
الأمر المثير للدهشة أنه في الوقت الذي يحصل المودع في البنوك المصرية على فوائد تجاوزت في فترة من الفترات حاجز الـ 18%، تجد البنوك الأوروبية والأمريكية تعطيك أحيانًا 1% فقط فهل تخسر بنوكهم وتكسب مصارفنا؟
تحديد سعر الفائدة بشكل عام يتم بناءً على فلسفة الدولة الاقتصادية، وما الذي تستهدفه الآن.
فإذا كانت الدولة ترغب في جذب استثمارات، فإنها تخفض سعر الفائدة، وبذلك يصبح “تشغيل” الأموال في السوق أفضل من “ركنها” في البنوك، ويصبح أسهل للمستثمر أن يقترض من البنوك بفائدة قليلة، تمكنه من إقامة مشاريع أكثر.
أما إذا كانت الدولة تعاني من تضخم (الكاش في السوق أكثر من البضاعة المعروضة)، فإنها ترفع سعر الفائدة، وبذلك تغري المواطنين على وضع أموالهم في البنوك وربطها كودائع – لاحظ التعبير “ربطها” – وبالتالي تسحب الكاش من السوق، فيقل التضخم.
ومن أبرز الأمثلة العالمية على ذلك التكنيك، كان قرار محافظ البنك الفيدرالي الأمريكي “بول فولكر”، في عام 1980 رفع سعر الفائدة في البنوك الأمريكية إلى 20% لمواجه التضخم، لكن سرعان ما عاد معدل الفائدة إلى معدلاته الطبيعية في حدود الـ 4% خلال عامين.
رحلة رفع سعر الفائدة في مصر
نظرة سريعة على معدلات الفائدة في بلدان شتى ومقارنتها بمصر سنجد الفروق شاسعة. ففي أغلب دول الاتحاد الأوروبي حاليًا النسبة تقريبًا 2% – إنجلترا 2.5% – إسرائيل 2% – الهند 5.4% – أمريكا 4.4% أما مصر فالنسبة الآن 11.25%.
لم تكن النسبة لدينا بعيدة كل هذا البعد منذ البداية، فحتى عام 1977 كان سعر الفائدة في مصر يتناغم مع معدل سعر الفائدة العالمي، وهو تقريبًا 6%، حينها، لكنه أخذ بعد ذلك يرتفع سنويًا بنسبة مضطردة حتى وصل إلى 16% عام 1989.
تلك الزيادة المستمرة في تحديد سعر الفائدة البنكية لدينا، ناجمة عن عوامل أكثر تعقيدًا من سؤال (جذب الاستثمار أم مواجهة التضخم؟).
أحد تلك العوامل – شديدة الخصوصية – كان خوف الحكومات المصرية المتعاقبة من “الدولرة”، وهو تحويل المواطنين مدخراتهم إلى الدولار وتخزينه.
ففي منتصف الثمانينيات، ومع زيادة تحويلات المصريين في الخليج والذي تزامن مع هزات في العملة المصرية، بدأ العائدون من بلاد النفط في ادخار أموالهم كدولارات – تحت البلاطة – وهو ما نجم عنه فضلًا عن ركود السوق، أزمة حقيقية في توفير العملة الصعبة.
لدرجة أن الدولة كانت تلجأ إلى تجار العملة لتدبير لها احتياجاتها من الدولارات عند كل موعد تسديد قسط من أقساط الديون، أو الحاجة لاستيراد شحنات قمح عاجلة!
حتى أن سامي حسن (إمبراطور تجارة العملة حينها) صرح للجرائد: أنه كان يوفر العملة الصعبة للدولة، بدلًا من البنك المركزي في الثمانينيات.
تلك الأزمة في العملة الصعبة دفعت الدولة لاتخاذ عدة قرارات، كان من ضمنها قرار البنك المركزي برفع الفائدة البنكية.
الفكرة كانت أن المواطن يخزن أمواله كدولارات لأنها أكسب، فإن زادت الفائدة البنكية وصارت مربحة له أكثر من الدولارات، هنا سيفك الحصالة ويودع أمواله في البنوك، وبذلك تسيطر الدولة على الدولار… وهو ما حدث بالفعل.
لكن على صعيد آخر تسبب رفع الفائدة على القروض، في جعل الاستثمار أصعب، وأضافت على كاهل المستثمر عبء فوائد القروض العالية التي وصلت 20%، وبطبيعة الحال قام بتحميلها على سعر المنتج النهائي، ليتحمل الزبون التكلفة.
في حين ارتأى بعض صغار المستثمرين، أن فائدة البنوك أصبحت أفضل من الاستثمار ذاته، فجمدوا أموالهم في ودائع بنكية، مفضلين الانسحاب من السوق باستثماراتهم الصغيرة والمتوسطة.
المصلحة في مواجهة المخاوف
بشكل نظري بحت، فإن مصلحة الدولة المباشرة في هذه اللحظة هي “تخفيض” سعر الفائدة وذلك لسببين:
أولًا: أن المقترض الأكبر من البنوك حاليًا هي الدولة نفسها، التي تجاوز حجم دينها الداخلي (أموال اقترضتها الحكومة من البنوك المصرية) 240 مليار دولار، وعليه فإن تخفيض سعر الفائدة سيؤدي إلى تخفيف عبء خدمة الدين (فوائده) من على كاهل الحكومة.
ثانيًا: خسارتنا النسبية مؤخرًا لفيض الأموال الساخنة، وهي الأموال التي كانت تأتي لتستثمر لدينا في أذون الخزانة (قروض قصيرة الأجل لمدة عام)، أو في سندات الخزانة (قروض طويلة الأجل، بفائدة عالية).
ولا ينتظر أن تأتي تلك الأموال إلى مصر كما اعتدنا، بعد أن رفعت الولايات المتحدة سعر الفائدة في بنوكها ليتجه الجميع صوبها.
لذلك يبدو الأمر مربك، فمن جانب الاستمرار في تلك النسب المرتفعة من الفوائد على القروض بات عبئًا لا مكاسب منه على كاهل المقترض الأكبر من البنوك، وهي الدولة.
وفي الوقت نفسه، تخفيضه لن يجذب المستثمرين إلى بنوكنا للاقتراض والاستثمار، في لحظة مرتبكة كتلك التي نمر بها، بالعكس قد ينجم عنه ارتفاع معدلات التضخم وهو آخر شيء ترغب الدولة في حدوثه الآن.
لذا قرر البنك المركزي تثبيت الوضع لحين أن يلوح في الأفق جديد، لكن في نفس الوقت؛ اتخذ قرارًا آخر شديد الدهاء، بزيادة نسبة الاحتياطي النقدي الإلزامي إلى 18% وهو القرار الأكثر أهمية وفاعلية من قرار تثبيت الفائدة، وإن لم يلتفت له الكثيرون
لماذا اتخذ المركزي زيادة نسبة الاحتياطي الإلزامي؟ وما هو معنى ذلك القرار ونتائجه؟
هذا ما سنناقشه في الحلقة القادمة.. فابقوا معنا.