«لم يعرف الرئيس جمال عبد الناصر البكاء في حياته إلا مرتين، الأولى عند انفصال سوريا ومصر، والثانية عندما علم بخبر وفاة الضابط اليمني علي عبد المغني»، هذا ما أكده الكاتب الصحفي الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه «سنوات الغليان»، مدللا على تأثر عبد الناصر الشديد بخبر استشهاد مؤسس تنظيم الضباط الأحرار اليمنيين الذي قاد ثورة 26 سبتمبر 1962 ضد الُحكم الإمامي وتمكن مع رفاقه من إسقاط المملكة المتوكلية وتأسيس الجمهورية اليمنية.
في نهاية عام 1961 رفع القائم بأعمال السفارة المصرية في اليمن السفير محمد عبد الواحد تقريرا إلى جمال عبد الناصر، وصف فيه الضابط الشاب علي عبد المغني والذي لم يكن حينها قد بلغ خمسة وعشرين عاما بعد بأنه الزعيم الفعلي لتنظيم الضباط الأحرار، وهو المعني بالتخاطب والرد على أي استفسارات تطلبها القيادة عن التنظيم العسكري الذي كان قد بدأ تحركه ضد حكم الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين بالفعل.
قبل اندلاع ثورة 26 سبتمبر بشهور طلبت القاهرة من عبد الواحد أن يجتمع بقائد التنظيم الشاب، وبالفعل قابل عبد الغني القائم بالأعمال المصري وعرض عليه الخطوات التي اتخذها عدد من ضباط الجيش في سبيل التخلص من الحكم الإمامي، وطالبه بأن تمد مصر يد العون إلى ثوار اليمن، فطلب منه عبد الواحد أن ينتظر يومين حتى يتمكن من عرض الأمر على القيادة في القاهرة.
وعندما اتصل عبد المغني مرة ثانية بالقائم بالأعمال فوجئ بأن مصر تطلب تفصيلات أكثر عن طبيعة عمل هؤلاء الضباط وتوجهاتهم وأهدافهم، فرجع عبد المغني لتنظيم الضباط الأحرار اليمنيين، وجرت مناقشات عديدة انتهت إلى أن مصر لن تقدم أيّ عون إلا بعد أن تتأكد من أنهم يملكون القدرة على التغيير.
اتخذت اللجنة القيادية لتنظيم الضباط الأحرار قرارا بأن ينقلون إلى الجانب المصري بعض التفاصيل منها طبيعة تكوين التنظيم العسكري السري الذي تم تأسيسه على غرار تنظيم الضباط الأحرار المصري، ورؤيتهم وتصورهم لطبيعة النظام بعد إسقاط الحكم الإمامي، والتقى عبد المغني مجددا بالقائم بالأعمال المصري وعرض عليه التفاصيل التي أراد معرفتها وطلب منه الحصول على رد القاهرة في أقرب وقت.
وبعد أيام تلقى تنظيم الضباط الأحرار اليمنيين رد القاهرة في ورقة حملت توقيع جمال عبد الناصر نقلها القائم بالأعمال المصري في صنعاء جاء فيها «نفّذوا، وسأفي بكل التزاماتي.. جمال عبد الناصر».
وما هي إلا أسابيع قليلة وأبحر الملازم علي عبد المغني على متن باخرة مصرية من ميناء المخا، متوجها إلى شرم شيخ وهناك التقى بالرئيس المصري وحصل منه على تعهدات بدعم ونصرة الثورة اليمنية.
بعد عودته من مصر نظم عبد المغني انتفاضة طلابية، في مدن صنعاء وتعز والحديدة، بهدف دفع اليمنيين إلى حماية الثورة الوليدة، حتى تتمكن من تنفيذ هدفها والإطاحة بالإمام أحمد.
أعد عبد المغني البيان الأول للثورة والذي شمل 6 أهداف، تم استلهام معظمها من أهداف ثورة 23 يوليو المصرية، وتمثلت أهداف الثورة اليمنية في:
* التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتها وإقامة حكم جمهوري ﻋﺎﺩﻝ ﻭﺇﺯﺍﻟﺔ ﺍﻟﻔﻮﺍﺭﻕ ﻭﺍﻻﻣﺘﻴﺎﺯﺍﺕ ﺑﻴﻦ الطبقات .
* بناء جيش وطني قوي لحماية البلاد وحراسة الثورة ومكاسبها.
* ﺭﻓﻊ مستوى الشعب اقتصاديا ﻭاﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺎ ﻭﺳﻴﺎﺳﻴا ﻭﺛﻘﺎﻓﻴا .
* إنشاء ﻣﺠﺘﻤﻊ ﺩﻳﻤﻘﺮﺍطي ﺗﻌﺎﻭﻧﻲ ﻋﺎﺩﻝ يستمد أنظمته ﻣﻦ ﺭﻭﺡ الإسلام الحنيف .
* ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺗﺤﻘﻴﻖ الوحدة الوطنية في نطاق الوحدة العربية الشاملة.
* احترام مواثيق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والتمسك بمبدأ الحياد الإيجابي وعدم الانحياز والعمل على إقرار السلام العالمي ودعم مبدأ التعايش السلمي بين الأمم.
وفي ليلة الـ26 من سبتمبر تفجّرت الثورة، بعد أن بادرت مجموعة من الضبّاط بقصف مقرات النظام الإمامي وأعلنوا عن تشكيل مجلس لقيادة الثورة من عدد من الأعضاء، برئاسة العقيد عبد الله السلال، وكان الملازم عبد المغني أحد أعضاء هذا المجلس.
«في صباح يوم 26 سبتمبر 1962 لم تعد الأمور طبيعية في اليمن، فقد أعلنت إذاعة صنعاء صباح ذلك اليوم عن قيام انقلاب قاده العميد عبد الله السلال، وأن هذا الانقلاب استولى على السلطة بعد مقتل الإمام، في معركة مسلّحة دارت على أبواب قصره في صنعاء، وبعثت السفارة المصرية في اليمن ببرقية تقول فيها إن القادة الحقيقيين للثورة مجموعة من الضبّاط الشبّان أبرزهم العقيد عبد المغني»، يقول هيكل في كتابه «سنوات الغليان».
عاش علي عبد المغني منذ ريعان شبابه مهموماً بقضايا وطنه الذي كرس حياته من أجل حريته واستقلاله منذ أن كان طالباً في المدرسة الثانوية وكان دائما يحدث أصدقائه عن عظماء الرجال في العالم وما صنعوا من معجزات وكيف حرروا شعوبهم، ويتطرق إلى ظلم الإمامة للشعب اليمني «لولا الإمامة ما بقي المستعمر البريطاني في جنوب الوطن».
في عام 1956 عندما تعرضت مصر للعدوان الثلاثي نظم علي عبد المغني مظاهرة طلابية لدعم مصر ضد القوى الاستعمارية، وألقى القبض عليه هو وعدد من زملائه وسجن في «الرادع» لفترة.
في عام 1958 فتحت الكلية الحربية باب القبول لدفعة ثانية وتقدم علي عبد المغني للالتحاق بالكلية وتخرج منها بامتياز، ثم التحق بمدرسة الأسلحة والتي تعرف فيها على عدد من خريجي الحربية والطيران والشرطة منهم رفيق دربه ونائبه في التنظيم محمد مطهر.
وفي ديسمبر من عام 1961، وبعد مناقشات مع عدد من الضباط الذين شاركوا في انقلابات سابقة على حكم الإمامة وآخرين من الضباط الصغار تأسس تنظيم الضباط الأحرار في اليمن الذي أخذ طابع السرية في عمله وتحركاته مثله مثل الحركات التحررية الأخرى في الوطن العربي، وتولى عبد المغني مسئولية إحدى خلاياه وكانت تضم عشرة أعضاء.
وفي الساعة الحادية عشرة من مساء الخامس والعشرين من سبتمبر 1962 توجهت قوات الجيش إلى «دار البشائر» التي كانت مقرا للإمام البدر وما أن وصلوها بالمدرعات حتى وجهوا نداءً بمكبرات الصوت يدعو الإمام البدر الذي تولى الحكم عقب وفاة والده الإمام أحمد للاستسلام مع أفراد الحرس الملكي، لكنهم أطلقوا النار بكثافة ما دفع الضباط الأحرار لقصف دار البشائر.
وفي صباح يوم السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962 ارتقى محمد الفسيل منصة إذاعة صنعاء ليقرأ أول بيان أعلن فيه اندلاع الثورة وسقوط عرش الإمامة إلى الأبد، وبعد ذلك عُين علي عبد المغني عضوًا فيما عرف بـ«مجلس القيادة»، إلى جانب العقيد عبدالله السلال، وعبد الله جزيلان، وعبد السلام صبرة وآخرين.
بعد أيام من قيام الثورة والجمهورية قاد عبد المغني حملة عسكرية إلى منطقة «حريب» في مأرب لمواجهة الحشود الملكية التي بدأت تستعد لإعلان الحسن بن يحيى حميد الدين إمامًا بمساعدة خارجية، واستشهد عبد المغني في هذه المعركة وعمره 25 عاما.
بعد رحلة قصيرة من النضال ارتقى «توأم عبد الناصر» بحسب ما وصفه عضو مجلس قيادة الثورة عبد الغني مطهر في كتابه «يوم ولد اليمن مجده»، وبرحيله خسر اليمن واحدا من المناضلين والأحرار العظام الذين وهبوا أنفسهم منذ اليوم الأول لمجابهة الظلم والطغيان وللانتصار للحرية.
رغم مرور 60 عاما على اندلاع الثورة اليمنية لاتزال سيرة الشهيد علي عبد المغني باقية في مخيلة اليمنيين الذين لايزلون يبحثون عن الحرية والاستقرار. أسقطت ثورة سبتمبر نظام الإمامة الكهنوتي الرجعي المتخلف وحكم الطغاة من بيت حميد الدين، وأعلنت الجمهورية ومهدت لثورة 14 أكتوبر التي حررت الجنوب اليمني من الاستعمار البريطاني.
نقلت ثورة 26 سبتمبر اليمن من عصور البداوة والتخلف والجهل وتمكن اليمنييون بمساعدة مصر من وضع قواعد مرافق الدولة الحديثة من مدارس ومستشفيات وطرق ومواصلات وغيرها، لكن الخلافات والمؤمرات والحروب المستمرة واستبداد أنظمة الحكم حالت دون تحقيق حلم الدولة القوية المكتفية الديمقراطية العادلة التي حلم بها أهل اليمن ولايزالون.