هذه هي المقالة الثانية التي تتناول كتاب” تفكيك النص.. قراءة ثقافية في الخطاب الشعري الإسرائيلي” للدكتوره ناهد راحيل، وفيها نتناول أزمة النموذج الصهيوني كما تتجسد بشكل واضح في كتابات اليهود الشرقيين الذين يعيشون داخل المجتمع الإسرائيلي بخلفيات ثقافية مغايرة، لا يمكنهم التخلي عنها بسهولة، أو بتعبير أدق لا يمكنهم تجاهلها والاندماج في المتن الرسمي للدولة.. ويقف إلى جوار هؤلاء -من منظور مختلف- الكتاب أصحاب الهوية الجنسية المختلفة الذين يجدون صعوبة بالغة في التعايش والإعلان عن هويتهم حتى بعد الاعتراف الرسمي بهم.

سنتناول هنا شاعرين يمثلان كلا التيارين، الأول هو الشاعر العراقي الأصل “ألموج بيهار” ، والثاني هو الشاعر المثلي “إيلان شينفلد”.

“ألموج بيهار”

يمكنك أن تصنف شعر “ألموج بيهار” (1974-  ) ضمن تيار ما بعد الاستعمار في الشعر والفنون عامة؛ إذ يتناول الشاعر موقع اليهود الشرقيين في الثقافة الإسرائيلية باعتبارهم هامشًا في مقابل المتن الإشكنازي الغربي الذي يمثل الهوية العامة للدولة.

ففي ديوانه “قصائد إلى أسرى السجون” -موضوع الفصل الثالث- تلاحظ الناقدة راحيل تأثر الشاعر الواضح بجذوره الشرقية، باعتبارها ماضي الذات أو هويتها التي يحاول المتن “الصهيوني” نزعها أو صهرها في هوية الدولة، مما يعد “شاهدًا على فشل البنية الحالية للمجتمع الإسرائيلي، الذي عمل على محو هذا الماضي الشرقي والعربي، والتهوين من سياقاته التاريخية ودوره الحضاري، ودعا إلى إلغائه، ليس فقط لأفضلية الثقافة الغربية طبقًا للتصور الصهيوني، ولكن أيضًا لأن “الشرقية” هي هوية العدو الذي يجب قمعه”. (ص133)

تبدو مفردة السجن هنا ذات طاقة ترميزية واضحة؛ فالسجن يتجاوز الفضاء المادي المتعين إلى المعنى الواسع الذي يشير إلى القوى المهيمنة والأنساق القامعة، ولذلك كان ديوان “ألموج بيهار” محاولة لتأكيد التعدد والتنوع مقابل الهيمنة المركزية، فتتناثر في نصوصه الأصوات المهمشة من مختلف الثقافات، من “العبرية والعربية والأوربية والأفرو- أمريكية، إلى نصوص غير أدبية كالأغاني الفولكورية والألحان الموسيقية المستمدة من المنظومة الثقافية العربية”. (ص133)

وكان هذا المزج عملًا مقصودًا، ليس لأن اللغة مجرد وسيلة أو أداة، وإنما لأنها فيما يقول محمد بنيس، “كلمات الآخرين وأصواتهم في النسق الاجتماعي ولأن كل صوت هو بالضرورة ثنائي، إن لم يكن يحمل صفة البوليفونية أو تعدد الأصوات”. (ص137)

بما يعني أننا إزاء نصوص تفسح المجال للأصوات الأخرى لتعبر عن نفسها أو لتمثِّل نفسها في مواجهة المتن الذي يعمل على قمعها واستبعادها، وهذا الهدف هو ما يحاول خطاب ما بعد الاستعمار القيام به، سواء في الثقافة الإسرائيلية أو في غيرها من الثقافات، ولكنه داخل المجتمع الإسرائيلي يكتسب بعدًا خاصًا فيما تقول الناقدة الإسرائيلية “إيلا شوحط” في ملاحظتها على “طبيعة العلاقات بين اليهود والعرب الفلسطينيين من ناحية، والإشكناز واليهود الشرقيين في الشرق الأوسط من ناحية أخرى، فقد توجهت الصهيونية إلى اليهود الشرقيين بخطاب هيمنة، محددة عدم إمكانية دمج هويتين معًا، وأن هناك تعارضًا واضحًا في الجمع بين “يهود” و”عرب” فأن تكون يهوديًا أوروبيًا أو أمريكيا فهو أمر مقبول، أما أن تكون يهوديًّا عربيًا فهو أمر مفارق لا يقبله المنطق”. (ص150)

ففي قصيدة “معلقون بالهواء” ينسج “ألموج بيهار” شبكة من التناص الموسّع مع أصوات ونصوص مختلفة الانتماءات، يقول:

“طائرة أميرة هس مازالت معلقة في الهواء/ منذ أجيال، بين بغداد والقدس/ لم تقلع ولم تحط/ حقيبة محمود درويش التي لا يمكن حزم وطنًا (هكذا) بداخلها/ والتي لا أفضل منها لمنفيّ وللاجئ/ تعبر كل مرّة عبر ماكينات التفتيش/ الأمني بالمطارات”. (ص153)

فالنص هنا يفتتح شبكته الكثيفة بـ”التعالق النصي” مع طائرة الشاعرة العراقية الأصل “أميرة هس” التي وردت في ديوانها الذي يقاوم أنساق التمييز التي تمارس ضد اليهودي الشرقي: “لا توجد امرأة حقيقية في إسرائيل”، كما أن دال الحقيبة يشير إلى محمود درويش، بوصفه أحد الدوال/ أو المفاهيم الأساسية ذات الطاقة الترميزية الكثيفة في أعماله، وقد وردت في قصيدته “يوميات جرح فلسطيني” حيث يقول:

“آه يا جرحي المكابر/ وطني ليس حقيبة/ وأنا لست مسافر/ إنني العاشق والأرض حبيبة”.

ولا تتوقف عمليات الاستدعاء وتداخل الأصوات عند هذا الحد، وإنما تتسع لتشمل عدة مشاهد من تاريخ التمييز والقمع في الأندلس (محاكم التفتيش)، وما انتهى إليه المصير اليهوديّ والإسلامي في تلك البلاد، وهو بذلك يقوم بعملية إسقاط على المصير الفلسطيني واليهودي الشرقي الآني في فلسطين؛ فكلاهما يعاني التمييز من قبل السلطة المهيمنة.

ولعل أهم ما في هذا الفصل هو قدرته على مقاربة الإشكال الثقافي داخل إسرائيل وانفتاح الشعر على التعددية الثقافية التي تضفي عليه قدرًا من المصداقية في تناول القضايا المختلفة، قضايا اليهود الشرقيين وقضايا العرب داخل إسرائيل.

الجنسانية وخطاب المثلية:

الجنسانية مصطلح حديث نسبيًا، راج مع توسع الدراسات الأنثربولوجية للجنس في أواخر القرن التاسع عشر، وقد تختزل دلالته ليقتصر على وصف أنماط الممارسات الجنسية التي تتعلق “برغبات بعينها، وميل جنسي تجاه شريك مغاير أو مماثل نوعيًا”.. وقد تتسع دلالة المفهوم لتغدو الجنسانية الطريقة التي تدار بها الحياة الجنسية بمعناها الواسع والشامل؛ فهي العلم الذي يسمح بالكشف عن الوسائل التي تستطيع الذات بواسطتها الإفلات من ضغوط السلطات التي تحدد رغائبها وتؤطر سلوكياتها، والتمرد على المعرفة تصادر حضورها وطرق تمثيلها”. (ص207)

وهناك كثير من الشعراء في المجتمع الإسرائيلي يمثلون هذا التيار، كـ: “يوتام رؤفيني، ومردخاي جولدمان، ووحازي لسكلي، ورامي سعري، ودوري منور.. وغيرهم.

تخصص الناقدة راحيل الفصل الرابع الذي جاء بعنوان “خطاب المثلية الجنسية”. للشاعر “إيلان شينفلد” (1960-  )

“إيلان شينفلد”

وإيلان شاعر وروائي ومسرحي، وترتكز جهوده- بشكل عام- على محاولة تقريب الفجوة بين العلمانية والتراث اليهودي. وتتناول “راحيل” خطاب المثلية في شعر إيلان بوصفه دالًا على ممارسات أو خصائص هوية محددة، وتتتبع التقنيات المختلفة التي ترسخ بها هذا الخطاب في الشعر الإسرائيلي منذ سبعينيات القرن الماضي، ولم يزل فاعلًا ومؤثرًا حتى الآن.

ومن الضروري هنا أن نشير إلى رفض المجتمع اليهوديّ لمثل هذا الخطاب، بل والنظر إليه باستمرار بوصفه جريمة وشذوذًا، وهو ما نقله –من ثم- إلى خطابات الهامش، وهذا الموقع المهمش أو المقموع هو ما يبرر مقاربته من زاوية النقد الثقافي أو خطاب ما بعد الاستعمار، الذي ينحاز بشكل واضح إلى الخطابات المقموعة.

وبفضل دفاع منظمات مثل “رابطة الحفاظ على حقوق الفرد” عن حقوق المثليين، فقد اضطرت الدولة إلى الاعتراف بوجود أصحاب الهوية المغايرة عام 1998م، وإن لم يسمح لهم بالمساواة الحقوقية والاجتماعية الكاملة. (ص220)

الخروج من الخزانة

وهو تعبير صاغته الناقدة الإسرائيلية “فيفيان كاس”، وتقصد به “المرحلة التي يقرر خلالها الإنسان الكشف عن صفات تخصه قد يرى الآخرون بها ما يعيب أو يدين، وحين الحديث عن أصحاب الهويات الجنسية المثلية، فيكون القصد هو الإعلان عن الميل الجنسي المختلف عن الميول الجنسية المشروعة عقائديًا والمتعارف عليها اجتماعيا”. (ص222)

وتحدد “كاس” ست مراحل للخروج من الخزانة، وهي:

ارتباك الهوية، مقارنة الهوية، التسامح مع الهوية (إدراك الاختلاف)، قبول الهوية، الفخر بالهوية، صناعة الهوية (اقتحام المجتمع والتفاعل معه وفق محددات هذه الهوية).

وتحاول الناقدة راحيل تطبيق هذه المراحل على شعر إيلان شينفلد، ولسنا في حاجة إلى تتبع هذه المراحل ومتابعة مضاهاتها على شعر إيلان، وسوف نكتفي هنا بهذا النص من مرحلة قبول الهوية، يقول:

“لسنا معطى في أي هدف للوجود/ لسنا رعايا في أي خطة إنتاج/ باستثناء الأهداف التي نصنعها معًا/ هذا ببساطة أساس المثلية/ هذا ما يستنزفني ويُمرّر حياتي/ هذا ما جعلني منتجًا دائمًا للنصوص/ هذا ما يعيدني إليك، عزيزي/ عالم قديم ضيق الأفق نخربه/ داخل فراش الزوجية”.

ما يشير إليه إيلان، أن الخطابات التي ينتجها المثليون هي بطبيعتها خطابات متمردة، تحاول اقتناص حقها وتقرير هويتها، وهي لذلك خطابات مقاومة. والمقاومة لا تقتصر على هذا الهدف الجزئي، أي مجرد الاعتراف بحقوق هذه الفئة، وإنما تتسع لتغدو مقاومة لأشكال السلطة المختلفة، أو لما يطلق عليه فوكو “البنيات الجزئية للسلطة” كالأسرة والسجن ومؤسسات الدولة، وهي المؤسسات التي تراقب سلوك الأفراد، وتضعه في قواعد محددة، تتفق مع ما قيم المجتمع.

ولذا فقد انشغل هؤلاء الشعراء بكشف هذه التحيزات السلطوية، وبيان تجليها اللغوي، حيث تقبل تمثيل بعض الفئات وترفض البعض الآخر.. يقول إيلان في نص عنوانه “تخريب النص”، ويقصد تلك المنظومة التي تتعمد تجاهل قضايا المثلية:

“تخريب النص أمر واضح، ليس عبر/الكلمات المباشرة مثل قضيب ومهبل/ أو تصوير الأعضاء المطلوبة/ بموجب الثقافة/ لكن في تغيير المتعة اللسانية الرقيقة/لانتصاب كل عضو للمعنى/في قوة استخدام تلك الأدوات/لإشباع رغبة أخرى”. (ص241)

خلاصة

لقد كانت “ما بعد الصهيونية” تعبيرًا عن أزمة اجتماعية وسياسية وإيديولوجية رصدتها بشكل مفصل الدراسات العربية المتعددة، ولكننا هنا نقاربها في تجليها الجمالي والنقدي، وهذا ما يمنح هذا الكتاب قيمته وأهميته.. وتجدر الإشارة هنا إلى أن خطاب “ما بعد الصهيوينة” لم يزح الخطاب الصهيوني -بتحيزاته الإيديولوجية ونزوعه الجماعي – من المشهد، بما يعني أن الانغماس في النزعات الفردية لا يعني انتهاء النموذج الصهيوني الذي لم يزل حاضرًا ومؤثرًا.. ورغم بعض الخلافات التأويلية حول النصوص مما أشرنا إليه في المقالة، فإننا إزاء جهد نظري وتطبيقي يستحق المتابعة والإشادة.