ظاهريًا، تبدو الاحتجاجات والانتفاضة التي تشهدها إيران أنها تأتي نتاج وفاة الطالبة العشرينية مهسا أميني، التي لقيت حتفها في 16 سبتمبر/ أيلول الجاري، بعد أن ألقت “شرطة الأخلاق” القبض عليها، واقتادتها إلى مركز شرطة، بزعم ارتدائها حجابًا “غير لائق”، حيث يعتمد نظام الحكم “المتشدد” هناك “التشادور” كزي رئيسي للنساء.
المدقق جيدًا في الحالة الداخلية، وارتباطها الوثيق بوضع إيران في الإقليم، سيدرك أن هناك عوامل ضمنية ساهمت في تحريك تلك الاحتجاجات وتوسيع رقعتها وانضمام فئات أخرى من المجتمع الإيراني إليها بخلاف النساء.
ورغم أن الاحتجاجات الحالية قد تبدو محدودة مقارنةً باحتجاجات الوقود عام 2019، واحتجاجات العام 2018، اللتين عمتا معظم مدن إيران، وكان لهُما طابعٌ شعبي، إلا أن موجة الاحتجاجات الحالية تختلف عن سابقتها. خاصة وأنها تأتي في وقت محوري وشديد الحساسية بالنسبة للنظام. فعلى المستوى الداخلي هناك حالة من الغضب الشعبي بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وعلى المستوى الخارجي، تمر مفاوضات إحياء الاتفاق النووي مع الإدارة الأمريكية، التي يعول عليها نظام المرشد الإيراني كثيرًا، لإعادة ترتيب أوراقه، بمرحلة دقيقة.
اقرأ أيضًا: “يهود إيران”.. الأقلية الأرقى والأوفر حظًا في الجمهورية الإسلامية
ثمة شيء استثنائي يحدث في إيران، خلال تلك الموجة من الاحتجاجات التي قد يكون لها تأثير عميق على المجتمع والسياسة الإيرانيين لسنوات قادمة، خاصة في ظل حالة الوحدة التي حققتها منذ اندلاعها وتجاوزها الانقسامات العرقية والإقليمية والطبقية في البلاد، حيث يتوحد الجميع ظاهريًا لدعم حقوق المرأة، وضمنيًا من أجل رغبة في تنحية النظام السياسي الذي فشل في الوفاء بوعوده بشأن الأوضاع الاقتصادية والمعيشة، وإحكامه القبضة الحديدية على الحياة العامة والسياسية في البلاد.
أمام تصاعد حدة الاحتجاج وانضمام فئات مجتمعية مختلفة لها بمرور الوقت، وانتقالها من الأطراف إلى المركز في العاصمة طهران، حيث ثقل وسيطرة النظام هناك، تزايدت التساؤلات بشأن إمكانية تحول تلك الموجة إلى ثورة عارمة تطيح بالنظام الإيراني، مستلهمة ما حدث في واقعة الشاب التونسي محمد البوعزيزي التي كانت بمثابة شرارة فجرت ثورات الربيع العربي، حيث سرعان ما تحولت مظاهر الاحتجاج على واقعة الشابة “مهسا” من خلع للحجاب وقص الشعر بالنسبة للنساء، اعتراضًا على قانون الأخلاق والعفة، إلى ترديد هتافات ضد رموز النظام الإيراني.
خاصةً المرشد علي خامنئي ثم قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني، الذي لقي حتفه في غارة جوية أمريكية قرب مطار بغداد الدولي مطلع يناير 2020، وضد الباسيج، حيث هتف الطلاب في الجامعات الإيرانية “اقتل اقتل كُل مَن قتل أختي” و”اغرب عن وجهي أيها الباسيجي”، و”الموت للدكتاتور”، في إشارةٍ للمرشد الإيراني. كما مزقوا صور خامنئي وسليماني وأضرموا النيران بها. ما يعني استهداف المحتجين لشرعية ورمزية النظام الإيراني ذاته، وغضبهم الشديد من سياساته.
لماذا تختلف هذه الموجة عن سابقاتها؟
يجمع المراقبون للمشهد الإيراني على اختلاف تلك الموجة عن سابقتها من موجات الاحتجاج التي شهدتها إيران على الأقل خلال السنوات الخمس الماضية. ذلك لعدة أسباب يتمثل أهمها في:
- التوقيت المحوري الذي اندلعت فيه هذه الاحتجاجات، ويأتي في ظل مرض المرشد الأعلى علي خامنئي، ووضعه الصحي المتأخر، رغم ظهوره علنًا مرتين، كما أن خطة إيران لخلافته غير واضحة.
- ولا تقتصر حساسية التوقيت الذي اندلعت فيه التظاهرات على الوضع الصحي لمرشد الثورة الإيرانية فقط، ولكن أيضًا كونها تأتي في ظل المفاوضات الجارية بشأن إحياء الاتفاق النووي، ما يجعلها ورقة ضغط جاهزة للاستخدام من جانب الإدارة الأمريكية والأوروبيين. وهو ما قد يدفع النظام الإيراني لتقديم تنازلات حال استمر توسع الاحتجاجات، على أمل المحافظة على شرعية النظام الآخذة في التآكل.
اقرأ أيضًا: أزمة المياه في إيران.. الجفاف يقود الاضطرابات
- كما يمثل الاقتصاد رقمًا مهمًا في معادلة الأزمة السياسية التي تواجهها إيران في الوقت الحالي. خاصة في ظل ارتفاع معدلات التضخم، والعجز المالي للحكومة، الذي دفعها مؤخرًا لرفع الدعم عن الدولار المخصَص لاستيراد السلع الغذائية الأساسية، ما تسبب في ارتفاع أسعار الغذاء بدرجة غير مسبوقة، حيث تخطت الزيادات في الأسعار نسبة الـ 70%، وتضاعفت أسعار الأغذية الرئيسية، التي تشكل المكون الرئيسي لطعام الفقراء ومحدودي الدخل، وهو الامر الذي يفسر سرعة اشتعال الأزمة واتساع رقعتها.
- العامل الرابع في معادلة اختلاف تلك الموجة عن سابقاتها، يتمثل في كونها تأتي في ظل حالة الإخفاق السياسي للرئيس إبراهيم رئيسي، وفشله في الوفاء بوعوده بعد عام من وصوله للحكم، ما جعله يتجه إلى تشديد القيود الاجتماعية عبر خطة مصممة لدعم المتشددين وإحكام الحصار على التيار الإصلاحي.
- حساسية الموجة الحالية من الاحتجاجات وتوقيتها، كونها أيضًا تأتي في وقت يحاول فيه “الإصلاحيين” ترميم شرعيتهم على الساحة الداخلية. إذ جاءت تلك الموجة بمثابة فرصة سانحة لهم ضمن محاولات استعادة مكانتهم بعد التهميش الواسع منذ وصول رئيسي للحكم، واتخذوا منها ذريعة لتوجيه انتقادات جريئة للحكومة.
ويسعى التيار الإصلاحي داخل النظام الإيراني إلى التأسيس للانتخابات القادمة، عبر بوابة الاحتجاجات الحالية، واجدًا فيها ضالته لتكون بمثابة إشارة البدء للإعلان عن مشروع سياسي جديد في إيران.
الصراع بين “الًإصلاحيين” داخل مؤسسة النظام الإيراني، والمتشددين أو ما يعرفون بالتيار الأصولي بدا واضحًا في تعاطي وسائل الإعلام المحسوبة على كلا التيارين، ففيما أفردت الصحف التابعة للتيار الإصلاحي، وفي مقدمتها “آرمان ملي”، مساحات واسعة للاحتجاجات وممارسات الحكومة التي دفعت لها، وانبرت في المطالبة بإلغاء شرطة الأخلاق التي تعد قضية جوهرية في الصراع بين التيارين ،اتجهت صحف التيار المتشدد وفي مقدمتها “كيهان” المحسوبة على الحرس الثوري ، إلى اتهام النشطاء السياسيين ونشطاء المجتمع المدني بأنهم يسيرون في ركب “أعداء الحكومة” في إشارة إلى رموز التيار الإصلاحي.
ثورة عارمة أم موجة احتجاج عابرة؟
ترتبط الإجابة على هذا التساؤل بمجموعة من المحددات التي يرتهن بها المشهد، فعلى الرغم من أن مقتل مهسا أميني كان الشرارة التي أطلقت الاحتجاجات إلا أن عوامل أخرى حفزت هذا التحرك. وهي كالتالي:
- مدى قدرة الحكومة على التعامل مع الأزمة بمسارات بديلة للمسار الأمني الذي لا يزال التعامل بشأن إنهاء الاحتجاجات منحصرًا فيه حتى الآن، حيث أسفرت عمليات قمع المتظاهرين عن سقوط نحو 41 قتيلًا. وهي الدماء التي من شأنها أن تكون بمثابة سكب للبنزين على النيران المشتعلة بالفعل.
- مساحة المناورة التي يمكن أن يقدم عليها النظام في إيران، بشأن تقديم تنازلات آنية، تتعلق بالقيود السياسية والاجتماعية، وتقديم خطاب من شأنه تفكيك الارتباط بين الفئات الغاضبة، والتراجع عن قانون الحجاب والعفة في إطار تهدئة غضب المجموعات النسوية.
- مدى قدرة الحكومة الإيرانية على إحداث انفراجه اقتصادية ومعيشية عاجلة، تسهم في إخراج محدودي والدخل والفقراء والمهمشين من دائرة المحتجين.
- كما تتوقف الإجابة على التساؤل الرئيسي بمدى قدرة المؤسسات الرسمية في إيران وتماسكها وكذلك عدم انضمام تيار من داخلها لموقف الرأي العام. وهو ما يرتبط بعاملين رئيسيين هما الوقت والمدى الزمني لاستمرار تلك الاحتجاجات، وعدم تحولها لاشتباكات أهلية بين مؤيدي النظام ومعارضيه.
- قدرة الجماعات الانفصالية في الأطراف ، مثل إقليم كردستان وبلوشستان على استغلال انشغال المؤسسات الأمنية بفض الاحتجاجات لشن هجمات ضد النظام وارباكه وتقويض قدرته على احتواء الفوضى.
في الخلاصة يمكن القول أن عوامل انفجار المشهد في إيران وتحوله إلى ثورة عارمة قد تكون متوفرة، ولكن ذلك في نهاية الأمر يتوقف على طريقة تعامل النظام مع الغاضبين والمحتجين، وقدرته على تفكيك الروابط بين المجموعات الغاضبة، وعدم انكار الأزمة والتوقف عن الممارسات التي من شأنها إشعال حرب أهلية ومواجهات بين مؤيدين ومعارضين. خاصة بعدما دعت الحكومة لتنظيم تظاهرات داعمة للحجاب ردًا على الاحتجاجات المناهضة له. وهو ما أدى إلى تنظيم عدة مسيرات خرجت فيها خرجت فيها النساء مرتدية التشادور، وحمل المشاركون صورًا لخامنئي.