في المملوكية الحديثة، سواء في عصر الخديوية حيث محمد علي باشا وذريته من بعده، أو عصر الجمهورية من نجيب إلى ناصر إلى السادات إلى مبارك إلى السيسي، فإن بقاء الحاكم في مركزه يقوم على أحد أمرين أو على كليهما معا: إما سيطرة داخلية يقمع بها معارضيه ويحتوي بها مؤيديه ويقطع بها الطريق على منافسيه، وإما حماية أجنبية تفرضه على الشعب وتحمي بقاءه في السلطة طالما بقيت الحماية.

***

أولا: المملوكية الحديثة في عصر الخديوية

– محمد علي باشا 1805 – 1849 استفاد من الحماية الفرنسية حينا، لكنه لم يغفل عن السيطرة الداخلية الشديدة لحظةً، كان يعلم أن قدرا من الحماية الأجنبية ينفع ولا يضر طالما أنه لا يفقد استقلال قراره، لكن في الوقت ذاته كان يعلم أن أي قدر من التسامح أو التهاون في السيطرة الداخلية من شأنه أن يسلم رقبته لخصومه وهم كثر في الخارج ومثلهم لابدون في الذرة في الداخل. لهذا لم يفقد القليل ولا الكثير من هيبته بعد هزيمة مشروعه وانسحابه من الشام وتقليص جيشه وتفكيك دولته والقضاء على نظام الاحتكار الاقتصادي الذي كان منبع قوته وليس الجيش كما هو شائع، لم يفقد هيبته وحافظ على رقبته أن تسقط في يد أعدائه لسبب بسيط هو أنه لم يفقد السيطرة على رجاله، ومن ثم لم يفقد السيطرة على المؤسسات ومن ثم لم يفقد السيطرة على الدولة، ومن ثم لم يفقد السيطرة على الشعب، ورسخ القاعدة الرئيسية في سياسة المملوكية الحديثة من عهده إلى وقت كتابة هذه السطور في خريف 2022 وهذه القاعدة هي باختصار شديد: الحاكم فوق الدولة والدولة فوق الشعب والشعب فوق الأرصفة وعلى الهوامش وتحت الحوائط وفي ثنايا الجحور يلتمس الأمان من الخوف. سيطر على رجالك، تسد الثغرات في وجه أعدائك، هذه هي القاعدة التي تركها مؤسس المملوكية الحديثة. كان الخطر عليه من نجله الأكبر القائد إبراهيم 1807- 1848، الذي سعى لوراثة منصب أبيه وهو على قيد الحياة، وبالفعل حكم مصر ستة أشهر من عام 1848، ومات في حياة أبيه الذي فرح بموته، وخلفه في المنصب عباس حلمي نجل طوسون ابن محمد علي باشا.

– الخديو إسماعيل 1863 – 1879 فقد السيطرة على الاقتصاد أي على الموارد بسبب الإفراط في القروض والديون الخارجية، ثم فقد السيطرة على رجاله المقربين، فنشأت الثغرات التي تسلل منها خصومه في الخارج وتعاون معهم رجاله في الداخل، ففرضوا الرقابة المالية الأجنبية على واردات الدولة ومصروفاتها وتم تنفيذها – رغما عنه – بأيدي رجاله، ثم فرضوا عليه ما هو أدهى وأمر، شكلوا هم الوزارة 1878، رغما عنه، وفيها وزيران أوروبيان، أحدهما إنجليزي والآخر فرنسي، وفرضوا عليه رئيس وزراء خادم للمصالح الأجنبية هو نوبار باشا 1825 – 1899، وكل تلك الاختراقات لحصون الخديوي تم تنفيذها بيد من فقد عليهم السيطرة من رجاله، ثم كانت الثغرة الكبرى من طرف نجله الأكبر توفيق 1852 – 1892 الذي مالت ريحه مع خصوم أبيه وتواطأ معهم على عزله من منصبه وحل مكانه كأول خديوي يأتي بقرار أوروبي تمت تغطيته بفرمان شكلي من السلطان العثماني.

– رأى توفيق بعينيه كيف طار رأس أبيه على يد الإنجليز والفرنسيين، ثم رأى كيف جاء به -هو شخصيا- الإنجليز والفرنسيون، ثم رأى سيطرة لندن وباريس -عبر سفيريهما في اسطنبول- على القرار العثماني، ثم رأى الفجوة التي تفصل المصريين عنه وعن أبيه وعن سلالتهم بكاملها، فأدرك من كل ذلك أن مصدر الحماية هو رضا الأجانب، فلم يتورع عن دعوة القوات البريطانية لمواجهة الثورة العرابية 1881 واحتلال مصر بالكامل 1882، وقد حكم مصر عشر سنوات تحت حمايتهم في مقابل تسليم مصر ثلاثة أرباع قرن تحت استعمارهم ونهبهم وظلمهم.

– ثم جاء من بعد وفاته نجله عباس حلمي الثاني 1874 – 1944، وقد حكم بين وفاة أبيه الخديوي توفيق 1892 – حتى 1914، وكان من الدهاء بحيث لعب بالطرفين، لعب بالرجال، ولعب بالاحتلال، وكان سعد زغلول باشا يقول عنه إنه يلعب بالرجال كما يلعب بحبات المسبحة بين أصابعه، ومع دقات الحرب العالمية الأولى 1914، عزله الإنجليز، وعينوا ابن عمه الأمير حسين كامل وجعلوه سلطانا، وكان عباس حلمي الثاني نموذجا لمن فقد ولاء الرجال، كما فقد ثقة الاحتلال، ففقد السيطرة، كما فقد الحماية، وفي النهاية فقد منصبه. والحقيقة فرصه في البقاء كانت صعبة، كانت تعني أن يكون قد ورث عن أبيه الخديوي توفيق جينات الخنوع السياسي المطلق لسلطة الاحتلال، لو كان كذلك لربما كان قد بقي في منصبه ثلاثين عاما إضافية، أي البقاء حتى وفاته 1944.

– خلع الإنجليز مع الفرنسيين الخديوي إسماعيل بفرمان شكلي صادر من السلطان العثماني 1879، ثم خلع الإنجليز حفيده عباس حلمي الثاني في 1914، فأدرك حسين كامل ثم فؤاد الأول وهما من أنجال إسماعيل حقيقة الدرس السياسي، فكلاهما جاء بقرار من الاحتلال، وكلاهما حكم تحت حماية الاحتلال، وعلى هذا الاقتناع عاش الرجلان حتى لقيا ربهما، ولما حاول الملك فؤاد – عند كتابة دستور 1923 – أن يكتب في مقدمته أن الدستور منحة من الملك رفض الإنجليز ذلك وأذعن الملك، ثم أراد أن يلقب نفسه في نصوص الدستور بلقب ملك مصر والسودان فرفض الإنجليز ذلك وأذعن الملك، كان حسين كامل ثم شقيقه فؤاد يدركان حدود اللعبة، وأن ليس في إمكانهما شيء يفعلانه بخصوص مجيئهما للحكم، وبقائهما في الحكم، أو خروجهما من الحكم فكل ذلك في يد الإنجليز لا في يد هذا ولا ذاك، بل لقب سلطان ثم ملك لم يكن غير منحة إنجليزية.

– ورث فاروق الأول 1920 – 1965 كل ذلك التاريخ من الاحتماء بخليط من الرجال والاحتلال حتى يبقى مسيطرا في منصبه، يختلف عن كل من سبقه من حكام المملوكية الحديثة من عدة زوايا: أنه جاء وفقا لدستور شبه ديمقراطي ليبرالي حديث، وجاء في نظام له مؤسسات واضحة الملامح، لكنه تولى منصبه 1937 في مطلع حقبة عاصفة داخل مصر وفي العالم، حيث مقدمات الحرب العالمية الثانية، وفيها حاصر الإنجليز قصره بالدبابات وأسقطوا هيبته وأرغموه على حل وزارة وتكليف وزارة أخرى وإلا فقد عرشه بالكلية، ثم في هذه الفترة كذلك مالت ميوله هو وبعض رجاله مع الألمان والمحور ضد الإنجليز والحلفاء، ثم أثناء هذه الحرب فرضت الحكومات – وفد وغير وفد – على الشعب كل ما يريده الاحتلال وكل ما يخدم مصالح الإنجليز على حساب الشعب مستندين في ذلك على نصوص اتفاقية 1936 التي تضع إمكانات مصر تحت إرادة الإنجليز في وقت الحرب، في سنوات الحرب من 1939 – 1945 ثبت أن الاستقلال الذي حصلت عليه مصر بموجب تصريح 28 فبراير 1922 لم يكن أكثر من أكذوبة، فهو الاحتلال المحض، بل زاد عن الاحتلال أنه مثلا في سنوات الحرب العالمية الأولى كان الاستعمار يعمل بأدوات الاستعمار، قوة الاحتلال نفسها من خلال قصر المندوب السامي يفرض على البلد سياسة القمع والاستغلال، لكن ما تغير بعد الاستقلال الشكلي هو أن السياسات الاستعمارية تم تنفيذها بأدوات مصرية، لا فرق بين حكومة أقلية ولا حكومة أغلبية، كان الاحتلال يطوق الجميع، وما كادت تمر ثلاثون عاما على ثورة 1919 حتى بدا للمصريين أنها قد تبددت، ولم يكد تمر ثلاثون عاما على دستور 1923 حتى فقد معناه بالكلية، ففي الأربعينيات عاشت مصر واحدا من أعنف حقبها السياسية، ميزها العنف، عنف الاحتلال، عنف الحكومات، عنف التنظيمات مثل الإخوان ومصر الفتاة، عنف الخارجين على القانون مثل خط الصعيد ومطاريد الجيل، ثم انضم عنف الصهيونية للمنطقة، ثم جاء عنف الضباط الأحرار فحركوا الدبابات وخلعوا الملك ووضعوا نهاية للملك فاروق الأول، الذي فقد السيطرة على الرجال، كما فقد حماية الاحتلال، فقد بقاءه على عرشه بعد خمسة عشر عاما غير مستقرة، فقد عرشه ثم فقد الملكية ذاتها ثم فقد أملاكه، ثم انتهت المملوكية الخديوية وأفسحت الطريق للمملوكية الجمهورية.

***

ثانيا: المملوكية الحديثة في العصر الجمهوري

المملوكية الحديثة منذ أسسها محمد علي باشا عند مطالع القرن التاسع عشر كانت تقوم على دعامتين: سلالة محمد علي باشا وجيش محمد علي باشا حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952، وكل ما حدث بعد ذلك مع سقوط المملوكية الخديوية وقيام المملوكية الجمهورية من عام 1953 هو أن جيش محمد علي باشا انقلب على سلالة محمد علي باشا وحل مكانها في أمرين: امتلاك مصر كمليون متر مربع بما عليها من بشر وشجر وحجر برها وبحرها وجوها، ثم حكم مصر حكما مطلقا يتداول عليه ضباط من الجيش ضابطا وراء ضابط مع انقطاع لمدة عام تم فيه نصب كمين للإخوان كمدخل للقضاء على ثورة 25 يناير 2011 التي كانت ثورة شعبية ليس على حكم مبارك فقط 1981 – 2011 لكن كانت ثورة على حكم الضباط من أساسه. هذا هو الفرق، وهو فرق شكلي بين هاتين الحقبتين من المملوكية الحديثة.

ثم تتفق الحقبتان من المملوكية الحديثة في أمرين هما امتداد للملوكية القديمة التي تأسست عند منتصف القرن الثالث عشر الميلادي على يد الظاهر بيبرس، الأمر الأول هو أن الحكم لمن غلب، ثم الأمر الثاني أن اغتصاب السلطة بمزيج من الخداع والذراع تعالجه ورقة رخيصة لإضفاء الشرعية على الحكم الجديد، هذه الورقة قد تكون خلعةً من خليفة عباسي مزيف لا يملك من أمر نفسه شيئا، أو فرمانا من سلطان عثماني آيل للسقوط، أو قرارا من الاحتلال البريطاني، أو استفتاءات مزورة وانتخابات مفبركة، حدث ذلك، ومازال يحدث منذ تولى محمد علي باشا 1805 حتى تولى الرئيس عبدالفتاح السيسي 2014.

وما بين هذين التاريخين تم استعباد الشعب في ظل المملوكية الخديوية ثم استبعاد الشعب في ظل المملوكية الجمهورية، فلم يكن للشعب من دور حقيقي إلا في ثورة العرابيين وقد تم إجهاضها، ثم ثورة 1919 وقد تم هدرها وتبديدها باستثناء المرات التي انتخب فيها حزب الوفد في ظل المملوكية الخديوية المحمية بالاحتلال الإنجليزي، ثم الأيام الأولى من ثورة 23 يوليو 1952 وقد انقلبت إلى ديكتاتورية عسكرية قاسية، ثم ثورة 25 يناير 2011 وقد تم احتواؤها ثم الانقلاب عليها ثم إدانتها وتحميلها أوزار التاريخ وخطاياه.

الخلفية الفكرية للملوكيتين الخديوية والجمهورية متشابهة من عدة زوايا:

1 – كان الملك فؤاد ثم نجله الملك فاروق كلاهما يطمح إلى زعامة العالم الإسلامي عبر منصب الخلافة الإسلامية الشاغر منذ سقوط آخر خليفة مسلم حين تم إلغاء السلطنة العثمانية بقرار من البرلمان التركي في مطلع نوفمبر 1922، ظل فؤاد ثم نجله من بعده يحلم بالمنصب الرفيع بما يعنيه من زعامة لعالم الإسلام ونسي الرجلان أن عالم الإسلام كله ليس أكثر من مستعمرات ومحميات خاضعة لهيمنة الغرب، كما تناسى الملكان كذلك أنهم ملوك تحت حماية الإنجليز، كما تناسى الملكان أن سلطة أحدهما لا تتجاوز قصره إلا برضا الاحتلال، هذا الطموح الخيالي المريض لعب عليه انتهازية مؤسس الإخوان فضيلة الشيخ حسن البنا وجعل من استعادة الخلافة الإسلامية قمة أولوياته، وجعل من جماعته منظمة رديفة للقصر سواء في عهد فؤاد أو في عهد فاروق. هذه الفكرة التي استنفذها التاريخ واستهلكها وفقدت المبررات الوجودية لبقائها لحست دماغ الملك فؤاد ثم نجله من بعده كما لحست أدمغة الإخوان متعلمهم وجاهلهم. إلغاء الخلافة حرر الإسلام من قيدها فقد صارت عبئا عليه.

2 – كان الرئيس جمال عبد الناصر يحلم بزعامة العالم العربي وهو – يعلم أو لا يعلم – أن العرب ليس لهم كلمة واحدة، وليس لهم زعيم واحد، هكذا كانوا قبل الإسلام، وهكذا عادوا بعده. كان عبد الناصر يطمح لمكافحة الاستعمار الغربي ليس في مصر فقط لكن في العالم العربي بل في العالم كله، في حين أنه كان يطلب من الغرب التسليح والقمح والوقود والتمويل، لم يكن في استغناء عن الغرب، ولم يكن في إمكانه أن يوحد العرب، ولم يكن في إمكانه دفع فواتير دور عالمي يقوم به بلد خارج لتوه من استعمار بغيض دام ثلاثة أرباع قرن. بدل أن يركز في بلده فكر في تحرير العالم كله حتى استيقظ صباح 5 يونيو 1967 وأعداؤه وصلوا إلى السويس على مسافة ساعة من بيته في منشية البكري.

3 – قررت المملوكية الخديوية دخول حرب 1948 بالجيش النظامي المصري، رغم أن مصر كانت تحت الاحتلال، وكان من باب أولى أن تحرر نفسها قبل أن تحرر غيرها، وكان من الأولى أن تكتفي بالدعم غير الرسمي من تطوع بالمال والمقاتلين من غير قوات الجيش وليس تحت علم مصر، لكنها دخلت لأن الإنجليز أنفسهم كانت لهم مصلحة في ذلك حتى تحل القوات المصرية محل قواتهم عندما ينسحبون من الجزء العربي الذي منحه قرار التقسيم 1947 للفلسطينيين، ثم كانت للإنجليز مصلحة في شغل اهتمام المصريين بعيدا عن المطلب الأسمى وهو جلاء الاحتلال الإنجليزي عن منطقة القناة، دخل الجيش المصري فلسطين تحت قيادة الجيش الأردني والجيش الأردني ذاته كانت تحت قيادة جنرال إنجليزي، وهكذا كانت كل القوات العربية الرسمية في فلسطين قائدها جنرال إنجليزي بحكم أنه يشغل منصب رئيس أركان الجيش الأردني واتفق العرب أن تكون جيوشهم تحت قيادة الأردن. قبل أن يقرر الملك دخول الجيش إلى فلسطين بالاتفاق السري مع الإنجليز كان الرأي الرسمي المصري أكثر حكمة وهو دعم فلسطين بكل الإمكانات لكن دون توريط الجيش المصري أو وضعه في اختبار غير مستعد له.

4- دخلت المملوكية الجمهورية حرب 1967 بقرار فردي من الرئيس جمال عبد الناصر مثلما دخلت المملوكية الخديوية حرب 1948 بقرار فردي من الملك فاروق، لم يكن الجيش المصري -وهو تحت الاحتلال- مجهزا بالتسليح الكافي ليحمي منطقة قناة السويس ومن ثم يقتنع الإنجليز بالانسحاب منها ومن باب أولى لم يكن جيش هذا وضعه قادرا على خوض حرب مظفرة في فلسطين 1948 خاصة وأن التدخل جاء بعد إعلان قيام إسرائيل بالفعل، ومن البداهة بالضرورة أنها تأسست لتبقى في حماية الغرب طالما بقي الغرب، ثم تكرر الأمر في حرب 1967 حيث كان الجيش المصري قد تم استنزاف قواه الفاعلة في حرب 1956 ثم في حرب اليمن 1962- 1967، ثم تم تخريبه تحت قيادة غير مؤهلة من 1954 حيث انفرد به المشير عبدالحكيم عامر من إبريل 1954 حتى بعد الهزيمة بأسبوعين في 19 يونيو 1967، للأسف الشديد كان الجيش في تلك السنوات الطوال كما لو كان إقطاعا أو مجال نفوذ مطلق مخصوص بالمشير ورجاله المقربين لا رقابة لمؤسسات الدولة عليه بما في ذلك رئيس الجمهورية ذاته.

5 – في الحربين كان هناك اقتناع أن الجيش غير جاهز للحرب، ثم كان هناك اقتناع أن مصر ليست لها مصلحة وطنية مباشرة متضررة وتقتضي دخول الحرب كحل أخير ليس منه مفر وليس عنه بديل، رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي كان يعي ذلك في 1948 وكان الرئيس جمال عبد الناصر يعي ذلك في 1967 لكن فردية الحكم وغياب المؤسسات وغياب المحاسبة كل ذلك يسر للملك فاروق ثم للرئيس عبد الناصر قرار الحرب ثم حصاد الهزيمة، ثم كانت نهاية الملك على يد الضباط الأحرار، بينما كان عبد الناصر قد تعلم الدرس فزاد من سيطرته بعد هزيمته في 1967 سيطرة أشد قسوة مما قبلها فلم يكن هناك مجال لضباط أحرار ولا حتى نفاخ النار.

6 – لم تكن لمصر -في الحربين- مصالح وطنية محددة تتعرض لمخاطر جسيمة تقتضي دخول الحربين بصورة رسمية بالجيش النظامي، لكن حصلت في 1948 تحت ضغط الإنجليز على الملك ثم توافق ذلك مع حالة الغليان الشعبي في العالمين العربي والإسلامي، ثم حصلت في 1967 تحت استدراج البعثيين في سوريا للنظام في مصر ثم تحت غليان الشارع الذي صنعته أبواق الإعلام الرسمي ذاته، في المرتين حصلت بقرار غير مدروس العواقب. ولك أن تتخيل كم كان ممكنا لتاريخ مصر بل ومستقبلها أن يتبدل لولا خطأ الملك في 1948 ثم خطأ عبد الناصر في 1967.

7 – الضباط الأحرار في حرب 1956 ثم في حرب اليمن 1962 ثم في حرب النكسة 1967 ارتكبوا من الأخطاء ما يفوق الأخطاء التي تم ارتكابها في حرب 1949، وإذا كان الملك ومن معه من قيادات الجيش قد تم خلعهم، فإن الضباط الأحرار في كافة حروبهم الخاسرة لم تجد من يجرؤ على أن يتفوه أصلا بأن ما حصل كان هزيمة، حتى جاءت حرب أكتوبر 1973 المجيدة فردت الاعتبار للشعب والجيش معا.

***

-الذي حدث ليلة 23 يوليو -باختصار شديد – مجموعة من الضباط من الرتب الصغيرة اعتقلوا قيادات الجيش من القيادات الكبيرة، وبذلك جردوا النظام من مصدر غلبته وقوته، وفي خلال ثلاث ساعات من منتصف الليل حتى الثالثة صباحا آلت مصادر الغلبة والقوة إلى حوزتهم، وتغلبوا بهذه القوة، ولما أصبح الصباح كانوا هم الحكام الفعليين للبلاد، ومادام الحكم لمن غلب، فما أيسر إضفاء الشرعية على هذا الحكم الفعلي، وكان مجلس الدولة جاهزا لتقنين الانقلاب في ثورة، ثم تقنين الثورة في سلطة لها السيادة العليا وتملك حق سلطة التنفيذ والتشريع وتغل يد القضاء، يسر ذلك أن النظام القديم كان قد تعفن، بما في ذلك أفضل ما فيه وهو حزب الوفد كان قد تسرب إليه العفن، وكانت أفكار مثل الدستور والديمقراطية وتعدد الأحزاب والحكم النيابي ليست في أحسن حالاتها، ولما بدأت القوى القديمة تتذكرها كان قد مر عامان، بما يكفي لانتصار الضباط الأحرار على الجميع فلم يبق في المشهد غير عشرة ضباط هم مجلس قيادة الثورة ثم العشرة تمت فرفطتهم فلم يبق غير واحد هو جمال عبد الناصر. الحكم لمن غلب والشرعية أوراق من مجلس الدولة.

– أول حكام المملوكية الجمهورية الرئيس محمد نجيب لم يكن له من الأمر شيء، لم يكن له رجال يسيطر عليهم ويتكئ عليهم في بقاء سلطته، ولم تكن له قوة أجنبية تفرض عليه حمايتها، فقط كانت له شعبية اكتسبها على ظن من الشعب أنه قائد الثورة الحقيقي، هو كان واجهة الثورة فقط، بعد أن سيطر الضباط الأحرار على قيادة الجيش -سيف الملك- عند الثالثة صباحا، استدعوا اللواء نجيب عند الثالثة والنصف، وأرسلوا له سيارتين واحدة للركوب والأخرى للحماية، هؤلاء الضباط العشرة هم من ألغى الملكية، وهم من أعلن الجمهورية، وهم من عين اللواء نجيب رئيسا للجمهورية، وهم من عزلوه منها، وهم من انتصروا على كل من أيد الرئيس نجيب في مارس 1954.

– القائد الحقيقي كان جمال عبد الناصر.. واحد من جبابرة التاريخ العظماء في فن السيطرة من أجل البقاء.

***

نستكمل في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.