كثيرًا ما نأمل جميعًا ومنذ عقود طويلة لتعميق الصناعة المحلية، كحل مستدام لأزمات الانخفاض المتكرر لقيمة العملة الوطنية، والعجز في الميزان التجاري للسلع، واعتبار أن تعميق الصناعة سواءًا بهدف التصدير أو الإحلال محل الواردات هي جزء أساسي في سياسات التنمية الاقتصادية وأدبياتها الراسخة.
وتستهدف مختلف دول العالم في استراتيجيات التنمية الصناعية، إحداث تغير هيكلي مستمر يحقق أفضل استخدام للموارد، والترابط بين الأنشطة الاقتصادية المختلفة، والاستجابة للتطورات المحلية والعالمية، وذلك عبر العديد من الإجراءات الدامية لتنمية صناعة أو مجموعة صناعات محددة، عبر التوسع الرأسي بتعميق الصناعة المحلية أو الأفقي بالتوسع في حجم تلك الصناعة أو الصناعات المستهدف تنميتها، وذلك بزيادة إنتاجيتها وتعزيز قدراتها التنافسية.
حاولت مصر في مناسبات سابقة وضع العديد من استراتيجيات التنمية الصناعية منذ ستينيات القرن العشرين، من أجل زيادة وتنمية الصناع التحويلية، إلا أن العديد من تلك الاستراتيجيات المتعاقبة كانت تتسم بالعمومية الشديدة، وعدم الاستمرارية في تنفيذ الاستراتيجية بسبب التغييرات الوزارية المتعاقبة، وبدأ وضع استراتيجية ومستهدفات مختلفة في كل تغيير وزاري.
أدى ذلك في النهاية إلى شبه الاستقرار في حجم الصناعة التحويلية من الناتج المحلي الإجمالي عن مستويات من 15-17% منذ الثمانينيات وإلى الآن مع تغير حجم الناتج المحلي، بالإضافة إلى تركز الاستثمارات الأجنبية المباشرة في قطاعات البترول والغاز الطبيعي والتشييد والبناء، وانحسار الصناعة التحويلية في مصر حول الصناعات الاستهلاكية والصناعات الوسيطة، والتي يزيد نموها بمتوسط 2.5% في الست سنوات الأخيرة، فضلًا عن تراجع استثمارات القطاع الصناعي إلى أقل من 10% من إجمالي الاستثمارات العامة، يصحبه تواضع حجم العمالة المرتبطة بقطاع الصناعة التحويلية في السنوات من 2016 – 2020 إلى 12.3% فقط من إجمالي العمالة بحسب بيانات جهاز التعبئة العامة والإحصاء، بالإضافة إلى مشاكل أخرى تتعلق بالتنمية الصناعية جغرافيًا ومحافظات الصعيد هي المثال الأبرز على ذلك رغم وجود العديد من المناطق الصناعية بها.
في المقالات القادمة سأعطي اهتمامًا خاصًا برصد بعض تجارب التنمية الصناعية واستراتيجيات دول عديدة استطاعت النهوض بصناعاتها التحويلية، لتبيان الفوارق في تلك التجارب وربما محاولة لفت النظر للاستفادة من تلك الخبرات في السياق المصري، لنتمكن من اقتحام مضمار الثورة الصناعية الرابعة واللحاق بركب الدول المتقدمة صناعيًا.
صحيح أن الآونة الأخيرة شهدت استراتيجيات للتنمية الصناعية في مصر مع الوزراء المتعاقبين، ومنها استراتيجية التنمية الصناعية 2016 – 2020، إلا أنه في الغالب ستوضع استراتيجية جديدة للتنمية الصناعية أو لتعميق الصناعة في الفترة الحالية، وهو المفهوم الذي بدأ يدخل حديثًا لسياسات واستراتيجيات الصناعة بما يمثل تطور نوعي هام. وذلك بالرغم من الصعوبة الحالي في التنبؤ الكامل بسيناريوهات الوضع الاقتصادي العالمي الذي تلاحقه الأزمات، والتي تنتقل بتأثيرها على الاقتصاد المصري، مما يجعل السلطة التنفيذية في مصر تعمل بجهد مضاعف لإطفاء الحرائق ومعالجة الصدمات، في الوقت الذي تحتاج فيه بناء الاستراتيجيات طويلة ومتوسطة المدى شيئًا من استقرار التوقعات حول المؤشرات الكلية للاقتصاد، وهو ما يجعل من المهمة الآن شديدة الصعوبة خاصة في ظل قيود الاستيراد ومشاكل النقد الأجنبي وسعر الصرف وارتفاع أسعار الفائدة.
حين نرغب في بناء استراتيجية للتنمية الصناعية في الحالات المستقرة بالطبع، فلابد أن نستفيد من الدراسات وأوراق السياسات المنشورة من مراكز الأبحاث والسياسات العامة المتخصصة مثل المعهد القومي للتخطيط وكثير من المؤسسات والمراكز الخاصة مثل المركز المصري للدراسات الاقتصادية والذي يفيدنا كثيرًا عبر ورقة سياسات خاصة باستراتيجيات التنمية الصناعية المصرية بالمقارنة مع سياسات التجربة الجنوب أفريقية، والتي يمكن أن نختصرها في 4 مرتكزات لبناء استراتيجيات التنمية الصناعية.
المرتكز الأول، هو ضرورة ترجمة الأهداف العامة التي نطمح إليها من خلال الاستراتيجية، سواءًا كانت في تعميق الصناعة أو زيادة الصادرات الصناعية إلى 100 مليار دولار مثلًا، إلى برامج محددة ذات مؤشرات كمية يمكن متابعة مستويات تنفيذها والقياس عليها، مع وضوح مصادر التمويل المخصصة لكل برنامج والمدة المتوقعة واللازمة للتنفيذ، والجهة المسؤولة عن تنفيذ ذلك البرنامج ومؤشرات قياس الأداء، وهي أسس لعملية التخطيط بوجه عام ولا سيما في التخطيط القطاعي، وهو ما غاب عن العديد من استراتيجيات التنمية الصناعية في الماضي.
أما المرتكز الثاني الذي ينبغي أن يؤخذ بالاهتمام البالغ، وهو الإطار المؤسسي لاستراتيجيات التنمية الصناعية، والتي بطبيعة الحال تحتاج لترابط بين العديد من السياسات العامة التي تتجاوز سلطة الوزير المختص بشؤون الصناعة، مثل سياسات الإنفاق الحكومي، وسياسات الاستثمار، وسياسات التعليم والبحث العلمي وتشجيع الابتكار، وسياسات الزراعة، وسياسات تنمية الاتصالات والرقمنة والتطور التكنولوجي، واستراتيجية التنمية المحلية، فضلًا عن السياسات المالية والسياسات النقدية التي تتداخل بشدة في صلب ملف الصناعة، وبالتالي فإن نجاح أي استراتيجية للتنمية الصناعية يتوقف على حجم التنسيق الحكومي في السياسات والإجراءات، ووحدة الأهداف بين الحكومة الواحدة، والتفاعل الإيجابي بين كافة الهيئات والمؤسسات والجهات في القطاعات المختلفة.
كذلك يجب أن تراعي استراتيجية التنمية الصناعية التكامل بين القطاعات المختلفة، والترابط بين الأهداف الكلية والقطاعية والجزئية، وهو ما يتطلب جهد كبير يبدأ من مستوى المصانع والمنشآت الصناعية نفسها، لإحداث هذا التكامل المطلوب. بالإضافة لمرتكز هام أشرنا له، وهو القدرة على المرونة والتكيف مع التغيرات والصدمات الاقتصادية والعالمية، وهو ما يحتاج لتحديث مستمر للبيانات والمعلومات، وتفصيلها من خلال عملية المتابعة والتقييم لتنفيذ محاور الاستراتيجية.
التحديات التي تواجه التنمية الصناعية لن تتوقف بمجرد وجود استراتيجية مفصلة ورائعة، خاصة وأن مصر لديها بالفعل الخبرات الأكاديمية والفنية المتخصصة القادرة على وضع إطار نظري قيم مثل ما حدث في استراتيجية التنمية المصرية “رؤية مصر 2030”.
لكن وجود استراتيجية جديدة ومفصلة، مع تبني القيادة السياسية لها ووجود آليات فعالة لتقييم مستويات تنفيذها، سيشجع بطبيعة الحال على المضي قدمًا نحو مواجهة أزماتنا وتحدياتنا التاريخية في قطاع الصناعة التحويلية، مثل أزمة تعدد جهات الولاية على الأراضي، والبيروقراطية في منح التراخيص الصناعية وزيادة تكلفة الأراضي الصناعية المرفقة بما يشير لقصر نظر البعض في التربح من بيع الأرض على المدى القصير وليس الربح على المدى الطويل برفع مستويات التشغيل والإنتاج والاستثمار وتوطين التكنولوجيا والخبرات، وهو ما ليس بالبعيد عن تفضيل البعض لجذب الاستثمارات السهلة سريعة الأرباح سواءًا كانت غير مباشرة في أدوات الدين أو تركزها في قطاعات ريعية سريعة الأرباح مثل العقارات، وهي أنشطة تختلف عن قطاع الصناعة “المتعب” الذي يتطلب مجهودات ووقت كبيرين لتحقيق نجاحات نقل التكنولوجيا وتوطين الصناعات وغيرها من المستهدفات الهامة.
يضاف لذلك كله قضايا الإنتاجية وعدم التطور في البحث العلمي التطبيقي وربطه بالصناعة، وكذلك الانفصال في التعليم الفني عن القطاع الصناعي ما يؤثر على مستويات العمالة وجودتها، وأزمات التمويل، ومكان الصناعة المصرية في سلاسل الإنتاج والقيمة العالمية، ومشاكل التجمعات الصناعية المعطلة، وهي قضايا تحتاج لجهود مضنية في البحث والتحليل والدراسة الجادة، والابتكار والإنفاق واستدامة الموارد لمواجهة تلك التحديات، وهو ما يحتاج كما قلنا لتنسيق عالي المستوى لتتحول الاستراتيجية المنشودة لبرنامج اقتصادي تنموي وطني تلتزم به الحكومة بأكملها كسبيل وحيد لتنمية اقتصادها وتأمين احتياجاتها الاستهلاكية ورفع مستويات الأجور والدخول والتكافل الاجتماعي وتحسين مستويات الرفاهية والمعيشة للمواطنين، وليست مجرد خطة قاصرة على وزارة واحدة تتحمل بمفردها مواجهة الأعباء العديدة لتنمية الصناعة.
وللحديث بقية،،