ما زالت مسألة تعليم الكتابة الإبداعية في الوطن العربي مثار جدل واسع، ويرفضها صراحة عدد من كتابنا المهمين، ويرون أنها ليست إلا تجارة لن تنتج إلا قوالب، وأن الإبداع بداهة لا يمكن تعليمه، وهو رأي له وجاهته في ظل الكم الهائل من ورش الكتابة الإبداعية التي تعتمد في إعلاناتها ومحتواها على وعد كاذب بالشهرة لا الكتابة، تقديم صيرورة إنتاج أشبه بالماكينة التي ستلقي إليها ببضعة خيوط ثم تعمل وحدها، مسارات محددة تركز على الكم، كأنه مصنع كبير للرواية، وكذلك تعدك بحلول للحبسة الإبداعية كأنها أكذوبة، ولا تخبرك شيئا عن المعاناة والتحدي والصراع مع المادة والشكل، ما تقدمه لك في النهاية كعملية هو خطة، تنسى الشيء الهام، الأدب نفسه.

في الأغلب المروجين لتلك الورش ذات التكلفة المادية العالية والتي تبيع أحلاما في الهواء، كما أشار أديبنا الكبير عزت القمحاوي في مقاله: القابضون على الهواء، لا يجيدون الكتابة، حتى لو كان بعضهم نشر كما من الروايات تحت بند الأكثر رواجا، والتي نقلوا فيها ما فهموه: ما يهم هو عدد القراء أو ما يوازي ، الكليكات في عالم الصحافة، أما الأدب نفسه، فلا يذكر لأنه من البداية لم يكن في المعادلة.

لكن تجربتي الشخصية مع القراءة المتعمقة لمادة كورس كتابة إبداعية لواحد من أهم الكتاب المعاصرين، القاص والروائي الأمريكي جورج سوندرز، تمنحني فكرة مختلفة بعض الشيء، A swim in a pond in the rain، وهو نص محاضراته في “علم” الكتابة الإبداعية، لأنه رغم تعاطيه مع تعليم التقنية، إلا أن جوهر ما ناقشه فعليا كان الأدب، بل تجاوزه أيضا إلى ما يمكن أن نتعلمه عن الحياة، وكانت النصوص التي يعلم من خلالها هي نصوص لأدباء كبار، من خلال سبع قصص قصيرة لأربعة كتاب روس مهمين، تشيكوف تولستوي، تورجنيف، جوجول، كأنه اختيار بالضد لكتب التشويق والإثارة.

مفهوم الحرفة أو التقنية عنده لم يكن هدفه تعليم قواعد آلية أو منح الراغب في الكتابة، بضعة تروس ناقصة في ماكينة تستنسخ الروايات والقصص ضمن دورة سريعة الأرباح ومثمرة بمعيار الآن، كما أن تعلم الحرفة ليس القيد، بل وسيلة التحرر من ذلك القيد الذي يكبل أصواتنا ويشوشها، الذي يحميها من أنا متضخمة ترغب في استعراض أتفه ما فيها وهي تظنه أثمن ما عندها.

يذكرنا كتاب جورج سوندرز الذي أتمنى أن يترجم إلى العربية قريبا، أن الهدف من تعلم الحرفة هو أن تستعيد من خلال إعادة الكتابة، أي القراءة بانتباه، صوت الحكاء الأساسي والأول المغروس فينا جميعا، أن تمهد للشرارة الطريق، أن تحفر الطريق، أما الشكل، جديدا كان، كلاسيكيا أو مبتكرا أو هجينا أو تقليديا، فلن يتولد إلا بالإنصات المخلص لما ترغب القصة في قوله، لي ذراع صوتها لا يجدي، إذا ما فهمت بعمق مضمون ما ترغب قصتك في إخبارك به، سيتولد الشكل من تلقاء ذاته وسيكون متسقا مع المضمون.

أغلب مقالات وكتب الحرفة تحكي قواعد إن اتبعتها ستنتج رواية أو قصة، لكن تلك القواعد تتجاهل أن تناقش قلب فكرة الكتابة: ملامسة حقيقة الكتابة وجوهرها. أنظر بأسى إلى عدد الروايات المنشورة التي تعرف كيف تنجح دون هذا القلب، ليتحول هذا الفن إلى ماراثون مهرجين وبائعي سلع، لأن الانفصال تام عن حقيقة الذات، وبالتالي حقيقة الفن وشخوصه المُتخيّلة، هذا الكذب غير فني، بل أقرب لخطيئة، لا تعين تلك الروايات قارئها على اكتشاف حقيقة، بل تعيد تكرار ما سبق أن عرفه. كما أن ثمة شهوة استعراض لا تكل لشيء ما تطغى على النص، إثارة القارئ والاستحواذ على انتباهه عبر مشاعر خفيضة صارت أهم من دفعه لتأمل أغوارها.

وكما أن في مصر ثمة دعاية مكثفة لورش تخاطب في الكتاب أحلام الشهرة لا أحلام الكتابة بشكل جيد على طريقة كورسات التنمية البشرية، في إن شرط الورش التي تتعاطى أولا وأخيرا مع الأدب، وعبره تناقش كل ما أراد لها أن تناقشه هو نموذج موجود أيضا، كشأن ورش أقامها كتاب كمحمد عبد النبي وعادل عصمت ومنصورة عز الدين وياسر عبد اللطيف ويوسف رخا، وبحكم تعريفي كأديب ومهنتي كصحفي كان لي حظ الاطلاع على بعض من موادها الهامة حتى لكاتب محترف.

لذا في النهاية أرى أن يمكن للكتابة الإبداعية أن تصير علما يدرس بل أتمنى أن تدرس في الجامعة مادة كتلك، شريطة ألا تنسى الأدب، شريطة ألا تبيع الأوهام.