هل واجهك أحدهم بنهاية حادة وقاطعة لنقاش قائلًا “أنا حُرّ” أو “أنت حُرّ”، فيأتي هذا الاستخدام كصخرة في الطريق فلا يكتمل، تلك الحرية المُعلنة هي ذاتها القطيعة في لحظات، وهي ذلك السلاح الذي يُشهره أحدهم في وجهك فيمنعك من مناقشة أو قرار، إنه سلاح ذو حدين وفى كلا الحالتين أنت مُصاب.
الحرية
يُرجع المتخصصون ظهور كلمة حرية للمرة الأولى بِصُدور مرسوم من الحاكم ساردس الذي أقرّ بِمنح الحريّة الدينيّة لِلمسيحيّين، ثمّ ظهر المُصطلح مرّةً أُخرى في قسنطينة مع مرسوم ميلانو عام 313م، وذلك عندما وَرَدَ عن الكنيسة الكاثوليكيّة: (إنّ الإنسان خُلِق حُرّاً، لكنّه أساء استخدام الحرّية عندما أكل ثمرةً من ثمار شجرة معرفة الخير والشرّ). بينما أصل المصطلح يعود إلى الكلمة اللاتينيّة (Liber)، وتعني قُدرة الإنسان على التحرُّك والتصرُّف والقيام بِأيّ عملٍ بوجود أدنى حدٍّ من القيود.
وإن كانت الحرية تتعدد في وصفها إلا أنها في مجملها تُشير إلى عدم وجود قيود، وأن القيود الحقيقة تكون نابعة من الفرد ذاته، فمحدداته في السلوك تنبع من أخلاقه ومبادئه، وإن كانت ارتبطت قديمًا بفكرة العبودية والرق، فإن الانتهاء الظاهري للرق والعبودية، فإن رموز مثل سماء، وطير هي مفردات ارتبطت ذهنيًا وبصريًا بفكرة الحرية.
ولأن الإنسان هو عضو في جماعة ولا يعيش مفردًا فقد جاء وضع تقييدات أو قيود خاصة بحرية الأفراد كون تلك الحرية لا تضر الآخرين، فقد ورَد في إعلان حقوق الإنسان الصّادر عام 1789م على أنّه: (حقّ الفرد في أن يفعل ما لا يَضُرّ الآخرين).
حتى هذه اللحظة نتفق ولو ظاهريًا على حرية كل إنسان.
الحرية بين التهديد والحق
طيلة عمر الإنسان يُحارب من أجل حريته، واستقلاله، تكون الحرب في قوتها وشراستها بقدر وضوح الفكرة في عقل صاحبها، وقوة إرادته، إلا أنه تغييرات عديدة اجتماعية وفكرية حدثت منذ الألفية الثالثة، فتطور التكنولوجيا وسهولة التواصل ساهمت بقدر كبير في انتقال الأفكار عبر الكوكب بأكمله، ولم تقف الحدود السياسية عائقًا كما كانت، بل أنه حتى مع الحدود اللغوية، لم تعد هناك مشكلة، وقد ظهر هذا بوضوح متجسدة في ثورات الربيع العربي، وأحلام الحرية والاستقلال بعيدًا عن منظومات الفساد.
تمثل فترة الثورات العربية مرحلة تحول اجتماعي وفكري واضحة وعنيفة أحيانًا، فسيادة مصطلح الحرية صار واسع الانتشار، وذو استخدام متنوع، وفى كل ذلك لا توجد مشكلة ظاهرية، المشكلة الحقيقية تكمن حين يستخدم أحدهم جملة “أنا حر” كسلاح تهديد، فيُنهي مناقشة، تحت وقع التهديد وكأن النقاش جزء من سرقة حريته، أو أنه بسلوكه يضر آخرين، لكنه ضررًا غير واضح في تلك اللحظة.
فعلي سبيل المثال أنت حر في أن تشرب زجاجة مياه غازية وانت في سيارتك، لكنه عندما تنتهي منها وتقرر أن تلقي بها من السيارة أثناء سيرك، فإن تلك الحرية تؤثر على غيرك، فربما ارتطمت الزجاجة بأحد المارة، أو سقطت مهشمة ومرً فوق الأجزاء المكسورة أحد المارة واصابت قدمه، أو أصابت كاوتش سيارة فأتلفته.
الحرية بين التنظير والحياة
مفهوم الحرية المطلقة هو مفهوم غير قابل للتحقق على أرض الواقع، فلا شيء مُطلق، وهنا تُصبح فكرة النسبية مناسبة لمناقشة مفهوم الحرية، فالشخص الذي يصرخ في وجهك بجملته وقانونه انه حر، هو ينتهج هذا الطريق ليشوش على انتهاكه لحقوق الاخرين، أما الخوف من التصاق اتهامات بالقمع فهو خوف يعمل لصالح حالة الترهيب بالحرية.
فما نقرأه عن الحرية في الكتابات سواء الفلسفة أو القانون أو حتى الانتاجات الفكرية والأدبية، هي تنظيرات تحتاج الكثير من الوقت والعمل لتبدو حقيقة وسلوك.
وتجسد الأفكار الخاطئة عن الحرية بكون الانسان يفعل كل ما يحلو له، هو أمر ينتج عنه فوضى حتمية، فحتى السماء التي نراها رمزًا للبراح لها حدود، والبحر محدود أيضًا.
الحديث عن حدود وقيود الحرية لا يعني أن الديكتاتورية هي الحل، فوجود عقد اجتماعي متفق عليه، لا يعني بأي حال ممارسة القمع وانتزاع حرية الفرد أو الجماعة.
وحتى تكون الحرية سلوك حقيقي فإن المجتمع ملزم تجاه أفراده بتعليم جيد وفرص تؤكد مبدأ الكفاءة، كذلك تعدد الاختيارات والبدائل، بحيث تكون الحرية متاحة حقًا وليست مجرد شعارات متداولة في فاعليات أو سلاح يُشهره البعض عند احتداد المناقشات.
الحرية لا تعني أن تفعل كل ما يحلو لك، لكنها تعني أن تحقق رغباتك دون أن تضر بالآخرين، لكن الحرية أيضًا تعني أن تمارس حقك في ابداء رأيك الشخصي في أمور تخصك، وعندما يتم منعك من ذلك فإن الحرية تكون مقودة.
ربما يستخدم البعض سلاح الحرية في غير موضعه نظرًا لما يُعانيه من قيود حقيقية لممارسة حريته الفعلية، فيتجه صوب آخرين وفى موضوعات قد لا تستلزم اعلان الحرية، لكنه يقول ذلك بوضوح كانعكاس لإحساسه بفقد الحرية الحقيقية، تلك الحرية التي تحتاج أن تتربى مع الصغار، في تدريبهم على الاختيار وتكوين الشخصية، وتعلم قيمة الفرد، وكذلك قيمة المجتمع.
فحين يصرخ أحدهم أنه حر اعلم أنه بداخله يشعر بقيود بالغة، فالحرية الحقيقية تنعكس في سلوك الفرد والجماعة، أما تحولها لشعارات وكلمات في مناقشات فهو يُشير إلى غيابها.