عرفت مصر استبعادا للشباب في عهد الرئيس مبارك نتيجة الجمود الذي أصاب النظام السياسي عقب بقائه الطويل في السلطة وعدم ميله للتغيير. على عكس ما جرى في عهد عبد الناصر الذي عرف ثورة سياسية وجيلية في الوقت نفسه.

صحيح أن في مصر همشت الأجيال الشابة من المجال العام والسياسي لفترة طويلة. وراجت مفاهيم من نوع “لا تختلف ولا تناقش أستاذك” و”عميد كليتك يجب أن يقود مسيرتك”. و”رئيسك في العمل مطلوب دائما أن تنافقه وتؤيد ما يقول” و”أنت أيها الشاب عليك فقط السمع والطاعة لمن هم أكبر منك سنا وغير مسموح لك حتى بمناقشتهم”.

والواضح أن هذا الاستعلاء الجيلي عرفته مصر لأسباب متعددة. بعضها ثقافي يرجع لكونها بلد تقدر ثقافته الكبير وتحترم الأكبر سنا رغم شكوى البعض الآن بالعكس. وهي كلها أمور قد تكون محمودة ونجدها في مجتمعات كثيرة  متقدمة. لو قامت على عدم الإقصاء واعتبرت الشراكة بين الأجيال والنقاش الحر بين الشباب والكبار مظهرا صحيا ودليل حيوية المجتمع ونظامه السياسي. كما أن هناك أيضا أسبابا ترجع إلى جمود النظام السياسي واعتياده إدارة البلاد على مدار ثلاثين عاما بأجيال قريبة من جيل مبارك.

صحيح أنه أعطيت مساحة يعتد بها للمعارضة الشبابية الاحتجاجية. وفي الوقت نفسه فتح الطريق لمشروع التوريث الذي اعتبر أيضا شبابيا. إلا أن المساحة الغالبة في أداء النظام السياسي كانت قائمة على الجمود واستبعاد الأجيال الشابة.

وقد دفع الاستعلاء الجيلي الذي مورس على كثير من الشباب قبل ثورة يناير إلى قيام بعضهم بممارسة الإقصاء الجيلي بعدها. والبحث عن بناء تنظيمات سياسية أو جماعات احتجاجية “نقية” وغير “ملوثة” بأجيال أخرى غير جيل الشباب. فنظروا إلى جيل الوسط (40 إلى 50 عاما) بعين الريبة والرفض. وإلى الجيل الكبير باعتبارهم “فلول” وخانعين للنظم الحاكمة وإن الشباب فقط هم من قاموا بالثورة.

والحقيقة أن هذه الطريقة في التفكير تعكس الطريقة الإقصائية نفسها التي تمارسها السلطة (سياسية أو أبوية أو إدارية) في  التعامل مع موضوع الشباب. فمصر ليست بحاجة إلى استعلاء أو إقصاء جيلي. إنما “شراكة جيلية” تبنى على معيار الكفاءة والقدرة على العطاء والعمل والإبداع.

المؤكد أن أي فريق عمل (سياسي أو إداري أو علمي) ناجح هو الذي يضم في صفوفه أجيالاً متعددة قادرة على إدارة حوار أو خلاف محترم. وأي حزب سيضم في مستوياته القيادية فقط جيل الكبار أو جيل الشباب سيفشل فشلا ذريعا. فالاستعلاء الجيلي هو سلاح العاجزين ومحدودي الكفاءة الذين يخشون من فاعلية الشباب وحيويتهم تحت حجة انعدام الخبرة وعدم النضج وغيره. تماما مثل الإقصاء الجيلي الذي يعني عدم ثقة الشباب في قدرتهم لأنهم يرغبون في استبعاد الأكبر سنا حتى لو كانوا أكفاء وقادرين على العطاء. فى حين أن تجارب النجاح في أي بلد في العالم هي التي تستفيد مؤسساتها من خبرات الكبار وحيوية الشباب معا دون أي إقصاء أو تمييز.

لقد وجدنا فى كل بلاد العالم الديمقراطي رؤساء في الثلاثينيات والأربعينيات يقودون أشخاصا في الستينيات والعكس. ولم يقل أحد للآخر إنه كان يجري وراء “عربة الرش” حين كان هو مناضلا أو أستاذا كبيرا. كتعبير عن استعلاء جيلي تجاه الشباب. كما أن هؤلاء الرؤساء الشباب لم يحتكروا السلطة لأجيالهم. فشهدنا في أمريكا أوباما “الأربعيناتي” الذي مثل لكثيرين فتحا جيليا واعتبروا عصره انطلاقة لتكريس حكم جيل الشباب في أمريكا. إلا أننا فوجئنا بأن الرئيس الذي جاء بعده (ترامب) في أوائل السبعينيات ثم جاء بعده بايدن في نهاية السبعينيات.

تحتاج مصر للخروج من أزمة الشباب والأجيال إلى عنصرين رئيسين:

الأول ضرورة تجاوز “العُقد الجيلية” والأحكام والاتهامات المختلفة بين الأجيال لصالح بناء “شراكة جيلية” تضم الكفاءات القادرة على العطاء بصرف النظر عن سنها. ودون الحاجة إلى شعارات كبيرة عن الشباب لها صدى إعلامي أكثر منه في الواقع. فالمطلوب تكريس قيمة الكفاءة والمهنية والتجديد. وبالتالي ستبحث كل مؤسسة عن الأكفأ والأفيد بصرف النظر ما إذا كان شابا أو رجلا كبير السن. أما اعتبار الشباب مهنة أو قيمة في ذاتها بصرف النظر عن مؤهلاته فإنه سيؤدي إلى فشل في الأداء السياسي والمهني لإهدار قيمة الكفاءة وليس لتمكين الشباب. صحيح لا بد أن يكون هناك تجديد جيلي ولا يمكن أن يبقى شخص في رئاسة مؤسسة أو حزب أو دولة عشرات السنين دون تجديد وضخ دماء شابة. لكن دائما على أساس الكفاءة والمهنية والقدرة على العطاء والعمل.

ثانيا مسألة تمكين الشباب عبر إنشاء مؤسسات خاصة مغلقة عليهم بهدف تمكينهم. وهو في الحقيقة تمكين مصنّع أو سابق التجهيز لأنه لا يترك الشباب لتفاعل صحي مع المجتمع والأجيال المختلفة دون توجيه. وهو يمثل الوجه الآخر لتجارب الاحتجاج الشبابية التي نجحت في الرفض ولم تنجح في البناء. فثورات الطلاب في فرنسا والعديد من البلدان الأوربية في 1968 نجحت في الكشف عن عيوب كثيرة في النظام الرأسمالي القائم. وحين اختار كثير من قادتها أن يشكلوا بديلا لهذا النظام أسسوا أحزابا اشتراكية قامت على أساس الشراكة الجيلية وليس تمكين الشباب. ونجحت في الوصول للحكم عبر تفاعلها مع الواقع الاجتماعي والسياسي وبصورة أدت إلي تجديد النظام القائم وضخ دماء وخبرات جديدة.

كما أن تجارب الحركات الشبابية الاحتجاجية في مصر قبل وبعد ثورة يناير نجحت في رفض ما هو قائم ولكنها فشلت في بناء بديل وكان أحد أسباب ذلك هو تركيبتها الداخلية “الشبابية”. وتجاهل تجارب النجاح التي تطلب شراكة جيلية دون استعلاء من الكبار أو إقصاء من الشباب.

نعم مطلوب التجديد وضخ دماء جديدة في منظومتنا السياسية والإدارية والمهنية على أساس الشراكة بين الأجيال. واعتبار الكفاءة قيمة عليا عندها دون “كلام كبير” عن تمكين الشباب سنجد دورا صحيا للنخبة السياسية والمهنية وسيكون عمادها الشباب.