كتب- عبد الوهاب شعبان:

بمعزل عن تراكمات التمييز والانعزال الممتدة منذ الستينيات، لا يمكن اختزال القلق من انعزال الأقباط في تأسيس “نادي رياضي“، رغم إحساس سائد بـ”تمييز” يتصاعد ضدهم في المشاركات الرياضية بشكل عام، وكرة القدم على وجه الخصوص.

ولأن أزمة التمييز التي قوبلت كنسيًا بـ”الانغلاق”، واستبدال الحاضنة الكنسية بالتعاطي مع المجتمع لسنوات طوال، تمخضت عن تأسيس نادي “عيون مصر” الرياضي في نهايتها، فإن ثمة اتجاهات أخرى يمكن معها قراءة بدايات “الانعزال القبطي”، مشتقًا منه انغلاق رياضي منذ انطلاق “دوري الكرازة” لكرة القدم على مستوى كنائس الجمهورية عام 2002. ونهايات أسفرت عن تحرك كنسي باتجاه تأسيس كيان يستوعب مواهب الأقباط في كرة القدم، مع الإبقاء على جدل حول الأثر المصاحب للانعزال، مقارنة بالفرص المتاحة لترسيخ المواطنة، والمساواة، وتكافؤ الفرص.

اقرأ أيضا.. الكنيسة والدولة.. من “العصا والجزرة” إلى المواطنة

تسطيح

البابا شنودة

تحكي أستاذة علم الاجتماع هدى زكريا عن مصر “سعد زغلول” – عام 1923 – حين أقبل الزعيم الوطني على كتابة الدستور المسمى بالتاريخ ذاته، واقترح عليه زملاؤه 30 اسمًا للمشاركة في جمعية تأسيسية آنذاك، فاختار 20 شخصًا مسلمًا، و7 مسيحيين، و3 يهود، كتشكيل معبر عن طبيعة المجتمع المصري، يعطي تقديرًا لقيمة المواطنة. من بين هؤلاء كان صديقه الرمز التاريخي المعروف “ويصا واصف”.

بعدها، وحتى فترة الستينيات لم تصمد الوحدة الوطنية أمام موجات التفرقة المنبثقة عن خلل في قاع المجتمع بفعل أشخاص يدركون خطورة استمرار البنيان المصري الوطني. وعلى حد قولها، فإن دراسة حملت عنوان “مفهوم نحن عند المصريين”، كشفت “منابر بعيدة عن العين في شمال سيناء، ونظيراتها من المناطق النائية، يعتليها أشخاص بأسماء مصرية مسلمة، وهم يتبعون جهات استخباراتية أخرى تعبث بالانتماء الوطني، وتعزز التطرف”.

وقد تقلص مع الوقت مفهوم الضمير الجمعي في مصر. وهو يعني مجموعة القيم، والمعايير التي يتبناها المجتمع، ويتعامل على أساسها. كما أنه قائم على تجربة تاريخية طويلة في الوحدة الوطنية، حتى أتت فترة الرئيس الراحل “محمد أنور السادات”، وأفرج عن مجموعة أسهمت بشكل أو بآخر في إشعال المعارك الداخلية. ومنذ ذلك الوقت يدفع الناس فاتورة اجتماعية باهظة الثمن.

ترى أستاذة علم الاجتماع أن حديثا عن انعزال الأقباط لمجرد إعلان تأسيس نادي رياضي لممارسة كرة القدم يعد تسطيحا للقضية. فمنذ تصرف “السادات” مع البابا شنودة الراحل، وعزله إلى دير الأنبا بيشوي، تمدد شعور العزلة في الوسط القبطي، وتحول الحس الوطني إلى انغلاق داخل الكنيسة، بعد تفكك كامل للضمير الجمعي في مصر.

نتيجة تفكيك

نادي عيون مصر

وقبل إعلان تأسيس “نادي عيون مصر” الشهر الجاري، وتوصيفه على أنه “خطوة لتعميق التمييز” في المجتمع، نظمت أسقفية الشباب منذ عام 2002 “دوري الكرازة” على مستوى كنائس الجمهورية بمشاركة نحو 10 آلاف لاعب كرة قدم، وبإشراف كنسي كامل، وتنعقد المنافسة على 6 مراحل، ويتسلم الفائز من كل مرحلة كأس الكرازة، وميداليات من “البابا” في احتفال يقام عقب المباراة النهائية.

يبدأ دوري الكرازة حسب تصريحات سابقة لـ”أندرو رأفت” مسئول النشاط الرياضي بكنيسة العذراء بالزيتون في القاهرة في شهر “يوليو” وينتهي في “سبتمبر” من كل عام.

هذا النشاط الكنسي وصفته “أستاذة علم الاجتماع” على أنه محاولة كنسية للبقاء في مقابل ما اعتبره الأقباط الملاذ البديل. وينبثق عن ذلك تساؤل منطقي: “لماذا الآن تحديدًا لإعلان تأسيس نادي رياضي؟”.

على حد قولها فإن لدينا في الإعلام المصري قنوات، وبرامج رياضية تتجاوز العدد 20، بين هذه البرامج التي تبث بانتظام، وانتشار لافت، هل هناك وجود، ومساحة للاعب قبطي يحكي تجربة انضمامه للأندية الشهيرة، أو منتخب مصر، أو يسلط الضوء على تجربة احترافية؟.

وتستطرد “زكريا”: سقطت هويتنا الوطنية في يد من لا يرحم منذ 50 عاما، أو يزيد”. والنتيجة لا يمكن اختزالها في إنشاء نادي كنسي حسبما يوصفه البعض، وإنما هي استكمال لمسيرة رد الفعل السائد بعد تفكيك الضمير الجمعي المصري.

تمثيل قبطي في كرة القدم

مقارنة بالواقع الرياضي منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وحتى بداية الألفية الجديدة، فإن تراجعًا ملحوظًا في تمثيل الأقباط بفرق كرة القدم المصرية، حيث لعب “رزق الله حنين” للنادي الأهلي، و”كامل أندراوس” للزمالك في فترة الثلاثينيات.

كما حظيت فترة الستينيات بوجود لاعبين مميزين في أندية السكة الحديد، وغزل المحلة، والمصري البورسعيدي، من بينهم”جرجس نجيب، رمزي برسوم، نخلة جرجس، وصليب، وفهمي رزق، ومنير جرجس”

وبزغ في مطلع الثمانينيات نجم اللاعبين الشهيرين “محسن عبدالمسيح، وطارق فهيم” بنادي الإسماعيلي، و”أشرف يوسف” بنادي الزمالك، وفي نهايتها ظهر اللاعب هاني رمزي أصغر المشاركين في كأس العالم عام 1990، وقائد خط دفاع النادي الأهلي، وصاحب التجربة الاحترافية الرائدة طوال فترة التسعينيات، وحتى مطلع الألفية.

ومؤخرًا يشارك اللاعبان “جرجس مجدي”، و”أمير عادل” في صفوف ناديي “إنبي، ووادي دجلة”، ومع هذه المشاركة، ورغم رعاية إعلامية استثنائية للدوري المصري، وبث لا ينقطع لـ”ستوديوهات تحليلية” طوال مبارياته، ولقاءات حصرية شبه يومية مع اللاعبين، لم يحظ اللاعبان بحضور في لقاءات إعلامية داخل “ستوديوهات” البرامج المسائية، ولا لقاءات ما بعد المباريات.

لكن سؤالًا عالقًا يطرحه الناقد الرياضي “ياسر أيوب” بشأن مواهب الأقباط في ملاعب كرة القدم يتبلور في : هل من المعقول مشاركة 10 آلاف لاعب في دوري الكرازة، ولا يظهر من بينهم “موهبة واحدة” في أندية الدوري الممتاز، أو على الأقل تستوعب المئات منهم قطاعات الناشئين بالأندية الجماهيرية؟.

إرث السبعينيات

وزير الشباب مع الأنبا روفائيل لإشهار نادي عيون مصر

بطرح دعوة البحث عن حلول واقعية على أرضية المواطنة، وتصدي منظمات المجتمع المدني لممارسات التعصب، عبر خلق مناخ تنافسي يعتمد مبدأ “تكافؤ الفرص”، فإننا بحاجة إلى التخلص من إرث السبعينيات الذي يتبلور في احتضان الكنيسة للأقباط خشية مواجهة التمييز الخارجي من جهة، والتطرف، والتمييز ضد المسيحيين من جهة أخرى-على حد قول الباحث سامح فوزي.

ورغم أن العلاقة بين مكونات المجتمع تغيرت في الفترة الراهنة، لكننا لم نتغير، والمدربون الذين يرفضون اللاعبين على أساس ديني، أو طبقي لم يتغيروا-حسب وصفه.

الطرح ذاته ينسجم مع رؤية أستاذة علم الاجتماع”هدى زكريا” القائلة بأن إجراء مسح في الأندية الشهيرة سيكشف عن حقيقة المعاناة، والتي أنتجت المعادلة” أنا أعاني من عنصرية، وهناك من أعطاني مكانًا”.

لكن ذلك لا يعفي السياسة التعليمية، والإعلامية منذ فترة السبعينيات، والتي توجهت توجهًا دينيًا تقليديًا دفع للعزلة، والخوف من المجتمع، من تحمل مسئولية النتائج الكارثية التي تهدر مبدأ المساواة، والمواطنة في الوقت الراهن على حد قولها.

أضافت الخبيرة الاجتماعية لـ”مصر360″ أن الثقافة المجتمعية قبل هذه الحقبة كانت تستوعب فكرة التعددية، والتنوع، حتى بائع الجرجير كان يعقل جيدا عبارة دارجة “موسى نبي، وعيسى نبي، ومحمد نبي، وكل من له نبي يصلي عليه”. الآن اختل الخيال التاريخي للمصريين، ولا زلنا نستغرق في تحليل النتائج بعيدا عن الأسباب.

 ما الأزمة بالضبط؟

بمحاذاة الإرث التاريخي، وتصنيفاته، وبعد جنوح الأقباط للانعزال في أنشطة كنسية، ومحاولة “الأنبا روفائيل” أسقف وسط القاهرة، ورفاقه في إعلان تأسيس كيان يستوعب لاعبي كرة القدم المسيحيين، دعا الباحث في شئون المواطنة الدكتور سامح فوزي إلى التفرقة بين أمرين، أولهما: إنشاء هيئة، أو مؤسسة في قلب المجتمع تتبع القيم الأساسية السائدة في المجتمع، بما يعني أن المسألة ليست في ملكية المؤسسة، أو ديانة مؤسسها، وإنما بالقيم، والآليات التي تحكم المؤسسة.

والآخر-على حد قوله- يأتي في الخبرة الحياتية، بما يعني أن الكنيسة لديها مستشفيات، وجمعيات أهلية تلتزم بمبدأ المساواة في تقديم الخدمة دون تمييز، أو تفرقة، وبالتالي الجهة المنشأة ليست هي القضية، وإنما القضية في إنشاء مؤسسة تعبر عن لون واحد، وتندرج تحت مظلة الطائفية.

بإعلان “إدارة مدنية” لهذه المؤسسة “عيون مصر”، وإدراج لوائح لا تتضمن بندًا دينيًا، أو روحيًا، وإتاحته للمصريين دون تمييز، فإن ذلك يعد تجاوزًا للجدل، والأزمة –على حد تعبيره.

الباحث في شئون المواطنة تخوف من تعميق “الانعزالية” حال الإبقاء على نادي عيون مصر كحاضنة للمسيحيين فقط، لكنه في الوقت ذاته أعرب عن أمنيته في تقديمه كهدية للمجتمع المدني.

لا مانع من إلغائه بشرط

من زاوية مختلفة فضل الدكتور رامي عطا، الباحث في الشأن القبطي، ورئيس قسم الصحافة بكلية الإعلام-الشروق- تغليب المصلحة العامة، وإعلاء شأن التعددية بإلغاء فكرة انطلاق نادي “عيون مصر” خشية تصاعد وتيرة التمييز، والطائفية، واستطرد قائلًا: “لا بد أن نضع في الاعتبار أن طموح اللاعبين سينخفض، واللاعب المسيحي سيستسهل الأمر، ويكف عن المحاولة، داعيا إلى وقف التوريث في الأندية المصرية، والبحث عن الكفاءات”.

ورغم التقاء رفض الباحثين في شئون المواطنة لفكرة الانعزال، مع دعوة مؤسسات الدولة لفتح الأبواب، والمناخ العام، وتجاوز فكرة الانعزال، فإن الباحث “رامي عطا” تجاوز رفض الفكرة إلى رفض مطلق لوضع الأقباط في اختبار نفسي صعب يتجلي في وضعهم بين تأسيس نادي يحتويهم، وأندية رياضية ترفض قبولهم، ومنحهم الفرصة على معيار الكفاءة.

ويصف “رامي عطا” الأنشطة الكنسية المتعلقة بكرة القدم، أو مسابقات المواهب،  بأنها تجرى في إطار عام، ويلجأ لها الأهالي نظير قيمة الاشتراك المخفضة. كما لفت إلى أنها ليست إشكالية إذا أدرجت ضمن أنشطة وزارة الشباب، وفتحت أمام الشباب أنشطة أخرى على نطاق أوسع، مع تعزيز الشعور بالطمأنينة، وترك الكنيسة للجانب الروحي فقط.

بينما اعتبرت الدكتورة إليزابيث شاكر عضو مجلس النواب السابق أنشطة الكنيسة بأنها ساحة لاستيعاب مواهب الأطفال، وتفريغ لطاقة الشباب، مؤكدة أن “دوري الكرازة” يجري داخليًا لأن المشتركين لم يصلوا بعد لدرجة الاحتراف، وهو تدريب عملي على المنافسة، بإمكانية المؤسسات استيعاب المشاركين في دوري المدارس.

من هنا تبدأ المساواة

بنظرة أفقية، وبالتوازي مع أطروحات الباحثين في شئون المواطنة، وأساتذة الاجتماع فإن القضية لا تكمن في إلغاء “نادي عيون” مصر، أو مراجعة الفكرة فحسب، وإنما ثمة حلول مستمدة من تاريخ المساواة، والمواطنة عبر الأجيال في المجتمع المصري.

ونحو ذلك استشهدت أستاذة علم الاجتماع الدكتورة “هدى زكريا” بفروق بين الأجيال حين كان التعليم المصري يستهدف تعزيز القيم الوطنية، لافتة إلى أن مدرس اللغة العربية في جيلها كان حريصًا على شرح كلمة “قبطي” داخل الفصل. والتأكيد على معناها الواضح “مصري”، بما يعني أنها تجمع المسلم، والمسيحي. بينما في أجيال جديدة استأثر بها المسيحيون نظير تغول تيار متطرف ينسلخ من هويته المصرية، مما أحدث فجوة تاريخية عميقة في المفاهيم الوطنية.

في مواجهة ذلك –على حد قولها- لا يمكن التركيز على مهاجمة الكنيسة، والنادي المستحدث، فالكنيسة حسب رؤيتها لديها مدارس الأحد، ولديها مدارس خاصة تجمع المسلمين، والمسيحيين. كذلك دعت إلى التحرك باتجاه الضمير الوطني الذي يعمق فرص المساواة.

على الصعيد ذاته أعرب الباحث في شئون المواطنة الدكتور سامح فوزي، عن أمله في فتح المجال العام، واستغلال قواعد مرحلة ما بعد 30 يونيو التي تحرص على تعزيز الهوية المصرية، والمساواة على أساس الكفاءة. إذ دعا الأندية الشهيرة إلى تبني مقترح عقد اختبارات قطاعات الناشئين على أكثر من مرحلة للتأكد من مصداقية الاختيار، ولعدم وضع القرار في يد شخص واحد.

أضاف “فوزي” لـ”مصر360″ أن غياب القانون الحاكم لمدربي الأندية في هذا القطاع، جعل السلوك، والمزاج الشخصي محددًا لفرص الموهوبين بغض النظر عن الكفاءة.

بدورها طالبت الخبيرة الاجتماعية “إنشاد عز الدين”-أستاذ علم الاجتماع العائلي-جامعة المنوفية اتحاد كرة القدم بمحاسبة المتجاوزين عبر وضع لوائح تمنع التمييز، وتعطي فرص الناشئين على أساس الكفاءة.

علاج الأزمة

ولم يخف الدكتور رامي عطا رغبته في فتح المجال العام أمام الجميع، لتقليل الأنشطة الكنسية إذا كان ثمة تخوف من تعميقها للانعزالية المجتمعية، لافتًا إلى أن ذلك يستلزم تعزيز الشعور بالأمان، والطمأنينة، وإتاحة فرص أفضل على كافة المستويات “الرياضية، والتعليمية، وغيرها” بأسعار مقبولة، دون أن تشكل عبئًا إضافيًا على الأسرة المصرية.

وأضاف لـ”مصر360″ أن الفترة الحالية هي الأنسب لترسيخ المواطنة، والمساواة، والاستفادة من كل المواهب، والمبدعين في مختلف المجالات، دون النظر إلى خانة الديانة، لافتًا إلى أن الدولة بعد 30 يونيو، تتخذ خطوات جادة نحو ذلك، ويدلل على ذلك خطاب المساواة الذي يتبناه رئيس الجمهورية، بما يتضمنه من إعلاء قيمة الهوية المصرية.

لكن الدكتورة هدى زكريا أستاذ علم الاجتماع السياسي وصفت العلاج بـ”الصعب”، لأن تناول الأمور بشكل سطحي يعمق من الأزمة، ولا يأتي بجديد –على حد وصفها-.

على الأقل من وجهة نظرها لا بد من دراسة الهوية الوطنية لمدة عام، ويستغرق ذلك ضرورة العمل على تغيير المناهج التعليمية، التاريخ، والتربية الوطنية، والبحث في السؤال الصعب، من سيكتب هذه المناهج.

أستاذة علم الاجتماع السياسي التي أدهشها استنكار تأسيس نادي رياضي تابع للكنيسة في الوقت الراهن، قالت إن اتخاذ هذه الخطوات يعد دفعًا باتجاه العودة إلى الضمير الجمعي الوطني، وإعادة تصحيح مفهوم “نحن”.

وأضافت لـ”مصر360″ أن روشتة العلاج يجب أن تتضمن إعادة الخطاب الإعلامي المصري الذي يتعرض لمثل هذه القضايا إلى العمق، لأن الحلول لن تأتي على سبيل المفاجأة، وإنما ستنتج عن حركة ثقافية شاملة، واجتماعات جادة، وموسعة لإعداد أجيال تؤمن بـ”الهوية الوطنية”.