في نفس اليوم الذي قتل فيه طالب جامعي زميلته بجامعة المنصورة بزعم عدم رغبتها في الارتباط به كان شاب مصري آخر يلقي بنفسه من أعلى برج القاهرة ليسقط ميتا.

في انتشار العنف المجتمعي خلال السنوات والأشهر الأخيرة مؤشر كاشف لأن هناك أزمة مجتمعية حادة نعيشها في هذا البلد. انتشار كبير لجرائم جديدة على المجتمع لم يعرفها من قبل ولا مرت به أبداً. هذه الجرائم هزت المجتمع بشدة في بعض الأحيان وصدمته بشكل كبير، وطرحت مئات الأسئلة عن الأسباب والنتائج وطرق المواجهة.

أما في الإسماعيلية وفي نهاية ديسمبر 2021 استيقظ المجتمع على جريمة قتل فصل فيها الجاني رأس الضحية وسار بها في الشوارع. جريمة لم تحدث من قبل، هزت المجتمع وصدمته كما لم يحدث أبدا.

اقرأ أيضا.. لماذا لا تتحدث الحكومة عن الأزمة الاقتصادية وخطط مواجهتها؟

وشكّل الفيديو الذي انتشر للجريمة على مواقع التواصل الاجتماعي صدمة جديدة للمجتمع الذي كان يُعرف تاريخياً بأنه غير ميّال للعنف، وأنه مجتمع مسالم طوال الوقت.

قبلها بعدة أشهر كانت أجهزة الأمن في محافظة المنيا تحاول فك لغز جريمة قتل فيها الأب أبنائه الثلاثة في إحدى قرى مركز ملوي دون أسباب واضحة.

بالتزامن مع جريمة المنيا كانت المجتمع يتابع بانتظام جريمة محمود نظمي بعد أن قتل طفليه الصغيرين “ريان” و”محمد”، بلا أسباب ولا خلفيات تشهد بأن الرجل له سوابق جنائية أو اشتراكا في عنف من أي نوع، وتابع المجتمع تفاصيل محاكمة الجاني بشكل كامل على مدار عدة أشهر.

في انتشار الانتحار في مصر مؤشر آخر جديد يدل على انتشار العنف الاجتماعي بعد أن يتحول من إيذاء الغير إلى إيذاء النفس.

فما الذي يدفع طالبة في كلية الطب إلى الانتحار من داخل مركز تجاري شهير وهي الناجحة والمتفوقة، وما الدافع لأن يلقي شاب في بداية العشرينيات من عمره بنفسه في النيل بعد أن تك رسالة غامضة لأسرته ووالده تحديدا، وما الذي يدفع لأن تحتل مصر مركزا متقدما في قضايا الانتحار عالميا.

محمود نظمي قتل طفليه في المنصورة

هذه مجرد أمثلة قليلة لانتشار كبير في العنف الاجتماعي وقضايا القتل وجرائم النفس وغيرها بصورة غير طبيعية وغير مفهومة وتستحق وقفة من الجميع.

العنف له أسباب شخصية بكل تأكيد، وقد يرجع إلى خلل نفسي وعقلي أو انحراف سلوكي عند بعض الأشخاص أو غيرها من الأسباب، لكن ما يهمنا هو أسبابه المجتمعية، فهي التي تضمن قدرة البلد على التعامل مع الظاهرة وتحجيم انتشارها حماية للمجتمع وأهله، وهي التي تضمن وضع تصورات للأسباب والنتائج والقدرة على المواجهة الجادة، لا سيما مع هذا الانتشار الملفت للعنف الاجتماعي في السنوات الأخيرة.

في دراسة مهمة لعدد من الباحثين عن “أسباب العنف وانتشاره في المجتمع” صدرت في جامعة القاهرة عام 2010 كان العاملان الاقتصادي والسياسي حاضرين بقوة في تفسير أسباب انتشار العنف المجتمع، وطرح الحلول المناسبة للتعامل مع تلك الظاهرة، مع ملاحظة أن العنف الاجتماعي وقتها كان أقل انتشارا بدرجة كبيرة من وقتنا الحالي.

تقول الدراسة إن المستوى الاقتصادي المتدني وخاصة في الأحياء والقرى الفقيرة یـؤدي لانتشار العنــف، وفي نفس الدراسة إشارة واضحة لوجود أسباب سياسية وراء ظاهرة العنف منها غياب الحوار وانتشار ثقافة الصوت الواحد.

في السببين الاقتصادي والسياسي للعنف ربما نجد تفسيرا لما يمر به المجتمع من ظواهر جديدة عليه وانتشارها بشكل ملفت.

فيما يتعلق بالأسباب الاقتصادية فقد تعرض المجتمع لأزمة اقتصادية واضحة خلال العامين الأخيرين، ظهرت مؤشراتها بشكل أكبر خلال الأشهر الفائتة.

زيادة نسب الفقر، وقلة فرص العمل وانتشار البطالة والغلاء الفاحش كلها أمور ضغطت على أعصاب الناس بشكل كبير، وأدت إلى إحساس عام بالإحباط والخوف من المستقبل، فضلاً عن عدم القدرة على التعايش الاقتصادي مع الواقع.

في الأسباب السياسية فإن الأمر واضح وضوح الشمس.

منذ أكثر من 6 سنوات تحول المجتمع إلى سياسة الصوت الواحد. لا حوار ولا جدل عام ولا أحزاب ولا نقابات ولا إعلام. استحواذ كامل من طرف جهة واحدة وصوت واحد على المجال العام وإقصاء كل الأصوات الأخرى.

تحولت أمنيات الناس بعد الثورة من إيمان ورغبة في مجتمع جديد تسود فيه قيم الحرية والكرامة والمساواة إلى ردة للوراء ومصادرة كاملة لكل أمل في التحول لبلد جديد.
هزيمة كاملة لأحلام ملايين ممن انتظروا أن يحمل الغد جديدا يمكن البناء عليه.

كل هذه الصدمات التي أطاحت بأحلام الناس يمكن أن تكون مدخلا مهما فب البحث وفي تفسير العنف وأسباب انتشاره.

في حسابات العنف المجتمعي لا يمكن استبعاد عوامل الفقر والبطالة والغلاء من المعادلة، ولا يمكن بالتأكيد إقصاء التفسير الذي يرجع القهر والقمع وسيادة الصوت الواحد عن أسباب الظاهرة المرعبة، وفي التعامل معها لا يصح أن ننسى أن الحل يكون بكفالة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والعكس بالعكس، فالبيئة التي تشجع على غياب التنوع والإقصاء وعدم المساواة وغياب العدالة هي بالطبع البيئة الأنسب لإفراز العنف الذي نرى مؤشراته الظاهرة كل يوم.

افتحوا أبواب الحرية والعقل والاستنارة، فهذا هو الطريق الأهم لمواجهة ظواهر مخيفة باتت تهدد المجتمع ذاته.

وافتحوا أبواب الأمل والعمل والعدالة امام الناس وأمام أحلامهم في مستقبل أفضل، فموت الأحلام يدفع المجتمع ذاته إلى الانتحار، ويدفع الناس إلى الإحباط العام الذي يظهر لنا في شكل جرائم النفس والعنف المجتمعي والإيذاء، بل أن هذه البيئة هي أيضا الأكثر قدرة على خلق الأفكار الإرهابية والمتطرفة وفي مواجهتها تحصين طبيعي للمجتمع ومناعته، ومواجهة مستحقة لكل صور الإحباط وفقدان الأمل في المستقبل.

بالعدل والحرية نستطيع تحصين المجتمع ضد العنف بكل صوره: بداية من جرائم النفس والإيذاء والقتل، ونهاية بالتطرف والإرهاب ودعاته.