ظل السؤال حول النظام الانتخابي الأكثر مناسبة وملاءمة لمصر وأوضاعها السياسية والمجتمعية مطروحا في مختلف الحقب والعهود والظروف، وبينما ظل النظام الفردي هو السائد والأكثر شيوعا جاءت تجربة الانتخابات بالقوائم في النصف الثاني من الثمانينات قبل أن يتم القضاء ببطلان النصوص القانونية التي أجريت على أساسها فتمت العودة مجددا لنظام الانتخابات الفردية، وهو ما تكرر بعد ثورة 25 يناير في أول مجلس يتم انتخابه أيضا ويشهد عودة لنظام القوائم بجانب النظام الفردي وهو المجلس الذى سيطر عليه الإخوان والسلفيون لكنه شهد تواجدا وحضورا للمعارضة المدنية وتم حله أيضا لبطلان نص القانون دستوريا، وبعيدا عن الأسباب والظروف السياسية في حالات الحل البرلماني لأسباب البطلان الدستوري، فإنها في المرتين كانت تتعلق بعدم تكافؤ الفرص والمساواة بين المرشحين الحزبيين والمستقلين، وليس لما يروجه البعض أحيانا عن البطلان الدستوري لنظام القائمة النسبية من الأساس، وإنما كانت المشكلة تتعلق بتخصيص نظام القوائم للأحزاب دون نفس الحق للمستقلين، وهو ما تم تلافيه لاحقا في النصوص الدستورية والقانونية لكن مع تحول النظام الانتخابي بالقوائم لما يشبه نفس فلسفة النظام الفردي، فأصبحنا أمام نظام انتخابي اسمه قائمة وفى جوهره نظام انتخابي فردى يعتمد على قوائم مغلقة مطلقة تنجح بالكامل بمجرد حصولها على 50%+1 من الأصوات.
فلسفة النظام الانتخابي بالقوائم هو بالأساس قائم على فكرة التمثيل النسبي، ومراعاة حصول كل كتلة تمثلها قائمة (حزبية مجتمعية – مستقلة – نوعية – أو خليط بين ذلك كله) على عدد مقاعد متناسب مع الأصوات التي حصلت عليها، وهى فلسفة تراعى التنوع والتعدد في المجتمع وتحرص على تمثيل ذلك التعدد والتنوع داخل المؤسسات التشريعية والرقابية برلمانية ومحلية، وبالتالي ضمان استيعاب المؤسسات الرسمية لمختلف الآراء والتوجهات والأفكار كل حسب وزنه النسبي المعبر عنه في أصوات انتخابية، دون إهدارها لمجرد عدم حصول القائمة التي تعبر عن تلك الأصوات على الأغلبية.
إذا كان هناك توجه حقيقي في المرحلة المقبلة لانفتاح في المجال العام وإصلاح سياسي، فجزء رئيسي من ذلك هو فتح أبواب المؤسسات البرلمانية والمحلية التي يتم اختيار أعضائها بالانتخاب لتكون تعبيرا عن تعدد وتنوع الأصوات في المجتمع، سياسيا وحزبيا وفكريا واجتماعيا، وحضور تعبيرات عن مختلف الأفكار والتوجهات والمصالح، بحيث يكون البرلمان والمجالس المحلية أدوات سياسية وشعبية حقيقية في الحوار والتفكير والمساءلة والمحاسبة والتشريع، لا أن يكون الأداء كما شهدناه في السنوات الماضية سواء على المستوى الرقابي الغائب أو مستوى التشريع الذى اكتفى غالبا بتمرير ما ترغب فيه السلطة التنفيذية وأحيانا أدت الاجتهادات على طريقة الملكيين أكثر من الملك لتمرير وتعديل لما هو أسوأ. ويبدو ذلك في مجمله نتاجا طبيعيا للمرحلة السابقة وسياساتها وتوجهاتها وكذلك التحكم شبه الكامل في مجريات العملية الانتخابية بدءا من قوانينها ومرورا بتشكيل قوائمها التي ساعد كونها بالنظام المغلق المطلق على ذلك، ووصولا لهذا الأداء الأقرب للغياب.
الآن ونحن على أبواب حوار وطني لا يزال موعد بدئه غير معلن في ظل أداء مترهل لمجلس أمنائه المستغرق في تفاصيل منهكة بلا طائل ولا جدوى حقيقية على مستوى الحوار وقضاياه ومخرجاته، وتركيز على ما يتعلق بالشكل بأكثر مما يخص المضمون، وحضور مفاجئ بين الحين والآخر ثم غياب مدهش لأيام وأسابيع رغم عدم انتهاء الإجراءات التحضرية.
لكننا على الأقل أمام قضايا ولجان محددة أحدها بمسمى (لجنة مباشرة الحقوق السياسية والتمثيل النيابي) فضلا عن لجنة أخرى بمسمى (المحليات)، وكلاهما ضمن المحور السياسي الذي لا زلت أراه الأهم إذا كنا نريد فتح باب حقيقي أمام إجراءات لفتح المجال العام وهو في ذاته -إن تحقق- خطوة على طريق مواجهة مشكلات أخرى أكثر صعوبة.
من هنا تأتي أهمية الحديث المتجدد والمتكرر عن أهمية بحث تعديلات جوهرية على النظام الانتخابي، وهى تعديلات لا تقتصر بالتأكيد على شكل النظام الانتخابي بل تمتد لضمانات العملية الانتخابية التي لا تقتصر على التصويت في الصندوق وإجراءات الفرز وإعلان النتائج، وإنما تسبق ذلك بالأجواء التي تجرى خلالها وشروطها، وإجراءات الحد من نفوذ المال السياسي بشكل محدد وقابل للتطبيق لا أن تكون مجرد نصوص على الورق، ورفع أيدى الأجهزة عن التدخل في العملية الانتخابية وترك تفاعلات الأحزاب والقوى الاجتماعية المختلفة في التشكيل والتحضير لأوضاع جديدة ينتج عنها شكل مختلف للمجالس المنتخبة برلمانيا ومحليا فيما هو مقبل، ثم وصولا إلى ما يتعلق بتقسيم الدوائر الانتخابية سواء على المستوى الفردي أو القوائم، وكيفية تمثيل الفئات المنصوص على مراعاة تمثيلها دستوريا.
بالتأكيد هناك من يرى أن النظام الفردي بالإجمال هو الأفضل والأنسب للواقع المصري والأكثر تعبيرا عنه، وهو أمر مفهوم في سياق تشابكات وتعقيدات الواقع السياسي والمجتمعي المرتبط بتقاليد سياسية وانتخابية وعائلية وقبلية في الريف والصعيد وغيرهما من المناطق، لكن تغيير هذا الواقع الذى لا علاقة له بمفهوم العمل السياسي والحزبي بمعانيه الحديثة يتطلب نقلات مخططة ووراءها إرادة واضحة في بناء حياة سياسية وحزبية حقيقية لا تتجاهل الحقائق لكن تسعى لتطويرها وإدماجها فيما هو أشمل، وبالتأكيد هناك من قد يرى أن نظام القوائم المغلقة المطلقة أكثر سهولة ويسرا وبعدا عن التعقيدات فضلا عن ضمانته الدستورية بأنه لا يوجد فيه ما يتعارض مع نصوص الدستور، والحقيقة أيضا أن مصالح بعض الأطراف بما فيها ما هو محسوب على قوى حزبية وسياسية قد تكون تلك الطريقة الأسلم والأنسب لها لضمان حضورها وتمثيلها، لكن الواضح هنا أيضا أن هذا نظام لا يختلف في جوهره عن النظام الفردي، ولا يقدم أي معالجات متعلقة بتمثيل واسع ومتنوع للقوى والاتجاهات المختلفة، ولا يضمن عدالة التمثيل بناء على نسب الأصوات، فضلا عن أنه يكرس أن تكون اليد العليا إما لأجهزة وإما لمال سياسي يستطيع دعم قوائم مغلقة مطلقة على نطاقات جغرافية واسعة أو لأحزاب هشة وضعيفة لا تجد بديلا سوى انخراط في قوائم مضمون نجاحها، وهو كله مما لا يدعم بناء حياة حزبية وسياسية حقيقية ولا يؤسس لقواعد تنافس على أساس التوجهات والرؤى والأفكار ولا يتيح مساحات لفكرة الانتخاب على أساس البرامج لا على أساس الأشخاص أو الروابط العائلية والقبلية أو المصالح المالية.
لا بديل عن اعتماد نظام انتخابي نسبي إذا كنا نريد الانتقال خطوة للأمام، ولا أدعي ولا أظن أن أحدا يدعي أن نظام الانتخاب بالقوائم النسبية يضمن تحقيق هذا الانتقال المطلوب فورا، وإنما هو طريق وسبيل للبدء لا ضمان للوصول، وهذا الوصول يعتمد على أمور أخرى عديدة منها تفاعلات القوى والأطراف، ومنها إنضاج التجربة بالتدريج، ومنها أن تكون الاختيارات للتحالفات والانخراط فيها على أسس موضوعية وحقيقية، ومنها الدراسة المدققة في تفاصيل النظام الانتخابي وكل ما يتعلق به وبتطبيقه قبل البدء في تنفيذه، لكن دون نظام انتخابي بالقائمة النسبية فلا رهان حقيقي على تطور للحياة السياسية والحزبية ولا ضمان لإمكانية وجود تمثيل واسع وحقيقي لمختلف الأفكار والتوجهات في المجتمع داخل المؤسسات المنتخبة.
أخيرا فإن بعض الأصوات التي تتعالى أحيانا لوأد أي فرص لتطبيق نظام القوائم النسبية تدعى أنها بالأساس مخالفة للدستور، وهو أمر مدهش في ظل نصوص الدستور الحالي، وفى ظل ما هو واضح من أن حالات البطلان السابقة لهذا النظام كانت تتعلق بعدم المساواة والتكافؤ في الفرص بين الحزبيين والمستقلين وهو ما لا يدعو إليه احد، فضلا عن أن نصوص الدستور لا تحدد نظام بعينه، وإنما تنص المادة 102 من الدستور على أنه يجوز الأخذ بالنظام الانتخابي الفردي أو القائمة أو الجمع بأي نسبة بينهما، وما تشترطه هذه المادة هو تخصيص ما لا يقل عن ربع مقاعد مجلس النواب للمرأة، ومراعاة التمثيل العادل للسكان والمحافظات، كما ينص في مادتيه 243 و244 على تمثيل ملائم للعمال والفلاحين والشباب والمسيحيين وذوى الإعاقة والمصريين بالخارج، أما فيما يتعلق بالمجالس المحلية فنص المادة 180 يحدد أن يخصص ربع المقاعد للمرأة والربع للشباب وألا تقل نسبة تمثيل العمال والفلاحين عن 50% والتمثيل المناسب للمسيحيين وذوى الإعاقة. وبالتالي فإن السؤال الأساسي هنا في كل النظم الانتخابية سوف يكون كيفية تمثيل تلك الفئات وليس إذا ما كان أحد الأنظمة الانتخابية دستوريا أم لا، وبالتأكيد هناك اجتهادات بالفعل طرحت ونوقشت ولا تزال حاضرة فيما يتعلق بمشروعات لتطبيق نظام القائمة النسبية وضمان تمثيل تلك الفئات التزاما بالنصوص الدستورية، لكن ما تضمنه وتحققه فعلا نظم الانتخابات بالقائمة النسبية ولا يتوافر لغيرها هو روح الدستور، وروح بناء نظام سياسي متعدد ومتنوع كما تنص المادة 5 من الدستور، وضمان تمثيل وحضور حقيقي لمختلف التوجهات والأفكار والقطاعات في المؤسسات المنتخبة، وهذا في ذاته هدف يستحق الاجتهاد من أجله، ويستحق أن يكون أحد مقاييس وعلامات ومؤشرات خط جديد ومختلف للمرحلة المقبلة إزاء الحديث عن إصلاح سياسي وفتح المجال العام.