ليس من الإنصاف أن نتهم السلطة الحالية بأنها المسئولة عن موت السياسة في مصر، وليس من المقبول أن نعفيها من مسئوليتها عن استمرار الحالة وتفاقمها يومًا بعد يوم.

وفي نظري أن الدعوة إلى الحوار (بعد 9 سنوات) هي اعتراف مسبق بأن هناك ضرورة لمعالجة الانسداد السياسي الحاصل في المجتمع منذ إسقاط تحالف 30 يونيو 2013.

وهي -أي دعوة الحوار- اعتراف مُشهر بأننا بتنا في حاجة ماسة وملحة لوضع خارطة طريق جديدة إلى المستقبل انطلاقًا من النقطة التي وصلنا إليها.

لم يعد هناك جدال في أننا -أولًا- نواجه (ضمن ما نواجه من أزمات مختلفة) أزمة سياسية لا يمكن إنكار وجودها. وأن هناك -ثانيًا- إقرارٌ بأن التعامل الأمني قد وصل مداه، حقق ما تحقق على الأرض، وتصدى لموجة الإرهاب التي أعقبت ما جرى بعد 3 يوليو 2013، لكنه لم يعد قابلًا للاستمرار وحده في التعامل مع الواقع المستجد.

في الحساب الختامي كانت الفاتورة باهظة الثمن بالإصرار على مواصلة الطريق باتجاه واحد، والاعتماد على ذراع واحدة، مهما اشتدت قوتها، ومهما تجبرت قسوتها، فهي لن تكفي في النهاية لصناعة استقرار بات معرضًا من جديد لهزات اجتماعية وفورات شعبية لا يمكن التكهن بمداها، ولا يمكن التأكد من أن نسبة الخطورة التي تحملها لن تكون بدورها باهظة الثمن على المستوى الوطني.

**

لم يعد الإرهاب هو مشكلة مصر الأولى، وتراجعت قضية مواجهته إلى مكانها الطبيعي، لا تتصدر جدول مهمات الوطن، وفي الوقت نفسه، لا يمكننا أن نغفل إدراجها على جدول أعمال الحاضر والمستقبل.

ولم تعد جماعة الإخوان المسلمين تمثل خطرًا حالًا، ولا هي باستطاعتها (في ظل أوضاعها الحالية بين السجون والشتات والانقسامات والتشرذم الحادث في صفوف قياداتها وشبابها، أو من تبقى منهم) أن تشكل خطورة على المستقبل القريب والمتوسط، وفي ظني أن الشيء الوحيد الذي يعطيها أملًا في أن تعود لتشكل مثل هذه الخطورة على الأوضاع في مصر يرتبط بمدى نجاحنا أو إخفاقنا في تجاوز المرحلة الحالية.

إحياء الخطر الذي تمثله جماعة الإخوان يتعلق بفشلنا في إدارة واعية للأزمة الحقيقية في مصر، إدارة لا تستند على استخدام شماعات مثل شماعة الإخوان لنعلق عليها أي فشل أو إخفاق في إدارة الأزمات العاجلة والحقيقية في البلد.

ولا شك عندي في أن النجاح الحقيقي سوف يتأسس أول ما يتأسس على إحياء السياسة وإعادة الاعتبار لها.

**

البداية من السياسة، بالتحديد من النظام السياسي، وبتحديد أكثر من نظام الحكم، تلك هي البوابة الرئيسة للخروج، ومفتاحها الذي لا مفتاح غيره هو الاعتراف بالأزمة، ثم الشروع في توصيفها، توصيفًا يضع يده على الأسباب الحقيقية، يدخل إلى عمق الأزمة، ولا يكتفي بصورتها الخارجية، توصيف يقوم بمهمة التشخيص للأمراض الحقيقية التي يعاني منها نظامنا السياسي، ينصب على الأمراض، ولا تتوه به التفاصيل في متاهة الأعراض.

أظهر ما يميز نظامنا السياسي من سمات أنه لا شبيه له في دول العالم، فنحن لسنا بإزاء نظام رئاسي يماثل الأنظمة الرئاسية في العالم من حولنا، وبالطبع نظامنا البرلماني لا يشبه أي نظام برلماني في عالم اليوم.

البعض يدعي أن نظامنا السياسي (طبقًا للدستور) هو نظام خليط بين طبيعة النظام الرئاسي وجوهر النظام البرلماني، ويسميه البعض نظامًا شبه رئاسي، والحقيقة أننا على مدار عقود طويلة نعيش في ظل نظام الرئيس، الرئيس فيه هو المبتدأ وهو الخبر، الرئيس هو السلطة الفعلية الوحيدة المقررة والباقي تفاصيل، وجودها كعدم وجودها، وتأثيرها الوحيد هو تجميل الصورة أو وضع الرتوش المكملة للوحة، وتصنع خلفية المشهد التي تضفي ألقًا وألوانًا تبدو زاهيةً على صدارة المشهد.

**

الأصل في الأنظمة السياسية أن يكون التعدد السياسي والحزبي مصون بالدستور والقانون، على أرض الواقع نحن لدينا تعدد مع وقف التنفيذ، تعدد معطل، تعدد ديكوري، ذلك أن حقيقة نظامنا السياسي أنه نظام يتمحور حول مؤسسة الرئاسة، هي الأصل في كل قرار، وهي مصدر كل السلطات، وهي الشرعية لكل الإجراءات، لذلك تجد كل الحكومات تردد أنها فعلت كذا، وستفعل كيت بناء على توجيهات الرئيس، وليس بناء على ما أقرته من خطط وبرامج لتحقيق ما وعدت به الشعب وجري انتخابها من أجل تحقيقه.

ليس لدينا تعدد سياسي، وإن كثرت أعداد أحزابنا، والغريب أن مصر لم تشهد هذا العدد الكبير من الأحزاب في فترة ما من فترات تاريخها الحديث، حيث لا يمكن حصرها إلا بالرجوع إلى أوراق الأحزاب، وقد كنتُ في مقتبل حياتي الصحفية منذ أكثر من 30 سنة مسئولًا عن تغطية الحياة السياسية والأحزاب، ومع ذلك لا يمكنني الجزم بعدد أحزابنا، ولستُ أتقن معرفة أسماء الأحزاب المصرية اليوم.

رغم كثرة الأحزاب السياسية فلا توجد سياسة.

تلك هي الحقيقة المرة التي نعيش تداعياتها على أرض الواقع، ومن البديهي القول إنه لا أحزاب بلا سياسة، لا يمكن للأحزاب أن تؤدى الوظائف والأدوار المنوطة بها في ظل موت السياسة، ولا يتصور أن نطلب منها أن تنشط في ظل قيود أمنية وبيروقراطية وقانونية ثقيلة على المجال العام المحاصر.

**

تكبيل الأحزاب وتقييد حركتها والحد من انتشارها والحيلولة دون تواصلها مع جمهورها هو على الحقيقة تكبيل للسياسة وتقييد لدورها في إقامة مجتمع صحي قادر على التعافي من كل الأمراض التي تقض جسده، ومواجهة كل الأفكار التي تهدد استمراره.

الأحزاب في مصر اليوم (اعترفنا بذلك أم تعامينا عنه) هي في حالة تجميد مزدوج، تجميد من الداخل خشية العواقب التي توجه كوادرها وقيادتها جراء نشاطها في الساحة السياسة، وتجميد خارجي مفروض عليها بحكم المتاريس التي أقيمت في التعديلات الجديدة التي طرأت على القوانين التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمباشرة العمل السياسي والنشاط في المجال العام.

ولولا ما بعثته رياح الحوار الوطني من نسمات في أرجاء عدد من الأحزاب، لكنا شهدنا اليوم إعلان موتها الإكلينيكي.

**

ليست الحياة الحزبية وحدها التي تعيش حالة موت معلن، هناك أيضًا الحياة البرلمانية، وقد أجرينا ثلاثة انتخابات برلمانية منذ 2011 وحصلنا على 3 مجالس نواب، ومع ذلك لا توجد أية شُبهة للمشاركة السياسية، ولم ولن يوجد فكرة تداول السلطة إلا على الورق، وليس هناك أية مُساءلة حقيقة لأي حكومة، وأحيانًا يتعجب البعض من كلفة الانتخابات البرلمانية، وكلفة مجلس النواب التي لا نتيجة لهما على الحقيقة غير تمرير ما يُراد لها أن تمرره.

من جانب آخر، لدينا حسب الإحصائيات الرسمية عشرات الآلاف من جمعيات ومنظمات المجتمع المدني، ومع ذلك ليس عندنا مجتمع مدني على الحقيقة، ذلك لأن الموجود من هذه الجمعيات والمنظمات ممنوع عليها التعامل مع أي من مخرجات السياسة الحكومية التي تؤثر بالضرورة على مجالات مثل (حقوق الإنسان -الحريات والحقوق العامة- الحقوق الفردية- حقوق العمال والفلاحين إلخ)، والمحجوب منها ممنوعٌ عليه من الأصل أن يكون له دور في تفعيل وتنشيط وزيادة تأثير المجتمع المدني في الحياة السياسية.

**

مصر منذ آخر مجالس بلدية قبل 2011 لم تستطع أن تقدم على خوض انتخابات المجالس البلدية رغم النص عليها في الدستور ووضع ضمانات لفاعليتها، أو ربما بسبب هذه الضمانات صار من الصعب على سلطة واحدية التسلط أن تسمح بوجود مجالس محلية تنتشر على مستوى القرية والمدينة والمركز والقسم والمحافظة، وتمارس دورها في المشاركة والرقابة الشعبية على قرارات السلطة وإجراءاتها.

نحن لا نواجه احتكارًا للسلطة في مصر وفقط، نحن أمام ظاهرة هي الأخطر على الاستقرار والاستمرار، ظاهرة غلق المجال العام، وتأميم السياسة، ووضعها في يدٍ واحدة.

**

رئيس الجمهورية دائم الحديث عن أن ما جرى في 2011 هو تشخيص وعلاج خاطئ للأزمة التي كانت قائمة في مصر في السنوات الأخيرة من عهد مبارك.

ونحن اليوم لا نملك أي إمكانية للحد من العودة من جديد لأن تنفجر مجددًا طاقات الغضب المكبوت، بعد أن تزايد منسوبه بشكل ملحوظ خلال السنوات القليلة الماضية.

نحن لا نملك (سلطة، وقوى سياسية ومجتمع مدني) أية قدرة على استقطاب طاقات الغضب وتوظيفها في الاتجاه الصحيح، لأن السياسة فقدت اعتبارها في المجتمع ولدى السلطة، ولا سبيل أمامنا لمواجهة ما نحن فيه من أزمات متداخلة ومتراكمة ومتصاعدة إلا بإحياء السياسة وإعادة الاعتبار لها، أن تعيد السلطة اعتبار السياسة ولا تعتبرها من الأعمال التي لا تليق بالمسئولين، وأن تفسح المجال أمام إعادة الاعتبار للسياسة في المجتمع.

هذه هي مهمة القوى السياسية المختلفة الممثلة في الأحزاب السياسية الحقيقة (لا أتحدث هنا بالطبع عن الأحزاب الورقية ومنها كثير من الأحزاب المحسوبة على السلطة).

**

نحن إلى وقت قريب قُبيل دعوة الرئيس للحوار الوطني لم نكن نسمع صوتًا معارضًا إلا وتنهال عليه يد الأمن لتغتال حريته، وتنقض عليه ألسنة الإعلام الموجه لتطال من سمعته، وتحط من قدره، وما يزال الأمر نفسه قائمًا مع قدر من التخفيف لا يفسح المجال لقيام حوار وطني حقيقي وجاد وصادق وقادر على صناعة التجاوز.

 تعبئة الرأي العام وقيادته في الاتجاه الصحيح لا يمكن أن تكون ملقاة حصرًا على عاتق الأذرع الإعلامية التي فقدت كل مصداقيتها وصارت مادة تنكيت وتبكيت ليلي على مواقع التواصل الاجتماعي.

هذه هي مهمة الأحزاب الطليقة من كل قيد، وذلك هو دورها الذي تتأسس للقيام به، لتكون لها مشاركاتها في القضايا العامة التي تتعلق بحاضر الوطن ومستقبله.

ويجب أن يكون مناطا بكل حزب سياسي حسب رؤيته وبرنامجه السياسي أن يمكَّن من طرح تلك الرؤية وأن يشرح ذلك البرنامج السياسي عبر الوسائل والأدوات الإعلامية التي لا يجب أن تكون حكرًا على السلطة، ومحتكرة من جانب وحدانية التسلط في المجتمع.

**

النقابات المهنية (الصحفيين والمهندسين والمحامين والتجاريين والتطبيقيين إلخ) ليست في حالٍ أفضل من حال الأحزاب وبقية منظمات المجتمع المدني، وقد جرت لها عملية قيصرية لوأد دورها العام ونزع قدرتها على المشاركة في المجال العام كما كان الحال في سابق الأيام.

حين كانت النقابات المهنية تلعب دور رأس الحربة في الفريق الوطني الذي يجمع بين صفوفه أحزابًا وقوى سياسية ومنظمات مجتمع مدني مختلفة.

النقابات العمالية صودر دورها حتى في الدفاع عن العمال، ووقائع الانتخابات العمالية التي جرت مؤخرًا تشي بالكثير من القيود التي تكبل الحركة العمالية وتضعها في قبضة الأمن السياسي، حتى ولو على حساب منظومة العمل، أو جاءت ضد مصلحة العمال.

**

تأميم المجال العام لا يضمن تأمين الوضع العام مع الأسف. والتجربة خير شاهد في يناير 2011 لم يستطع التأميم من أن يضمن التأمين. وفي عيد الشرطة أداة التأمين نفسها، جرت عملية اسقاط شرعية عملية تأميم السياسة وخطفت الملايين التي تجمعت في الميادين المفتاح الذي أغلقت به السلطة المجال العام. وبرهنت تلك الجموع التي اندلعت في كل ربوع مصر بدون أدنى شك على فشل نظرية التأمين عبر التأميم.

تكبيل القوى والأحزاب السياسية وحظر نشاط قوى ومنظمات المجتمع المدني وحجز النقابات خلف أسوارها، كل ذلك أفضى إلى موت السياسة بالسكتة الأمنية، إضافة إلى أن خطاب السلطة لا يوفر جهدًا في الحط من اعتبار الناشطين في الحركة السياسية والحزبية والمدنية والنقابية، كل حركة مذمومة في الخطاب الإعلامي الرسمي، والسياسة نفسها ينظر إليها باعتبارها رجس من عمل شياطين السياسة وعفاريت المجتمع المدني.

موت الحياة السياسية لا نتيجة له غير انسداد الأفق العام. وغلق المجال العام هو على الحقيقة فتح للمجال لعودة العنف والعمل السري ومناهضة المجتمع الذي لم يعد قادرًا على استيعاب طاقات شبابه، وأجياله المتطلعة إلى مستقبل أفضل.

فتح المجال العام وإحياء السياسة وإعادة الاعتبار لها تلك هي بوابة مصر الرئيسية للخروج من كل أزماتها أو على الأقل تفتح أبواب الدخول الآمن إلى المستقبل.

لو صدقت النوايا. وأعيد ضبط بوصلة الاتجاهات إلى الخروج الكبير من كل ما نحن فيه.

**

لقد قطعت مصر أشواطًا مهمة في ديناميته عبر المشروعات الكبرى على مدار السنوات السبع الأخيرة، ولكنها ما تزال في حاجة ماسة إلى بناء تنموي حقيقي ينتشل الاقتصاد من وهدته، ويستحيل النجاح في أي بناء تنموي ما لم يكن ضمن رؤية سياسية تنتصر لدولة المؤسسات، وتلتزم بكل الأسس الديمقراطية المتعارف عليها في العالم كله، أما الركوب اليوم مركب الحوار الوطني بدون هذه الرؤية وافتراض أنه يستطيع حل كل المشكلات، فهذا ليس إلا اجترارًا وإعادة إنتاج لنفس أزمات الماضي.

نحن في حاجة إلى رؤية سياسية لإدارة شئون البلاد، رؤية تعتمد المشاركة السياسية بديلًا عن وحدانية التسلط، وهو أمر يقتضي قوى سياسية تتوفر لها الرؤية الشاملة للإنقاذ.

الطريق لتحقيق إنجاز حقيقي من الحوار الوطني يبدأ من السياسة، ويعتمد على نَفَس سياسي وديمقراطي جديد يجب ضخه في البلاد، والبداية من أن تستعيد السياسة اعتبارها الضروري لها ولمنظومتها العامة.

**