تقول الحكمة الرائعة المنسوبة إلى السلف الصالح: “من اتسع علمه قل إنكاره”.. ويقول الواقع العملي لمعشر الاقتصاديين إن من اتسع علمه قلت بدائله. فحينما كنا صغاراً في مقتبل العمر كانت لدينا كل البدائل على اتساع أحلامنا وسذاجة منطقنا. كنا نرى حلاً لأزمة الديون وآخر لأزمة المواصلات وثالثاً لأزمة الفقر… لكن بعد أن أتت البيانات بغياً بيننا أصبحنا نسقط الحلول كافة خلا ما وجدنا عليها آباءنا إلا من رحم ربي.

آفة المعلومات عن التجارب السابقة التي أطبقت علينا من كل جانب أنها تنكبت الخيال وتدفع المرء دفعا داخل صندوق ضيق من الأفكار. لذا فقد رأيت أن أحلّق لائذا بسنوات الطفولة ومقتبل العمر وأن أبعث منها أفكارا غير تقليدية قتلها نظام التعليم الجامد الرتيب غير النقدي والتنمّر البليد من كل ذي فكر حر.

أين نحن الآن؟ نحن دولة فقيرة محدودة الموارد الطبيعية بالنسبة لعدد السكان الذي زاد على المائة مليون نسمة. نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالي يقل عن 3500 دولار أمريكي سنويا. نحن من بين أفقر الشعوب العربية وأكثرها مديونية. انخفاض نصيب الفرد من الدخل يؤثر سلبا على معدّل الادخار العائلي وارتفاع الدين العام مع أكل الفوائد لما يقرب من نصف إيرادات الموازنة العامة يغل يد الدولة عن الاستثمار العام. لذا فلا بديل عن الاستثمار الأجنبي لتحقيق أي أهداف تنموية. في تقرير التنافسية تقبع مصر في المركز 93 (من 141 دولة) وفي تقرير ممارسة أنشطة الأعمال تحتل المركز 114 (من 190 دولة). فهناك 113 دولة يفكر المستثمر في العمل بها قبل أن يأتي إلى مصر!.

الثروة الحقيقية لمصر مهملة بشكل كبير نتيجة تداعيات الفقر. فثروتنا البشرية لا تحصل على التعليم المناسب ولا على الرعاية الصحية اللائقة (المركز 97 في تقرير التنمية البشرية). أما ثروتنا الطبيعية الأخرى والمتمثلة في موقعنا وطول سواحلنا فيحدها كثير من العوائق الجيوسياسية والبيروقراطية التي تؤخر الاستثمار السياحي واللوجيستي لصالح الاستثمار العقاري الساحلي!.

الأزمات العالمية الأخيرة وأبرزها أزمتا كوفيد-19 والحرب الروسية-الأوكرانية كانتا كاشفتين لعمق أزماتنا المزمنة أكثر من كونهما صانعتين لواقع جديد. صحيح أن الدولة أثبتت قدرا من الثبات أمام كثير من الصدمات الأخيرة في سلاسل الإمداد والطاقة والسلع التموينية الرئيسة لكنه ثبات مشروط بتوافر عوامل الاستقرار لما بعد هدوء العاصفة. نحن نجيد الانتصار في المعارك والعبور لكن شح مواردنا تكشفنا سريعا. حتى في بطولات كرة القدم ضعنا في سباق قصير الأجل فنحصل على كأس إفريقيا ثلاث مرات متتالية لكن خوض مباريات التصفيات شيء آخر لأنه يحتاج إلى نفس طويل. عندها قد نعجز حتى عن التأهل للنهائيات.

مصر في حاجة اليوم إلى بناء من الأسس. مشروع وطني عظيم يحقق النهضة التي ترجوها البلاد. هذا المشروع يجب أن يكون مداره التنمية البشرية. لا بغرض تصدير تلك العناصر كما اقترح البعض في دعوة صريحة لفرار العقول! ولكن لاستغلالها في مشروع آخر يتكامل مع مشروعات عدة في دائرة مغلقة لاستغلال الموارد على مستوى المحافظات أولا. ثم على المستوى الكلي للجمهورية.

التعليم هو الحل. هو الغاية والوسيلة. وهو الداعم لنهضة حقيقية وهو الذي يسمو بالبشر فوق الرغبات الاستهلاكية الحسية إلى رغبات أعظم نفعا للإنسانية كلها. التعليم يعصمنا من التدمير الذاتي للقدرات والثروات. يعصمنا حتى من التكاثر غير المنضبط وتدمير البيئة والركون إلى العيش تحت خط الفقر. المشروع القومي للتعليم لا يأتي من خلال استحداث “التابلت” كأداة للدراسة والامتحان! ولا يتحقق أبدا بإنشاء جامعات أجنبية على أراض مصرية بتكاليف تزيد عاى تكلفة الالتحاق بجامعات أمريكية وأوروبية أعلى تصنيفا بمراتب كثيرة!…

تطوير التعليم لا يحتاج إلى معجزة وإنما يحتاج إلى حلول صعبة لا تخلق نظاما موازيا يعمّق الفجوة الثقافية والاجتماعية بين أفراد الشعب. الفكرة التي أطرحها تقوم على إنشاء مدينة علمية بكل محافظة. هذه المدينة يديرها بشكل مستقل تماما مجلس إدارة من خبراء التعليم من جنسيات مختلفة (حتى لا نقع فريسة لنظرية المؤامرة وأكاذيب محو الهوية وخلافه) وليس أقل من الاستعانة في تطوير نوعية البشر بخبراء أجانب أو مصريين عملوا في مجال التعليم بالخارج. إذا كنا نرى تطوير مهارات لاعبي الكرة في حاجة إلى هذا النوع من الخبراء!. كذلك تستعين المدينة بمجلس للاستثمار سيتضح دوره فيما يلي.

هذه المدينة تدير منظومة التعليم دون الجامعي في المحافظة. ويتبعها كل المدارس حتى شهادة إتمام الثانوية العامة ومقابلها في التعليم الفني أو التجاري. تحقق المدينة قدرا من الاكتفاء الذاتي لمختلف أدوات العملية التعليمية. وذلك باستيعابها لعدد من الصناعات والأنشطة ذات الصلة. تنشأ بالمدينة صناعات للأدوات المدرسية والورق والطباعة ومراكز تدريب ومعاهد للتعليم الفني. وتمتلك بعض الأراضي القابلة للزراعة والصناعات الغذائية المعنية بتوفير الوجبات المدرسية. وتؤسس في صورة شركة مساهمة مصرية هادفة للربح. يمتلك مستثمر استراتيجي أو أكثر نسبة لا تقل عن 40% من أسهم المدينة (الشركة). ويحصل المعلمون في المحافظة على حصص في ملكية الشركة وعلى رواتب مجزية نظير عملهم في المدارس التابعة وعلى برامج تأهيل وتدريب داخل وخارج البلاد مشروطة بعدد سنوات للعمل في مدارس المحافظة لحين سداد تكلفة تلك البرامج أو سدادها بشكل معجّل حال الرغبة في الانتقال. التعليم في تلك المدارس مجاني للمصريين. على أن الدراسة الثانوية تقدّم بمقابل نقدي للقادرين. ومجانا للمتفوقين وفقا لشروط يتم تحديدها بمعرفة المجلس العلمي للمدينة.

المدينة تمتلك أرضا للمعارض ومتاحف ومنتزهات ومطاعم تفتح للعامة بمقابل نقدي. ويستثنى من ذلك فئة الطلاب. مع تمييز طلاب الجامعات وفئات متميزة مثل المحاربين القدماء وأصحاب الهمم بشكل خاص. إدارة استثمارات المدينة يجب أن تكون على درجة عالية من التخصص والاحترافية. تسمح المدينة مثلاً بتأجير معاهدها الفنية ومراكز التدريب والمنتزهات لجهات خاصة وعلامات تجارية متميزة ومنتقاة بعناية لتنمية موارد الشركة وتحسين جودة العملية التعليمية.

للمدرسين مشروعات سكنية في المدينة يتم سداد قيمتها بتمويل عقاري ميسّر يحقق الكرامة الإنسانية للمعلّم. الذي تقوم المنظومة كلها على عاتقه. الدروس الخصوصية محظورة ومجموعات التقوية تعد جزءا متكاملاً من العملية التعليمية الغرض منه الارتقاء بمستوى التحصيل لدى الطلاب الذين يعانون من التأخر في مواكبة زملائهم.

خريج المدرسة يصبح “متعلّما” بشكل مناسب وبمحتوى تعليمي جيد لا يقل عن نظيره في المدارس الدولية. ويراقب جودة التعليم مجلس أمناء مستقل. تعطى أولوية لخريجي المنظومة للعمل في المشروعات التي تضمها المدينة. وفي الالتحاق ببرامج تأهيل خاصة لسوق العمل يقدمها خبراء مختصون. وتتحمل المدينة تكاليفها على أن يسددها الطالب أو الخريج على أقساط ميسرة عندما يحصل على راتب منتظم يفيض عن تكاليف معيشته. وكذلك الحال مع المنح الدراسية خارج مصر التي يمكن أن توفرها المدينة لأفضل 5% من خريجي المنظومة (مثلا).

النموذج المقترح يقترب من فكرة “الكومباوند” الصناعي التي اقترحتها منذ سنوات وشرعت الدولة في تطبيقها (بشكل مختلف عن طرحي المتواضع) في مدينتي الروبيكي للجلود ودمياط للأثاث. والغرض من الطرح هذه المرة ليس تقديم نموذج تعليمي فريد. فتلك مسألة يجيدها خبراء التعليم وأصحاب التخصص. فكل مرادي أن أوفر آلية مستقرة ومستدامة ذاتيا لتوفير بيئة تعليمية جيدة. تخضع للحوكمة وأهداف المنافسة والربحية التي تعزز من فرص جودة المنتج التعليمي كأي منتج آخر. وهي البداية الصحيح لأي نهضة ترجوها البلاد.