في بلادٍ مُتخيّلة، كان يمكن للتنوّع الثقافي والديني والعِرقي أن يُثري المشهد العام، إذا ما أُحسِنت إدارة الاختلاف وفق المصالح المشتركة. ولكن في بلادنا المنكوبة، فإن التعدد بمثابة وَبَال على الشعوب، حيث تُغذي الصراعات الاجتماعية والسياسية الانقسامات بين المكوّنات المتباينة. وفي القلب منها تحضر يد السُلطة الاستبدادية بميراثها الطويل من تزكية النيران؛ لتوطيد سيطرتها. وإذا ما أردنا ضرب مثال على هذه الحالة في بلد عربي فإن السودان أول ما قد يتبادر إلى الذهن.

ثريةٌ هي السودان بمكوّناتها الثقافية والعِرقية والدينية والسياسية والاجتماعية. ولكن على أرض الواقع، فإن هذا جزء من تعقد المشهد السياسي الحالي. وفيه تلعب الاستقطابات السياسية للأطراف العِرقية والسياسية المختلفة دورًا في الوضع المأزوم بين الطرفين المدني والعسكري بلا أفق قريب للحل.

وهكذا على المنوال نفسه، فإن الأحزاب والحركات الإسلامية لم تكن خارج تلك الخريطة المُعقدة والمتشابكة، حيث تتباين مصالحها ومواقعها بين الموالاة والحياد والمعارضة. ومع سعي رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، لدرء عواقب المأزق الحالي -إثر انقلابه على المكوّن المدني في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 ولإعادة إنشاء واستعادة الشبكات الأمنية والاجتماعية في عهد الرئيس السابق عمر البشير، فإنه سعى لمغازلة إسلاميي النظام السابق ليعودوا إلى الواجهة مجددًا.

حركة إسلامية ضاربة الجذور

تضرب الحركة الإسلامية في جذور المجتمع السوداني منذ أمد بعيد. فحزب الأمة (الذي كانت مرجعيته الثورة المهدية بقيادة الإمام محمد أحمد المهدي ضد الاحتلال الإنجليزي عام 1881) قام على جانبين ديني ووطني. وعندما تأسس الحزب في منتصف الأربعينيات، كان أغلب منتميه من طائفة “الأنصار” الدينية. وبالمثل فإن الحزب الاتحادي الديمقراطي (أحد أقدم الأحزاب رفقة “الأمة”) تتكون قياداته وقواعده من الطائفة “الختمية” إحدى أشهر الطرق الصوفية.

وفي الأربعينيات تأسس فرع جماعة الإخوان المسلمين في السودان. ولكنه لم يمض على نسق واحد، ولم يخضع لجانب منفرد في تمثيل أفكار الجماعة وأيديولوجيتها. بل وقعت انشقاقات كبيرة داخل التنظيم أدت إلى وجود العديد من الكيانات الممثلة له في العمل السياسي والعام.

لذا، مر تاريخ الإسلام السياسي في السودان بمراحل مختلفة، بدءًا من “جبهة الميثاق الإسلامية” في الستينيات التي أسسها حسن الترابي. ونشأ تحالف بين الإخوان والسلفيين والطريقة التيجانية الصوفية لخوض انتخابات 1968. ثم أسس الترابي “الجبهة القومية الإسلامية” 1986. وفي عام 1991 أسس حزب “المؤتمر الشعبي الإسلامي”، وكانت فكرته تتجاوز حدود السودان لتكوين حكومة إسلامية عالمية، بحسب موقع “إندبندنت عربية“. ثم أنشأ مع عمر البشير الحزب الحاكم “المؤتمر الوطني” عام 1998 على أنقاض الجبهة الإسلامية، ثم انشق عنه مؤسسا “المؤتمر الشعبي” في 2001.

اقرأ أيضًا: عودة الإسلاميين تربك المشهد الملتهب في السودان

وفي الأعوام الأخيرة برزت بعض المجموعات الإسلامية الصغيرة التي انشقت عن حركات أخرى، أو شكّلها مثقفون إسلاميون شباب، بحسب الباحث في الفكر الإسلامي محمود هدهود، وعلى رأسها حركة “الإصلاح الآن” التي يرأسها غازي صلاح الدين، القيادي السابق بحزب المؤتمر الوطني الحاكم، الذي انفصل عن الحزب الحاكم في 2013 (نادى بالإصلاح والمحاسبة ورفض القمع الذي مارسته السلطات ضد محتجين سلميين وقتها). ويقود الحزب تحالف “الجبهة الوطنية للتغيير” الذي يضم حزب “الشرق للعدالة والتنمية”  ذا الميول الإسلامية، إلى جانب الحزب “الاتحادي الديمقراطي” وأحزاب أخرى.

بينما تمثل “المبادرة التنسيقية الوطنية للتغيير والبناء” تحالفًا للإسلاميين المعتدلين. وتضم “المبادرة الوطنية للتغيير” التي يرأسها الشفيع أحمد محمد، وهو أمين عام سابق للحزب الحاكم المنحل. كما أسس المحبوب عبد السلام، وهو “تلميذ مخلص” لحسن الترابي انشق عن المؤتمر الشعبي، حركة “الإسلاميون الديمقراطيون”. وأسس محمد المجذوب، وهو مفكر له دراسات في الفكر السياسي الإسلامي، “مبادرة الانتقال نحو الحريات والتداول السلمي”.

ومن الحركات الإسلامية الموقعة على المبادرة كذلك، “مبادرة الإصلاح والنهضة (سائحون)”، وتضم عددًا من كوادر المقاتلين السابقين ضد “الحركة الشعبية لتحرير السودان” في الجنوب. وقد كوّنوا -والحديث لهدهود- موقفًا نقديًا تجاه نظام البشير بعد الانفصال يرون فيه ضرورة تخلي الإسلاميين عن الدولة والاهتمام بالإصلاح الاجتماعي.

وفي عام 2019، تأسست حركة “تضامن من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية”. وهي حركة تستخدم خطابًا ديمقراطيًا، وتتواءم مع قوى الحرية والتغيير في نقدها المكوّن العسكري. كما تراهن على توحيد الإسلاميين المنتمين إلى المؤتمر الشعبي والوطني، ولكن من غير استخدام خطاب الإسلام السياسي، وفق تعبير الكاتبة السودانية منى عبد الفتاح.

تباين ومؤسسات موازية

يرى الناشط السوداني الأمين خضر أن “وضع الإسلاميين ككل في بوتقة نظام الإنقاذ وعهدة عمر البشير، خطأ كبير سواء عن جهل أو عمد. الاتجاهات الإسلامية السياسية في السودان أعمق وأشمل من نظام البشير…”.

وهكذا لا يمكن تصنيف الحالة الإسلامية في السودان أو حسبها على أحد الأطراف، كونها “معقدة ومتشابكة”، بحسب الباحث المغربي منتصر حمادة. فهناك أحزاب وحركات مارست السلطة فعليًا مع “حزب المؤتمر” كـ”الحركة الإسلامية السودانية”، وهناك من دعمه دون المشاركة، وهناك من انشق عنه كلية وأسس جبهات معارضة مثل “حركة الإصلاح”، و”حزب المؤتمر الشعبي”.

ويعتقد حمادة أن المؤسسات الموازية تُمثل جوهر قوة الإسلاميين في السودان، لذا دعت قوى الحرية والتغيير إلى حلّها باعتبارها تمثل دولة الإسلاميين الموازية التي نشأت برعاية حزب المؤتمر الحاكم مثل: الحركة الإسلامية السودانية التي تُعتبر الذراع الديني لحزب المؤتمر الوطني، وقد أُسند إليها تربية مجموعة من النخب للوصول إلى الحكم. وقوات الدفاع الشعبي التي تأسست بمنأى عن قيادة الجيش. والاتحاد الوطني للشباب الذي أمد الحزب الحاكم بالكوادر الشبابية. وقد حظي بدعم مباشر من البشير نفسه.

عودة “شبكة المحسوبية القديمة”

ويبدو أن العودة غير الرسمية لحزب المؤتمر الوطني “المنحل” تتسارع وتيرتها، طبقا لوكالة “رويترز“. ففي الأشهر الماضية، أعادت محكمة خاصة إلى العمل عشرات من موظفي البنك المركزي والقضاء والنيابة العامة ومكتب رئيس الوزراء ووزارة الخارجية ووسائل الإعلام الحكومية من بين مؤسسات أخرى. وتقول مصادر في وزارة الخارجية إنه تم تكليف بعض الدبلوماسيين العائدين بقيادة بعثات في الخارج.

وقال نصر الدين عبد الباري -الذي شغل منصب وزير العدل في الحكومة الانتقالية قبل الانقلاب- إن موقف الجيش من الإسلاميين اتسم بالتأرجح وإنه لم يفعل شيئا يذكر لإقصائهم عن الأجهزة الأمنية.

وقد أثار الظهور العلني لعلي كرتي، الأمين العام للحركة الإسلامية السودانية (المرجعية التنظيمية لحزب المؤتمر الوطني المنحل) في الخرطوم، في يوليو/ تموز 2022، جدلًا كبيرًا في الأوساط السياسية. فيما يرى مراقبون أن مسألة عودة الإخوان تم تضخيمها أكثر مما يجب. وأنه ليست هناك علاقة استراتيجية بينهم والجيش، فالأخير يستخدمهم كفزاعة لتسجيل أهداف في مرمى المعارضة.

واعتبر تقرير بريطاني في مايو/ أيار الماضي أن المجلس العسكري السوداني يستعين بقادة تيار الإسلام السياسي من جميع الأطياف وليس فقط من حزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقًا. ولفت التقرير إلى إطلاق سراح رئيس حزب “المؤتمر الوطني” بالإنابة إبراهيم غندور وقادة الصف الأول من الحزب الحاكم السابق.

اقرأ أيضًا: قذيفة “البرهان”: رجوع للمربع صفر بين العسكر والمدنيين في السودان.. لمن الغلبة؟

واعتبر محللون -في حديثهم مع موقع “الشرق“- أن ظهور كرتي مؤخرا بمثابة إعلان خفي عن عودة تيارات الإسلام السياسي إلى المشهد، خصوصًا مع فشل محاولات تشكيل حكومة قادرة على احتواء قوى المعارضة التي تتظاهر أسبوعيًا منذ انقلاب أكتوبر/ تشرين الأول 2021.

الصحافي السوداني نميري حسين مجاور، يرى أن ظهور قيادات تيار الإسلام السياسي وتبرئة وإطلاق سراح آخرين، أمرًا متوقعًا لأن “عناصرهم ما تزال تتحكم في مفاصل الدولة العميقة”. أما الرشيد محمد إبراهيم، الخبير في أكاديمية الدراسات الأمنية في الخرطوم، فيقول إن “هناك صلة بين المؤسسة العسكرية وتلك التيارات، ولكنها ليست سيطرة”.

ويلفت إبراهيم إلى علاقات كرتي السابقة بالجيش في الثمانينيات وقوات الدفاع الشعبي لاحقا. ولكنه يشير في الوقت نفسه إلى أن القيادي بالحزب المنحل “لن يستطيع أن يكون مؤثرًا كما كان في السابق، فالظروف اختلفت، وحدثت تغييرات كبيرة في المؤسسة العسكرية بعد الثورة. كما أن هذه المؤسسة تخوض معركة سياسية مع المدنيين تفرض عليها عدم العودة مجددًا لحضن تنظيم الإسلامويين المرفوض من أصدقاء الجيش وحلفائه الإقليميين، ناهيك عن المجتمع الغربي”.

ويحاول البرهان ترسيخ قبضة نظامه من خلال التحالف مع نخب الجماعات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا من ناحية، والدائرة المدنية الوحيدة التي يمكنه حشدها وهم الإسلاميون، وفق الباحث في الشأن السوداني حمدي عبد الرحمن.

فمنذ الانقلاب استبدل البرهان العديد من المسؤولين في وزارة العدل وأجهزة المخابرات وأعاد صلاحيات أجهزة الأمن العام. “وبدعم من الإسلاميين، يحاول البرهان كسب الوقت لإعادة ترسيخ شبكة المحسوبية القديمة، سواء داخل الحكومة أو خارجها، على الرغم من أن الاقتصاد ليس لديه القدرة على توفير الموارد اللازمة للقيام بذلك”.

“التيار الإسلامي العريض”

ومن أبرز المؤشرات على ذلك -وفق منظور الباحث- هو تأسيس “التيار الإسلامي العريض” المكوّن من 10 فصائل إسلامية لتحقيق الاندماج التنظيمي بينها. وهي: “جماعة الإخوان المسلمون – التنظيم العالمي”، و”جماعة الإخوان المسلمين – السودان”، و”منبر السلام العادل”، و”الحركة الإسلامية السودانية”، و”تيار النهضة”. وأيضا “حزب دولة القانون والتنمية”، و”حركة المستقبل للإصلاح والتنمية”، و”حركة الإصلاح الآن”، و”حزب العدالة القومي”، و”مبادرة وحدة الصف الإسلامي”.

وفي نهاية إبريل/ نيسان الماضي، اعتبر رئيس حزب دولة القانون والتنمية -أحد قيادات التيار العريض- محمد علي الجزولي، أن الإجراءات التي اتخذها البرهان “ليست انقلابا”. وقال لأنصاره إن هذه الإجراءات “هي تصحيح من الجيش لخطيئته في انقلاب أغسطس/آب 2019 عندما سلم السلطة لقوى سياسية بلا تفويض شعبي”.

وغاب عن التوقيع على الميثاق التأسيسي حزب “المؤتمر الشعبي”. وبرر القيادي بالحزب، عمار السجاد، غياب حزبه “لانشغاله بأولوية العملية السياسية خلال الفترة الانتقالية لحل الأزمة السودانية قبل وحدة الإسلاميين”.

يقول المحلل السياسي، أحمد موسى عمر، لوكالة “الأناضول“: “يجب التفريق بين وحدة الإسلاميين كهدف وبينها وبينه كإجراء فما حدث مؤخرا هو وحدة إجرائية شكلية متعجلة الغرض منها محاولة اللحاق بسوق التكتلات السياسية”.

وأضاف عمر، أن “المشروع يهدف لقيادة الشارع الإسلامي الذي حركته محاولات خنقه فخرج في أول فرصة تنفس لينتهزها، فتسعى المبادرة ربما لقيادة ذلك الشارع”. ورأى أن محاولة تأسيس التيار “مبادرة تغلب عليها الحالة العاطفية المتحركة بين ردة النظام الانتقالي الحالي للحالة القحتاوية (أحزاب الحرية والتغيير ) والتي ظل شغلها الشاغل خنق كل ما هو إسلامي”. وتابع المحلل “هو أيضا رغبة في الاستفادة من حالة الشقاق بين مكونات الانتقال المدنية والسياسية”. واصفا المبادرة بأنها “تكتيكية أكثر منها استراتيجية”.

مراجعات وفرص ضئيلة وانقسام زائف

حتى الآن، فإن المحاولات الدولية لإحداث توافق حول نظام الحكم في السودان لم تسفر عن نتيجة مُرضية. بالتالي أصبح من الصعب توقع انفراجة سياسية. ومن دون هذا التوافق، يصعب أيضًا توقع إجراء الانتخابات والوصول إلى نظام حكم ديمقراطي. وهنا تبرز إشكالية تعاطي التيار الإسلامي مع هذا الوضع -بحسب “إندبندنت عربية“- مع ترتيب صفوفه وجاهزيته النسبية للحصول على مقعد وسط تزاحم القوى السياسية.

وترى أسماء الحسيني، الباحثة المتخصصة في الشؤون العربية والأفريقية، أن الإسلاميين في السودان “مطالبون بمراجعات عميقة لتجربة حكمهم، وتقديم نقد ذاتي صادق وأمين لثلاثة عقود من حكمهم، لاشك أنها ما زالت تلقي بظلال قاتمة على حاضر السودان ومستقبله، قبل أن يُقدموا على التخطيط لأي عودة جديدة للمشهد”.

بينما يظن إياد المجالي، مدير المركز الديمقراطي العربي، أن فرص عودة الإسلاميين ضئيلة. وأشار “التغيرات السياسية العميقة، التي طالت النظام السياسي في السودان، تفرض معوقات كبيرة لعودتهم”. ولم ينفِ المجالي أن هذه التغيرات التي أطاحت نظام البشير، وأدخلت البلاد في أزمة فوضي، نتيجة الصراع بين المكونين العسكري والمدني، عدَّها الإخوان فرصة للعودة إلى الساحة السياسية، رغم عِلمهم بالتحديات والقيود التي يفرضها عليه النظام الراهن في البلاد.

“ربما يكون ما يبحث عنه السودانيون هو الدولة المدنية بمعناها الأشمل التي لا تلغي الأديان وإنما تتيح فضاءً سياسيًا تحظى به كل الأديان بمعاملة متساوية وتكون ركيزتها المواطنة. الدولة التي لا يحكمها لا رجال الدين ولا العسكر ولا تحكمها أجهزة فوقية غير منتخبة خارج إطار العقد الاجتماعي. فما بين هوس الحركة الإسلامية في إقامة دولة ثيوقراطيّة يكون فيها لرجال الدولة السّلطة العليا باسم الدين، وبين رغبة البعض الآخر في فصل الدين عن الدولة أيا كان ذلك ما يعنيه في أذهانهم (…) كانت النتيجة الحتمية انقسام مُفْتَعَل وزائف بين يسار علماني ويمين ديني أفضى إلى فشل متكرر في إدارة التنوع وحروب وابتداع لحلول صفوية على مستوى النُخب لمعالجة ضرورات سياسية مُلحة رغبة في تحقيق السلام ودون الإجابة على الأسئلة الأكثر إلحاحًا”، تشير “مبادرة الإصلاح العربي“.