أشرت في مقال الأسبوع الماضي بعنوان “مفتاح باب الخروج الاقتصادي” إلى أهمية توافر منهجية متكاملة للنظر في المشكلات الاقتصادية بصورة كُلية ترتكز على عناصر ثلاثة تتمثل في دراسة الظروف الموضوعية المحلية لنشأة أي ظاهرة اقتصادية، والإدراك الكامل للعلاقات المُتبادلة بين الظاهرة محل البحث والظواهر الاقتصادية الأخرى، والتقدير العلمي لآثار الظروف الإقليمية والدولية، وقدمت -في تركيزٍ شديد- “التضخم” بوصفِه ظاهرة اقتصادية تزداد وضوحًا يومًا وراء يوم، مثالًا لأهمية اكتمال عناصر تلك المنهجية.  وفي إطار استعراض الظواهر الاقتصادية التي يتوجب التعامل معها، تفرض مسألة الأولويات حضورها بقوة، فَمِن ظاهرة ارتفاع معدل التضخم إلى ظاهرة تنامي الدين العام إلى ظاهرة اختلال الموازنة العامة والموازين التجارية إلى آخِرِهِ، يكون السؤال الرئيسي عن أولويات التعاطي مع تلك الظواهر.

والأولويات التي أقصدها ليست أولويات دراسة الظواهر، وإنما هي أولويات تنفيذها عمليًا. لدينا في هذا السياق مستويان: الدراسة الشاملة بما تصل إليه من نتائج ستكون هي المستوى الأول، ومن ثم يكون الشروع في التنفيذ الفعلي لتلك النتائج هو المستوى الثاني من مستويات التعاطي مع ظاهرةٍ قبل الأخرى حسب درجة إلحاح أهميتها النسبية وبعدما يتم الأخذ بالاعتبار ما يُصطَلَح عليه في فلسفة الاقتصاد بارتباط العلاقة Correlation والسببية Causation ثم التَتَابُع Frequency ليكون ارتباط العلاقة والسببية هما جوهر المستوى الأول (الدراسة الكُلية الشاملة) ويكون التَعاقُب هو مناط المستوى الثاني (تحديد الأولويات ومن ثم البدء بتنفيذها عَمَليا).

وأنا في المقال الذي يطالعه القارئ الكريم الآن، لا أتجاوز المستوى الأول لكنني أعززه بطرحٍ ربما يساهم في مُراكَمة مُكَوِنات الرؤية الشاملة بتناول واحدة من الظواهر شديدة الوَطء وهي ظاهرة الدَين العام.

في البدء، لابد من الإشارة إلى أن تلك الظاهرة قد اتخذت مَنْحىً جديدًا سيدفع بها -مع تصاعد الأزمة الأوكرانية وتأثيراتها الاقتصادية بالغة الحِدة- إلى خانةٍ أخرى تتحول بموجبها من أزمة دولٍ وطنيةٍ أو حتى تجمعاتٍ أقليميةٍ بعينها لتصير بمثابة الكارثة العالمية التى توقعها كثير من الباحثين ومن ضمنهم كاتب هذه السطور، فقد وصل حجم الدين العام العالمي حسب تقديرات “معهد التمويل الدولي” The Institute of International Finance في مايو الماضي إلى 305 تريليون دولار بزيادة قدرها 3.3 تريليون دولار في الربع الأول من العام 2022. وتجدر الإشارة هنا إلى أن نصيب الولايات المتحدة الأمريكية من ديون العالم قد بلغ نحو 31 تريليون دولار أي ما يزيد عن 10% بينما بلغت ديون الدول الإفريقية مُجتمعة نحو تريليونٍ من الدولارات أي بنسبة 0.33%!

كان من أهم تبعات الأزمة، أن توالت قفزاتٌ قياسيةٌ في معدلات التضخم برسم التشابُك والتداخُل، حيث أصابت تلك القفزات -أول ما أصابت- أسعار الغذاء، ليتحول مسار النقاش الدائم بين المفكرين الاقتصاديين من أهمية استخدام الديون كأداةٍ لتمويل أعمال التنمية إلى مدى الحاجة إليها لتمويل الإنفاق على الغذاء الذي ارتفعت أسعار بعض بنوده عالميًا إلى نسب قياسية وعلى وجه الخصوص في الدول ذات الاقتصادات الهشة. ولعل هذا ما قد حدث بالفعل في سيريلانكا منذ شهور والذي يُحتَمَل تكراره -لا قدر الله- في لبنان الذي وصل معدل التضخم فيه حسب معهد التمويل الدولي إلى 116.7% بهذا العام ليحتل لبنان المركز الأول عالميًا في معدل التضخم تلته زيمبابوى في المركز الثاني بمعدل 88.2% ثم تركيا بمعدل 68.3%.

أحسب أن الأمر يحتاج إلى النظر في مسألتين على وجه التحديد ضمن إطارٍ عام تحكمه رؤية علمية للتطوير تحقيقًا للتنميةٍ المُستدامة أخذًا بالاعتبار تأثيرات الظواهر الاقتصادية الأخرى وسط المخاطر المحيطة أقليميًا ودوليًا. هاتان المسألتان تتمحوران “كُليا” حول سبيل الانعتاق أولًا وتأسيس الانطلاق ثانيًا، حيث لن يكون من الموضوعي أن نتحدث عن البدء “بالانطلاق” في تنمية مستدامة دون “الانعتاق” من ربقة القروض التي تزيد من حدتها وقسوتها الزيادة السكانية المهولة لدى الأمم الفقيرة والتي تتعدى معدلاتها أي زيادة في الناتج المحلى العام وفي الوظائف. والقروض في ذاتها ربما لا تُشَكِل أزمة في الظروف العادية عندما تكون آجال سداد أقساطها بعيدة المدى بحيث يتم التخطيط لربط سداد تلك الأقساط بتوافر موارد حقيقية في نقاط زمنية مستقبلية تفي بذلك السداد وتتيح فائضًا يمكن استثماره في أعمال التنمية.

وهذا الربط يحدث في مرحلتين: المرحلة الأولى عند إنشاء تلك القروض في الأحوال العادية، والمرحلة الثانية عند إعادة النظر بها في الأحوال الاستثنائية كتلك التي يمر بها العالم الآن وقد أضحت مسألة إدارة الأموال أمرًا صعبًا يكتنفه الغموض الشديد بسبب الأحداث الدولية التي أخفق أساطين الفيدرالي الأمريكي ذاته في التنبؤ بمواقيت حلحلتها -أو ربما تعمدوا ذلك- ليضعوا العالم برمته على حافة كارثة مالية عالمية عَمَقت أحلام الإمبراطوريات من حِدَّتِها لتدفع الأمم الفقيرة محدودة الموارد كثيفة السكان الثمن الباهظ إذ صارت تقترض لا لتمويل أعمال التنمية ولكن للوفاء بفاتورة الغذاء الشحيح لدى البعض وباهظ الثمن لدى البعض الآخر.

فيما يتعلق بالدين العام المصري الذي حسنًا فعل مجلس أمناء الحوار الوطني بتحديد لجنة فرعية خاصة (لجنة الدين العام وعجز الموازنة والإصلاح المالي) لمناقشته وما يتصل به من ظواهر بغية وضع توصيات للتعاطي معها، يطرح السؤال نفسه: “كيف السبيل للانعتاق من الدين العام وما هي دعائم التأسيس للانطلاق صوب المستقبل لتحقيق التنمية المُستدامة؟”.

وفقًا لما ورد بالصفحة رقم 4 من النشرة الإحصائية الشهرية للبنك المركزي-العدد 305-أغسطس 2022، فقد بلغ الدين العام المحلي بنهاية يونيو 2020 مبلغًا وقدره 4,742 مليار جنيه بينما بلغ الدين العام الخارجي مبلغًا وقدره 157.8 مليار دولار أمريكي بنهاية مارس 2022*، كما بلغت تقديرات وزارة المالية لحجم الفوائد المخطط سدادها عن العام الحالي كما وردت بالصفحة 84 من البيان المالي عن مشروع الموازنة العامة للدولة 2022-2023 مبلغًا وقدره 690 مليار جنيه ضمن إجمالي مصروفات بلغت 2,070 مليار جنيه أي بنسبة الثلث بالضبط في الوقت الذي بلغ فيه العجز الكُلي المُقَدر نحو 558 مليار جنيه**.

لن أدخل في تفاصيل فنية معقدة ترهق القارئ غير المتخصص، لكني أردت الإشارة فقط إلى بعض البيانات المالية ذات التأثيرات المُتبادلة التي ينبغي البدء بها للاجتهاد بمحاولة البحث عن إجابة على السؤال المُرَكب بشأن الانعتاق والانطلاق لأجل تخطي معضلات الحاضر الصعب ومواجهة تحديات المستقبل الغامض وسط المخاطر المحيطة التي أرى أهمية التعامل معها لا باعتبارها عبئًا مُعيقًا بل بكونها فرصة تاريخية سانحة للإصلاح والإنجاز غير التقليدي.

يقتضي سبيل الانعتاق بحث الدين المحلي برؤية تختلف بعض الشيء عن الدين الخارجي لاختلاف محددات وتركيبة وظروف كلٍ منهما وارتباط ذلك بالعالم من حولنا على المستويين الإقليمي والدولي. وربما يمكن للأساتذة والأصدقاء باللجنة الاقتصادية ولجانها الفرعية بالحوار الوطني وضع ما سأطرحه الآن من مقترحات على طاولات النقاش لتوسيع دائرة دراستها بشكل أكثر شمولًا ومن ثم تطويرها وتبنيها كتوصياتٍ ضمن مُخرجات الحوار:

  1. طرح بعض السياسيين منذ فترةٍ أفكارًا عامة بشأن التفاوض مع الدائنين الخارجيين لإسقاط الديون الأجنبية. وقد كان لكاتب هذه السطور مقترحات شبيهة طرحتها منذ سنواتٍ أثناء احتفال وزارة الثقافة بأستاذنا الجليل البروفيسور حلمي شعراوي واقترحت فيها أن تتبنى مصر آلية إدارة مبادرة للاتحاد الإفريقي بإنشاء “نادي القاهرة لتسوية الديون الخارجية للقارة الإفريقية” على غرار نادي لندن ونادي باريس -مع فارق التركيب- باعتبارات قدرة وخبرة الدولة المصرية ومصداقيتها إفريقيًا وعالميًا للتفاوض بشكل جماعي مع الدائنين لأجل الوصول إلى تسويةٍ ما يتم بموجبها إسقاط ديون دول الاتحاد الإفريقي (ومن ضمنها مصر بالتأكيد) أو جزء منها مع إعادة جدولة البعض الآخر لتخفيض عبء ما يتم سداده من خدمتها إلى نسبة محدودة من الناتج العام المحلي، حيث يكون للتفاوض الجماعي ثِقَلُ مُقَدَرٌ يتلافى مخاطر خفض التصنيف الائتماني لدول بعينها إن تفاوضت بشكلٍ مباشر مع الدائنين. وربما يمكن إعادة النظر في تلك الآلية بتطويرها والتعديل فيها -إن تبنى الحوار الوطني أفكارها العامة- إذ أتوقع في ظل الظروف العالمية الاستثنائية الحالية أن ينصت الدائنون الدوليون الآن لما ستحتويه من مطالب عادلة ومقبولة وقابلة للتنفيذ أخذًا بالاعتبار محدودية ديون الدول الإفريقية مُجتمِعَةً كنسبةٍ من إجمالي الدين العالمي (0.33% كما ذُكِر أعلاه).
  2. فيما يخص الدين المحلي، فربما يرى المجتمعون بالحوار الوطني إمكان دراسة اقتراح الضريبة الاستثنائية على ثروات الأفراد (لا المؤسسات)، وهي ضريبة معمولٌ بها في دول أوروبية تتمتع بمناخات وتشريعات اقتصادية لا تتعارض مع الأعمال الخاصة بل هي تشجعها وترحب بها كسويسرا وفرنسا وأسبانيا، بحيث يتم فرض تلك الضريبة على الثروة المالية “فقط” وبشكل تصاعدي بنسب محدودة تتزايد مع زيادة قيمة الثروة، على أن يتم توجيه حصيلة تلك الضريبة “فقط” لتسوية الدين المحلي على سنوات معدودة ليتوقف فرضها تمامًا بعد الانتهاء من تلك المهمة.

وكما ستتيح التوصية بشأن تسوية الدين الخارجي -على النحو المذكور أعلاه- فائضًا بالعملات الأجنبية يمكن استخدامه لتمويل أعمال التنمية المستدامة، فإن ضريبة ثروات الأفراد سيترتب عليها -بخلاف ترسيخها لمفهوم توزيع الأعباء والعدالة الاجتماعية- فائضًا بالجنيه المصري سينعكس بالإيجاب الشديد على المالية العامة بخفض عجز الموازنة وهو ما يوفر مساحةً مُعتَبَرة من المرونة لتوجيه هذا الفائض للإنفاق الاجتماعي ولتمويل مزيد من أعمال التنمية بالإضافة إلى أن تطبيق مثل هذه الضريبة سيحفز الشرائح شديدة الثراء من البورجوازية المصرية لضخ أموالها الطائلة للعمل في السوق المصري بدلًا من إبقائها معطلة بالبنوك، خصوصًا إن تم توظيفها في مشروعات صناعية تزيد من عوائدها وتُنعش الحالة الاقتصادية بما يؤدي إلى خَلقِ توظيفٍ دائم يخفض من معدلات البطالة ويتيح قدرًا من الاكتفاء الذاتي والتصدير بما يوفر حصيلة من العملة الأجنبية ويدعم العملة المحلية ويكبح جماح التضخم من خلال الإنتاج بعيدًا عن حلول النظرية النقودية، مع أهمية أن تتواكب تلك الرؤى مع ملفٍ آخر سينظر فيه الحوار الوطني وهو حتمية وضع حد للزيادة السكانية المهولة.

ربما تكون تلك هي بداية الانطلاق لتحقيقٍ كامِلٍ ومُتكامِلٍ لأهداف الأجندة الوطنية للدولة المصرية التي أُعِدت في 2016 والتي طرحت الخطة الاستراتيجية طويلة المدى لتحقيق مبادئ وأهداف التنمية المستدامة التي حددتها الأجندة بثمانية أهدافٍ في كل المجالات بما يعكس رؤية مصر 2030 للأبعاد الثلاثة للتنمية المستدامة: البعد الاقتصادي، والبعد الاجتماعي، والبعد البيئي، والتي أتفق مع مستشار الحوار الوطني لعرض رؤية مصر 2030 في ضرورة النظر في مد أجلها بسبب الظروف الحالية.

في النهاية، تجدر الإشارة الموضوعية إلى أن القروض في ذاتها ليست شرًا مُطلقًا بل هي في كثير من الأحوال حقٌ للمجتمعات الفقيرة يتعين على المجتمعات الغنية الاضطلاع بأدائه، وبالتالي فإن الأمر يستدعي أولًا قدرا من التفهم يبدأ بالانعتاق من خلال تخفيف آثار الديون الأجنبية الحالية بإسقاط جزء مُعتَبَرٍ منها مع العمل داخليًا على التخفيض المتدرج للديون المحلية بما يسمح بتوفير موارد ذاتية للإنفاق على أعمال التنمية، ثم اللجوء بعد ذلك لتمويل ما يتبقى من فجوات من خلال إقتراض مختلفة شروطه لتيسير تلك الأعمال على نحو يتلاءم مع الإمكانات والموارد الذاتية المتاحة.

https://www.cbe.org.eg/ar/EconomicResearch/Publications/Pages/MonthlyStatisticaclBulletin.aspx

https://www.mof.gov.eg/ar/posts/stateGeneralBudget/627bb3136b2340000aca3b95/%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B2%D9%86%D8%A9%20%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%A9%202022%2023