في إبريل/ نيسان 2022، ألقى الرئيس الصيني شي جين بينج خطابًا حول السياسة الخارجية في منتدى بواو لآسيا -مؤتمر سنوي لرجال الأعمال وقادة العالم في مقاطعة هاينان- اقترح خلاله ما أسماه “مبادرة الأمن العالمي (GSI)”، والتي أوضح أنها “تعزيز الأمن المشترك للعالم”، حسب وصفه.

مع تركيز الحكومات الغربية بشكل مكثف على الحرب الروسية في أوكرانيا، لم يحظ خطاب الرئيس الصيني باهتمام كبير. لكن، تلفت شينا جريتنز، مديرة برنامج سياسة آسيا في جامعة تكساس أن مؤشر GSI يمثل تحولًا كبيرًا في السياسة الخارجية الصينية.

غيّر شي نهج الصين تجاه الأمن الداخلي حيث أصدر أول استراتيجية للأمن القومي للصين وقام بإعادة هيكلة جهاز الأمن الداخلي للبلاد

تقول جريتنز في تحليلها المنشور في فورين بوليسي/ Foreign Policy: إنه يتحدى بشكل مباشر دور التحالفات والشراكات الأمريكية في الأمن العالمي. ويسعى إلى مراجعة حوكمة الأمن العالمي، لجعلها أكثر توافقًا مع المصالح الأمنية لنظام الحزب الشيوعي الصيني.

وتوضح: خلال فترتي ولايته، غيّر شي نهج الصين تجاه الأمن الداخلي بطرق فاجأت العالم. حيث أصدر أول استراتيجية للأمن القومي للصين، ومجموعة من القوانين الأمنية الجديدة. وقام بإعادة هيكلة جهاز الأمن الداخلي للبلاد، وتطهير وسجن الكثيرين من كبار قادة الأمن، وبنى دولة مراقبة واسعة النطاق، وكثف القمع بسرعة لم يتنبأ بها سوى قلة من المراقبين الخارجيين.

اقرأ أيضا: الأمير “شي”.. الإيكونوميست تروي قصة صعود وإخفاقات الرئيس الصيني

توضح الباحثة الأمريكية أن الإطار التوجيهي لتلك الجهود كان شيئًا أطلق عليه شي “مفهوم الأمن القومي الشامل”. والذي كان حقًا مفهومًا لأمن النظام، ومقننًا كاستراتيجية كبرى.

وتؤكد: الآن، يطبق شي هذا الإطار على السياسة الخارجية. في محاولة لإعادة تشكيل النظام الأمني ​​الإقليمي والعالمي، للحماية من التهديدات التي يتعرض لها الاستقرار الداخلي للصين. وتعزيز قبضة الحزب على السلطة.

الأمن فوق الجميع

بدأ نهج الرئيس الصيني الجديد للأمن في التبلور في عام 2014، عندما طرح ما أسماه “مفهوم الأمن القومي الشامل”. في الوقت نفسه، كشف النقاب عن هيئة حزبية جديدة، هي “اللجنة المركزية للأمن القومي”، والمكلفة بوضع مفهوم الأمن الشامل في الدولة مترامية الأطراف موضع التنفيذ.

حينها، اعتقد العديد من المحللين الأمريكيين أن اللجنة المركزية الجديدة سوف تشبه مجلس الأمن القومي الأمريكي. لكن، تبين أن المقارنة اللغوية مضللة.

ترى جريتنز أن المفهوم الصيني للأمن القومي “يضع تركيزًا أكبر على الأمن الداخلي أكثر من التركيز الأمريكي”. وأنه -كما يوحي اسمه- فإنه يغطي “القضايا السياسية، والعسكرية، والأمن الداخلي، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والتكنولوجية، والفضاء الإلكتروني، والإيكولوجيا “علم البيئة”، والموارد النووية، والمصالح الخارجية، والفضاء الخارجي، والبحار العميقة، والأمن القطبي، والأمن البيولوجي”.

تقول: عند تعريف هذا الأمر على نطاق واسع، يمكن للمفهوم أن يؤطر أي موضوع أو مجال من مجالات الحياة تقريبًا، باعتباره تهديدًا أمنيًا. ويمكّن المسؤولين الصينيين من الرد وفقًا لذلك.

وتلفت إلى أن هذا المفهوم “يكشف أيضًا عن الإحساس الأساسي بانعدام الأمن لدى الحزب الشيوعي الصيني”، وفق تعبيرها. فهو “يصوّر التهديدات التي تتعرض لها الصين على أنها آخذة في النمو، وقدرات الدولة على أنها غير كافية.

وأضافت: حتى عبارة “التغييرات الرئيسية في العالم التي لم نشهدها منذ قرن من الزمان”. التي استخدمها المسئولون الصينيون كثيرًا، والتي صورها المحللون والمسئولون الغربيون على أنها تقييم انتصار لصعود الصين، لها جانب أكثر قتامة. ففي سياق الخطاب الرسمي، غالبًا ما يشير ذلك إلى أن تنامي الفرص يصاحبها خطر متزايد.

واستشهدت جريتنز ببيان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني. حيث جادلت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، بأن الصين واجهت “مخاطر وتحديات خارجية غير مسبوقة”. وأن “قدرة الصين على حماية الأمن القومي لا تلبي ما هو مطلوب منا في ظل الظروف الحالية”.

المنع والمراقبة

استندت جوانب مفهوم الرئيس شي للأمن القومي الشامل إلى موضوعات قديمة العهد في التاريخ الصيني والخطاب الحزبي. مثل الميل إلى رؤية التهديدات الداخلية والخارجية على أنها مترابطة. لكن مفهوم “الأمن القومي الشامل” أوضح أن النظام السياسي الصيني بحاجة إلى أن يأخذ التهديدات الأمنية الداخلية غير التقليدية -مثل الإرهاب والاضطرابات- بجدية أكبر.

أيضًا، كانت وظيفة المفهوم جديدة. فقد كانت بمثابة إطار منهجي للمسئولين، لتقييم التهديدات، ومعالجتها، ومنح أدوات جديدة للقيام بذلك. علاوة على ذلك، دعا المفهوم المسئولين إلى أن يصبحوا أكثر استباقية في تجنب مثل هذه التهديدات. واستبدال لغة “الحفاظ على الاستقرار” التي ميزت العصور السابقة للقيادة الصينية بخطاب يركز على “الوقاية والسيطرة”.

على عكس استراتيجية الأمن القومي الأمريكية، فإن استراتيجية الصين ليست متاحة للجمهور. ولكن، استنادًا إلى التغطية الإعلامية الرسمية، يبدو أنها تتوازى بشكل وثيق مع المحتوى في خطابات الرئيس والتعليقات الرسمية الأخرى.

وتؤكد جريتنز أن تدشين استراتيجية رسمية للأمن القومي “ليس فقط مهمًا بسبب محتواها. ولكن أيضًا لأنه يشير إلى تغيير كبير في عملية صنع سياسة الأمن القومي في الصين.”.

منذ الإعلان عن مفهوم الأمن القومي الشامل، أقر المجلس التشريعي الصيني -المؤتمر الشعبي الوطني- مجموعة من تشريعات الأمن القومي. حول موضوعات تتراوح من الإجراءات الجنائية، إلى أمن الحدود، وتنظيم المنظمات غير الحكومية، وأمن البيانات، ومكافحة الإرهاب، والاستخبارات، والأمن السيبراني، وتهديدات أخرى.

كما أعاد الرئيس شي تنظيم الجيش وقوات الأمن المحلية، بما في ذلك هيكل القيادة للشرطة المسلحة الشعبية، لتعزيز سيطرة الحزب على هذه الأجهزة. وفي الوقت نفسه، هدفت حملته لمكافحة الفساد -التي استهدفت المسئولين في الجيش والشرطة وأمن الدولة والنظام القضائي على وجه الخصوص- إلى ضمان ألا يؤدي الفساد إلى تآكل سيطرة الحزب الشيوعي على الوكلاء القمعيين من أسفل، أو جعلهم عرضة للرشوة أو غيرها من أشكال التسوية من قبل وكالات الاستخبارات الأجنبية.

اقرأ أيضا: أمريكا والصين وأزمة تايوان.. الحرب مؤجلة حتى إشعار آخر

تطبيقات قمعية

أسفر تطبيق مفهوم الأمن القومي الشامل عن أقسى قمع في هونج كونج وشينجيانج، وهما الموضعان اللذان تخشى فيهما بكين بشكل خاص من أن القوى الأجنبية يمكن أن تثير عدم الاستقرار الداخلي.

في هونج كونج، أدى قانون الأمن القومي الجديد إلى تآكل الحريات المدنية والمجتمع المدني بشكل مطرد. حيث سُجن العديد من النشطاء المؤيدين للديمقراطية، أو أجبروا على الفرار إلى المنفى في الخارج.

وفي شينجيانج -التي حددها الحزب الشيوعي الصيني في عام 2014 كحالة اختبار لتطبيق مفهوم الأمن القومي الشامل- كان القمع أكثر قسوة. حيث كانت النتيجة تصعيدًا حادًا في القمع الجماعي للسكان المسلمين الأيجور في المنطقة. ليس فقط من خلال التوسع السريع للمراقبة وقوة الشرطة، ولكن -أيضًا- من خلال حصر المواطنين في شبكة من معسكرات الاعتقال، و”إعادة التثقيف” التي تعرض التطرف -الذي تذهب إليه الصين الآن- لمنع ظهور التهديدات.

وتلفت جريتنز إلى أنه “بينما يختتم شي ولايته الثانية كزعيم للحزب، ويقترب من بداية ولاية ثالثة محتملة. هناك دلائل على أن الحزب الشيوعي الصيني يفكر بجدية في كيفية إبراز مفهوم الأمن القومي الشامل في الخارج”.

تقول: من وجهة نظر الحزب، فإن إخراج مفهوم الأمن القومي الشامل أمر منطقي. لطالما رأى شي تهديدات أمنية خارجية إلى حد كبير من منظور كيفية تقويض حكم الحزب في الداخل.

منذ بدء الحرب في أوكرانيا ألقى المسؤولون الصينيون اللوم الأساسي على حلف الناتو والولايات المتحدة بدلاً من روسيا

وتساءلت: كيف ستبدو مبادرة الأمن العالمية في الممارسة العملية؟

تلفت إلى أن “استياء الصين من النظام الأمني ​​الدولي الحالي ليس سراً”. وفي دعواتها للإصلاح توجد بعض الأدلة حول الموضوعات التي قد تؤكدها مبادرة الأمن العالمية. أولها الحاجة إلى إصلاح هيكل الأمن العالمي والإقليمي. حيث يجادل المسئولون الصينيون بأن نظام التحالفات -والشراكات الأمريكية على وجه الخصوص- يزعزع الاستقرار لأنه يسعى لتحقيق الأمن لأعضاء تلك التحالفات على حساب من هم خارجها.

تلفت الباحثة الأمريكية إلى أن أوكرانيا مثال رئيسي يستخدم لتعزيز هذه الحجج. تقول: منذ بدء الحرب، ألقى المسئولون الصينيون باستمرار اللوم الأساسي عن الصراع على حلف الناتو والولايات المتحدة، بدلاً من روسيا.

أما الجانب الثاني، فهو أن العالم يجب أن ينظر في أشكال جديدة من التعاون الأمني ​​لمواجهة التهديدات الأمنية غير التقليدية. “من الناحية العملية، كان هذا يعني توسع نشاط الشرطة الصينية في جميع أنحاء العالم. وعروض تدريب الشرطة والمساعدة في إنفاذ القانون كعنصر متنامٍ في السياسة الخارجية الصينية”.

لذلك، من المرجح أن تضخّم مبادرة الأمن العالمي الصينية اتجاهاً متنامياً بالفعل: التواصل الدولي من قبل الشرطة الصينية ومسؤولي الأمن الداخليين. وقد بدأت الصين بالفعل في توسيع نشر ضباط الاتصال الشرطي في الخارج وعقدت مناقشات رفيعة المستوى حول “تدريب الشرطة الأجنبية بخصائص صينية”، بهدف “تعزيز التأثير الدولي” لعمل الشرطة في الصين و “سرد قصة صين آمنة”.

تقول جريتنز: يبدو أن هذه العروض الخاصة بمساعدات الشرطة والأمن الداخلي. مصممة لجعل الصين الشريك الأمني ​​المفضل للدول التي قد لا ترغب في أن تأتي هذه المساعدة مع شروط حقوق الإنسان، أو آليات المساءلة الديمقراطية التي تطلبها الدول الغربية غالبًا. ويأتي ذلك في أعقاب التوسع العالمي في الصادرات الصينية لتكنولوجيا المراقبة، والتي تظهر في عشرات البلدان حول العالم.

واشنطن بحاجة إلى الحذر

تشير الباحثة الأمريكية إلى أنه “غالبًا ما تسعى الدول إلى الحصول على التكنولوجيا الصينية أو المساعدة. في محاولة لحل تحديات الحوكمة الحقيقية”. بينما “لم يكن المسئولون الأمريكيون دائمًا فعالين في الجمع بين انتقاداتهم لسلوك الصين والبدائل البناءة”.

لكن -وفق رؤيتها- الصادرات والأنشطة الصينية تشكل بالفعل تهديدات خطيرة لأمن البيانات. وخصوصية المواطن، وحقوق الإنسان، والديمقراطية الليبرالية، ومن المرجح أن تتزايد هذه المخاوف.

وتضيف: حتى الآن، فإن تركيز واشنطن على المنافسة العسكرية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. يخاطر بتجاهل وتفويت التحديات غير العسكرية -ولكن بنفس القدر من الخطورة- التي تفرضها مبادرة الأمن العالمي على النظام الأمني ​​العالمي والإقليمي، والمصالح الأمريكية.

وتؤكد أنه “سواء لجأت الصين إلى القوة العسكرية لتحقيق هذه الأهداف أم لا”. فإن النهج المبين في إطار مبادرة الأمن العالمية -حتى الآن- يجب أن يحث الولايات المتحدة على الحذر الشديد. يجب أن تكون حقيقة أن المبادرة قائمة على مفهوم الأمن القومي الشامل وتسعى إلى إبراز تركيز هذا المفهوم على أمن النظام في الخارج بمثابة تحذير. يجب على الولايات المتحدة ألا تستهين بمخاطر هذا النهج الصيني الجديد في السياسة الخارجية”.