“ليس مسيحيا”.. هكذا حسم الأنبا أغاثون أسقف مغاغة والعدوة بمحافظة المنيا الأمر، وهو يصف أحد الباحثين الشباب ممن يقدمون محاضرات في المحافل الكنسية. غير أن الوصف الذي ظهر مكتوبا في بيان رسمي ومسموع قاله في عظة مرئية، ليس الأول من نوعه بل يأتي ضمن حملة استهداف متواصلة لشباب الباحثين الأقباط ممن يكتبون في اللاهوت أو تاريخ الكنيسة. وسط حالة استقطاب حادة بين جيل شباب يتطلع للتحرر من السلطة المركزية للكنيسة خاصة من خلال حركة ترجمة وتفسير النصوص. وبين ما يمكن أن نطلق عليهم “صقور المجمع المقدس” الذين يتربصون بالفريق الأول عبر حملات إلكترونية متواصلة تصف مخالفيهم بالمهرطقين الخارجين عن الإيمان الصحيح.

اقرأ أيضا.. الكنيسة والدولة.. من “العصا والجزرة” إلى المواطنة

حملات استهداف الباحثين الشباب تنشط على صفحات قبطية بعينها، تشرف عليها جماعات مسيحية مثل “حماة الإيمان” مستندين فيها على أقوال أساقفة من تيار “الصقور” وبدعم منهم. فحملات الصفحات القبطية غالبا ما تأتي متبوعة ببيانات إعلامية مصدرها الأنبا أغاثون، الذي أوكل لنفسه مهمة “حماية الإيمان الأرثوذكسي القويم”. رغم أنه لم يحصل على درجة علمية واحدة في العلوم اللاهوتية من جامعة معترف بها. ما فتح أبوابًا من الجدل بشأن معرفته بالعلوم الكنسية نفسها.

بداية الاستقطاب

تجليس البابا تواضروس على كرسي مرقس الرسول

منذ تنصيب قداسة البابا تواضروس الثاني بابا للإسكندرية في عام 2013 بدأت حملات الاستقطاب الكنسي تتصاعد وسط أجواء سياسية واجتماعية كان الاستقطاب وحده عنوانها. الكنيسة كان لها نصيب من ذلك الأثر. إلا أن مقتل الأنبا إبيفانيوس عام 2018 تسبب في توسيع الفجوة بين صقور وحمائم الكنيسة.

الأسقف المغدور نفسه كان متمرسا في البحث العلمي وتدريس التراث الكنسي وإصدار الكتب وتحقيق التراثي منها. وكان رحيله كشفا لجيل جديد من الباحثين الأرثوذكس الذين كسروا النمط السائد في التعليم الكنسي طوال الأربعين سنة الماضية. هؤلاء حاولوا تحريك الماء الراكد كنسيا عبر فتح آفاق للدراسة بالخارج وفي بعض المعاهد الكنسية بالداخل. ما وسع ساحات الجدل في الشأن الكنسي وسحبها للمجال العام بفعل مواقع التواصل الاجتماعي وتغيرات العصر. إلا أن هذا الانفتاح جاء مصحوبا بتكفير هؤلاء على المنابر مثل ما جرى للباحث جميل رسمي هذا الأسبوع، وسبقه إلى ذلك القس أنطونيوس إبراهيم عياد الشهر الماضي. كذلك بعض أساتذة الكلية الإكليريكية التي دأبت تلك الصفحات على نشر صورهم ومقالاتهم والتحريض عليهم إضافة لتلاميذ متى المسكين من رهبان دير أبو مقار بوادي النطرون.

كان آخر من انضموا لتلك القائمة الباحث جميل رسمي الخادم والشماس بكنائس شرق المنيا والذي شارك ضمن مؤتمر كنسي للشباب انعقد في بيت مؤتمرات العجمي بالإسكندرية. قدم خلاله بعض العظات كجزء من برنامج المؤتمر قبل أن يقرر الأنبا أغاثون أسقف مغاغة والعدوة الرد عليه في محاضرة وبيان. أغاثون وصف “رسمي” بـ”غير المسيحي الذي يتبنى تعاليم خاطئة” على حد تعبيره.

كيف حدثت أزمة سفر أيوب ولماذا تم تكفير الشماس؟

الأنبا أغاثون

المحاضرة التي قدمها “رسمي” للحاضرين الشباب حملت عنوان “صلاح الله” إذ استخدم الباحث الأدلة الكتابية حسب الرؤية الآبائية وفقًا لما ذكره. كما أوضح: “قدمت أدلة من الكتاب المقدس توضح فكرة صلاح الله محب البشر حسب تعاليم آباء الكنيسة الأرثوذكسية الأوائل وتعاليمهم”.

يشرح رسمي ما حدث فيقول: “اقتطع البعض دقائق من المحاضرة وأثاروا جدلا ضدي وشككوا في انتمائي للإيمان الأرثوذكسي. وأمام هذا التزمت الصمت فلكل شخص الحق في أن يرى ما يرى”. كما أكد: “لستُ معصوما من الخطأ سواء في التعبيرات المكتوبة أو الشرح. وعلى استعداد للتراجع عن رأيي إن ثبت إنني على خطأ. فلا أملك كل العلم ولا كل المعرفة ولكن خطأى في الأسلوب لا يعني إن التعاليم خاطئة”.

استدعى “رسمي” جدلا حول سفر أيوب أحد أكثر أسفار الإنجيل العبراني أو العهد القديم جدلا بين الباحثين. إذ يروي السفر قصة أيوب البار الذي صبر على ابتلائه ومرضه وفقدان ماله وعائلته وظل مخلصا ومؤمنا بالرب رغم تحريض أصدقائه وزوجته.

يشكل “سفر أيوب” حالة متفردة لباحثي الكتاب المقدس على عدة مستويات. فسردية “أيوب” من ناحية وردت في النصوص البابلية بعنوان “لأمجدن رب الحكمة” وتروي حياة رجل ثري وتقي وصالح يدخل في الاختبار والتجربة وتنزل به المصائب من كل حدب وصوب ويدخل في هذا الحوار المفعم بالشك مع أصدقائه. كذلك فإن قصة “أيوب” ذكرت في القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ). ما يشير إليه فراس السواح صاحب موسوعة تاريخ الأديان حين أكد أن قصة أيوب البار جزء من فلسفات الشرق القديم وتطرح قضية العدل الإلهي ما أدى لحوارات مطولة حولها.

من ناحية أخرى فإن سفر أيوب تسبب في ظهور أحد فروع العلوم اللاهوتية وهو “الثيوديسيا- Theodicy” أو نظرية العدالة الإلهية أو العَدالةُ الإلهيَّة أو عِلْمُ تَبْرِير العَدالَةِ الإلهِيَّة أو إثْبات العَدالَةِ الإلهِيَّة. حتى إن بعض الكليات الكنسية تقدمه لطلابها كمقرر مستقل يهتم بحل معضلة الشر وتبرير الله للإجابة على السؤال لماذا يسمح الله الصالح بالشر للبشر ومن ثم حل مشكلة الشر بعد ذلك مثلما حدث مع أيوب.

صورة الله بين الجرح والشفاء في سفر أيوب

أما الآية التي أثارت الجدل في الكنيسة فهي “لأَنَّهُ هُوَ يَجْرَحُ وَيَعْصِبُ. يَسْحَقُ وَيَدَاهُ تَشْفِيَانِ.” الواردة في سفر أيوب التي استنكر جميل رسمي صفات الله الواردة فيها. كما أكد أن الله محب وصالح ورحيم ولا يمكن القبول بصورته تلك كمن يجرح ويسحق. لكن الأنبا أغاثون اعتبر الأمر طعنا وتشكيكا في الكتاب المقدس ومن ثم الخروج عن المسيحية.

الكنيسة القبطية ووحي الكتاب المقدس

 

مراد يواقيم الباحث المتخصص في دراسات العهد القديم في أحد جامعات الولايات المتحدة الأمريكية يحلل الأزمة علميا. فيقول: “لابد من التفريق بين مفهومين أساسيين في التعامل مع الكتاب المقدس الأول هو الوحي والثاني سلطة النص”. كما يضيف: “الوحي يعني أن الكتاب المقدس مصدره إلهي والإيمان به هو إيمان كلي. فلا نؤمن بأجزاء ونترك أخرى وفقا لإيمان الكنائس التقليدية والإنجيلية المحافظة”.

يواصل يواقيم تحليله: “تختلف طبيعة النصوص في الكتاب المقدس من حيث النوع فبعضها تقدم الرسالة الإلهية من خلال سرد روائي أو قصصي للتاريخ. بل وأحيانا يسرد قصص وأمثال غير تاريخية من الأساس مثل ما يعرف بـ”أمثال السيد المسيح”. وهناك شخصيات في الكتاب المقدس يحمل كل منها فكر ا معينا ويتصرف بشكل محدد يختلف عن الآخر. ففي قصة إبراهيم نجد سارة ولوط وهاجر وأبيمالك ولكل منهم طريقة ومسلك في التعبير عما يمر به من أحداث. وفي بعض الأسفار نصادف شخصيات تعدل سلوكها وأفكارها مع الوقت مثل يعقوب وموسى”.

ويتساءل يواقيم: “هل علينا اتباع كل تلك الأفكار والتصرفات والرؤى الواردة على لسان الشخصيات في الكتاب المقدس؟” مجيبا: “هنا نلتقي بمفهوم ثان في التعامل مع الكتاب المقدس وهو السلطان بمعنى أنه ليس كل النصوص يجب اتباعها كالتزام حرفي. كما أنها قاعدة تسري على النص القصصي وليس النص المباشر”.

الباحث المتخصص في دراسات العهد القديم يقول: “العبرة هنا بالمبدأ الذي تحاول القصة الكتابية تقديمه وعلى سبيل المثال حين يروي الكتاب المقدس قصة موسى حين قتل مصريا فقد كان مقصده اتخاذ العبرة وعدم الوقوع في الأزمة. بالتأكيد لم يكن القصد تقليدها”. كما أكد: “أصعب أسفار الكتاب المقدس في التفريق بين سلطة النص ومفهوم الوحي هو سفر أيوب”.

بين سلطة الكتاب المقدس والوحي

يتابع يواقيم: “سفر أيوب هو أكبر سفر حواري في الكتاب المقدس يتضمن حوارات أيوب مع أصدقائه الأربعة في سلسلة حوارات لاهوتية طويلة جاءت في شكل ثلاث دوائر أو حلقات للحوار. وفي نهاية السفر يتضح لنا أن أصدقاء أيوب الثلاثة الأوائل اخطأوا في كلامهم. وإن كلام الصديق الرابع (أليهو) هو الصواب لأن الله أيد كلامه”.

ووفق يواقيم: “هذا لا يعني أن باقي أحاديث أصدقاء أيوب خاطئة ولكنها تخلط بين الخطأ والصواب وهو أمر يصعب الفصل فيه بسهولة دون النظر للكتاب المقدس ككل ولآراء أباء الكنيسة فيها. بالإضافة للخبرة الروحية”. كذلك أكد أن الأنبا بيشوي مطران دمياط الراحل حذر من اعتناق أفكار أصدقاء “أيوب”.

التفسير الذي أوضحه يواقيم لسفر أيوب وخصوصيته كنص في علوم الكتاب المقدس يبرئ ساحة جميل رسمي الذي حاول تقديم رؤيته عن صورة الله في محاضرة للشباب. بينما يؤكد حالة الاستقطاب الكنسي التي تتسبب في تكفير أحد الشمامسة لأنه قدم تعليما كنسيا مغايرا عما اعتادت منابر الكنيسة استقباله السنوات الفائتة رغم إن تحذير الأنبا بيشوي من اتباع آراء أصدقاء أيوب دليل يرضي التيار التقليدي الذي يتزعم حملة “كشف التعاليم الخاطئة وهرطقة الآخرين” على مواقع التواصل.

من ناحية أخرى، يتعرض المفكر القبطي، كمال زاخر لقضية الترصد الكنسي للباحثين في كتاب له بعنوان “الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد” فيقول: “نؤكد مجددا أن الكنيسة لها قواعدها الإيمانية، التي تقوم عليها وهي العقائد التي لا تقبل الجدل حولها. لكن هذا لا يصادر الحق في تعدد الآراء ومدارس التفسير باختلاف الثقافات والتنوع المجتمعي والجيلي”. كذلك يضيف: “العقيدة لا تقبل الاختلاف بينما يبقى الرأي والتفسير قابلان للتنوع والتعدد”.

ولفت زاخر النظر إلى إن آباء ومعلمي الكنيسة الأوائل اختلفوا في الآراء. فهناك من قال رأيا وهناك من قال عكسه وكلهم محسوبين في النهاية على الكنيسة دون تبادل اتهامات الهرطقة. كما أضاف: “الاختلاف في الرأي محكوم بعدم الخروج عن العقيدة ولكن ما يجري حاليا من سهولة اتهام الشباب بالهرطقة يُدخل الكنيسة في دائرة مخيفة في المستقبل”.

وجدد زاخر طلبه بالدعوة لتأسيس مركز أبحاث كنسي عند أعلى نقطة في الكنيسة يعكف على وضع المحددات التي تفصل بين العقيدة والرأي والتفسير. مضيفا: “على الكنيسة أن تؤسس لقنوات تواصل تطرح فيها الأمور التى تستوجب حواراً موضوعياً راقياً بين جنباتها”.