انتهيت في مقالي السابق إلى أننا بصدد تصاعد استعادة السياسة منذ ما أطلق عليه احتجاجات المقاول محمد علي -سبتمبر 2019، وشرحت فيه أن أولويات المسألة الاجتماعية والحياتية عند المصريين وضغوطها تعطي قوة دفع لعودة السياسة من جديد، وأن جزءًا معتبرًا من مظاهر إحيائها ينبع من فجوات الخطاب الرسمي وتناقضاته، ولكننا في الوقت نفسه وامتدادًا لطبيعة السياسة التي شهدناها قبيل يناير 2011 وبعدها ويشهدها العالم المعاصر يجرى إعادة تعريفها من مداخل جديدة؛ من حيث الخصائص والفواعل والخطاب ونوعية الأولويات فيها، وهو ما نعرض لبعض مظاهره في هذا المقال.

مظاهر خمسة للسياسة الجديدة في مصر هي:

1- تشرذم الاستقطابات: سيطر علينا ولا يزال لعقود أربعة أو يزيد الاستقطاب الإسلامي العلماني؛ في وقت نشهد فيه -واقعيًا- تشظي الاستقطابات وتشرذمها إلى فئات عديدة، ليس استنادًا إلى أسس أيديولجية مستقرة، ولكن حسب القضية المطروحة أو المعروضة. ومع كل قضية نجد أن مواقع الأطراف فيه تختلف؛ فيتقارب من تباعدوا من قبل، ويتباعد من تقاربوا.

يمكن الاشارة إلى عديد الأمثلة: فتعديل قانون الأسرة؛ لم يعد الانقسام فيه بين إسلاميين وعلمانيين، ولا بين متدينين ونسويات، ولكن توزعت أطرافها بين هؤلاء وأولئك، وأضيفت إليهم مجموعات عديدة من “أصحاب المصلحة” من أمثال الرجال الذين أطلقوا صفحات كثيرة لتأكيد حقهم في الرؤية -رؤية أطفالهم بعد الطلاق، أو لمعالجة بعض الآثار والتداعيات عليهم.

نحن بصدد سياسة يجب النظر إليها من مدخل “أصحاب المصلحة” -ذلك المفهوم الذي اعطته أدبيات المجتمع المدني قوة دفع- ويقصد به المتأثرين بشكل مباشر أو غير مباشر بالقضية المطروحة، وهو مدخل يسمح لنا بإظهار المواقف والالتباسات والمصالح المتناقضة والمتنافسة والتأثيرات من وجهات نظر مختلفة، والأهم موقع كل طرف فيه وتشابكات مصالحه.

في سياسة أصحاب المصلحة، التحالفات عابرة ومؤقتة ويتم إنشاؤها لسبب معين، ويجرى فيها تهميش الأيديولجيا، ويتحول النقاش أو يغلب عليه الجانب التقني أو الفني، حيث الحديث في الأساليب الصحيحة لإدارة الاقتصاد، أو مشاكل الفساد وانعدام الشفافية، وليس حول اقتصاد اشتراكي في مواجهة آخر رأسمالي.

وأخيرًا، فإنه يشكل خطوط صراع سياسي جديدة، وقدرته على طرح بديل متكامل تظل محدودة لأنه يقدم سياسات وإجراءات محددة لما يعترض عليه؛ ففي حملة إنترنت غير محدود تم تقديم بدائل واضحة للسياسة المطبقة مثل تقليل سرعة الإنترنت بعد انتهاء الباقة وغيره من المقترحات التي تعالج المشكلة بشكل مباشر، ولم يحدث أن تم ربط ذلك بقضايا أكبر من قبيل نمط تعظيم الربح في الرأسمالية -كما تظهر في شركات الاتصالات، ولا طبيعة العلاقة بين هذه الشركات وبين شبكات الامتياز المحلية والإقليمية، ولا حتي الاحتكار الذي تمارسه.

أنا أدرك أن تكرار المعارك الصغيرة التي لا تكاد تبدأ حتي تنتهي، وتستهلك وقتا ثم يبدأ غيرها… إلخ، أنا أدرك أن هذه المعارك تستخدم لدعم انتزاع السياسة وتمويتها؛ ولكن يجب أن نلاحظ أيضًا أنها تجتذب أفرادًا جددًا للاهتمام بالمجال العام من مداخل متعددة. هم كأخوة يوسف يدخلون إليها من أبواب متفرقة.

2- مدخل القضايا: إذا تم تهميش الأيديولجيا التي تتضمن منطقًا شاملًا يجيب على أسئلة الوجود الكبرى من أمثال العلاقة بالكون والإنسان والحياة؛ فإن مدخل القضايا يتقدم على حسابها.

العالم منذ نهاية الحرب الباردة -في تسعينيات القرن الماضي- وهو يتفاعل وفق عدد من القضايا مثل التغير المناخي والبيئة والنوع الاجتماعي والفساد وحقوق الانسان… إلخ، وهي مداخل تمثل إمكانيات كبيرة، ولكن للأسف يجرى تصغييرها في واقعنا المصري.

انشغلنا بالحوار الوطني عن مؤتمر التغير المناخي -المقرر عقده بشرم الشيخ أوائل شهر نوفمبر- بالرغم من أن الأخير كان يمكن أن يكون فرصة لإعادة اختراع السياسة في مصر؛ فهو يثير مفاهيم كثيرة من قبيل الاستدامة والاستهلاك والعدالة البيئية، ويمكن أن يكون مدخلا لتقييم المشاريع الكبري التي تبنتها الدولة السنوات الثماني الماضية من حيث قدرتها علي تحقيق مؤشرات المفاهيم السابقة.

المؤتمر يمثل فرصة يمكن أن نجدد بها جدلنا العام، ويمكن من خلالها أن نسائل السياسات والإجراءات وأولويات الانفاق العام التي جرت في مصر على مدار السنوات الماضية، والتي جرى اختزالها للأسف -ومن باب المكايدة السياسية- في مسألة اقتلاع الأشجار.

التغير المناخي يطرح أسئلة عديدة تتعلق بطبيعة الرأسمالية في مراحلها الأخيرة -التي استدمجها النظام كاملًا في سياساته الاقتصادية، ويتساءل عن استدامتها وتأثير ذلك على استمرار الوجود البشري كله.

نحن هنا بصدد حديث في النماذج التنموية من مدخل جديد، وهو بالمناسبة خطاب توقف من زمن في مصر لأسباب عدة تستحق مقالًا منفصلًا، ولكننا نشير سريعًا إلى أن أحد أسبابه هو ضعف خطاب اليسار المصري في هذه الفترة. وقد سبق له أن قدم إسهامات مهمة في هذا الموضوع؛ تتلمذنا عليها منذ الثمانينيات من القرن الماضي -ربما بسبب انحرافه نحو مواجهة الإسلامية المتصاعدة في مصر على حساب السياسات النيوليبرالية.

3- من السمات الهامة لمرحلة التسييس الجارية أن ما تصورته الدولة والمجتمع غير قابل للتفاوض والمساومة والجدل حوله لم يعد كذلك، من أول الدين والخطابات والرموز المرتبطة به، إلى الأسرة والعلاقات التي يجب أن تسود فيها، إلى الدولة ومؤسساتها التي يتساءل المصريون عن أدوارها وأولويات وظائفها وعن علاقتها بالربح والاسترزاق علي حساب المواطن/الزبون، إلى الجنس… إلخ.

نحن بصدد تسييس الترتيبات الاجتماعية والمعتقدات والقيم والعلاقات التي تصورنا لفترة طويلة أنها غير قابلة للتفاوض وغير قابلة للتغيير.

ونشير هنا إلي أنه إذا انتزعت السياسة وجرى تجريف المجال العام منها؛ فإن كل جدل عام يتحول إلى موضوع سياسي -خاصة إذا اكتسب قوة دفع من الاستقطابات التي يجرى تغذيتها باستمرار، ومن الأزمات المتعددة التي تواجهها الدولة والمجتمع.

نحن بصدد تعبئة مستمرة واستقطاب دائم حول الأزمات والقضايا المتعددة، التي يجرى تصويرهما من الاطراف المختلفة -وكلا بطريقته الخاصة- على أننا نكافح للمحافظة على الدولة ومصالحها والوطن ومقوماته، أو ضد القمع، وندافع عن حقوق المواطن وتقرير الحريات السياسية أو الفردية والديمقراطية الأصيلة… إلخ.

4- خلق معيارية جديدة: في السوشال ميديا لا محاولات لاستعادة الجدل العام فقط الذي صادرته السلطة، ولكن يجرى أيضًا خلق معايير جديدة يتم من خلالها تقييم المواقف والسلوكيات والسياسات والإجراءات، وتقديم سرديات أخرى تتحدى الروايات السائدة أو المهيمنة، ويجرى فيها القضاء علي المركز والمرجعيات والرموز حيث لا قداسة لأحد، وإنما القناعة والقبول والنفع والعملية. [تأمل كيف تم جر شيوخ للمحاكمة بحكم آرائهم الخاصة في بعض الموضوعات لا بحكم فتاواهم الدينية].

وسعت السوشال ميديا من المنخرطين بشكل نقدي في السياسات المتبعة والإجراءات والقرارات المتخذة، وهي تبرز تناقضات السلوك والموقف، وأدت إلي تعبئة شعبوية في بعض الموضوعات والقضايا، ولكنها في النهاية حافظت علي اهتمام قطاع معتبر من المصريين بالمجال العام ومتابعته ومراقبته وتقييمه بشكل دائم؛ في وقت تراجعت فيه مساحات الجدل العام وتم القضاء عليها -أو هكذا تصور البعض.

أخيرًا؛ فإن الاندماج في العالم الذي تساعد فيه السوشال ميديا يظهر في طبيعة القضايا المثارة التي لا يمكن أن تفصل فيها بين الوطني والعابر له؛ فالتداخل بين الأثنين يسمح بأن تبدأ الفعل السياسي بالخارج ليكون له تداعيات علي الداخل الوطني؛ فمنظمات حقوق الانسان المصرية تحركت مع الاطراف الدولية التي من المتوقع أن تحضر قمة COP27 لتثير معها أوضاع حقوق الانسان في مصر، كما يجري التساؤل عن السماح بالتظاهر في المؤتمر في بلد حرم مواطنوه من حق التظاهر السلمي. نحن هنا بصدد تأثيرات متبادلة علي السياسة بين الداخل والخارج -وهي ظاهرة تصاعدت في حقبة الانتفاضات العربية وتزيد في المستقبل.

نؤكد أن المعايير المرجعية للسياسة لم تعد ايديولوجية؛ بل يومية حياتية، وهي لم تعد ثابتة غير قابلة للتغيير، ويختفي معها الاجماع المهيمن أو الرواية السائدة. وأخيرا فإن ما يستحق المتابعة كيف يعاد صياغة وتشكيل الاطار المعياري في مصر بين نموذجين: الاختلاف والتمرد من جهة والضبط والتحكم من جهة أخرى؟ -باعتبار أن هذا في قلب العملية السياسية.

إن انتزاع التسييس يعني تهدئة وإنكار وقمع الاختلافات السياسية والاجتماعية وأنماط الحياة، وبناء وصيانة كوكبة جديدة مهيمنة، وإغلاق المساحات للتعبير عن الخلاف والاحتفال به. في حالة نزع السياسة يتم تقليص الاختلافات إلى إجراءات عامة للحكم التوافقي الذي يشرك أطراف منتقاة فيه -كما جرى في الحوار الوطني، ولكنه يستبعد أي أصوات تتعارض مع الإجماع المتخيل.

5- من السياسة إلى السياسات: وهنا نشهد تحولًا من السياسة باعتبارها عملية مؤسسية تضطلع بها نخبة محدودة -هي عادة الرئيس ومجموعة ضيقة حوله أو ما يطلق عليه النخب السياسية، إلى عمليات سياسية متعددة يقوم بها أصحاب مصلحة كثر -كما قدمت- لا تدور حول قضايا محدودة أو موضوعات محددة، وإنما كثير من القضايا والموضوعات التي تتأثر بها حياة المواطن اليومية من الخبز إلى سد النهضة.

الملاحظ في هذه السمة: أنه يجرى مساءلة القضايا والموضوعات وفق عدد من المفاهيم والقيم التي باتت من صلب الخطاب السياسي المعاصر مثل: الشفافية والحكم الرشيد وأولويات الانفاق العام والمساواة والشراكة في صنع السياسات وتطبيقها وحوكمتها.

هنا، يحسن أن نشير أن جزءا معتبرا من ملامح نزع السياسة هو: شجب أي أصوات بديلة أو مختلفة باعتبارها: غير عقلانية أو غير أخلاقية أو غير مسؤولة أو حتى إرهابية أو لاتفهم طبيعة الدولة وكيفية إدارتها وطريقة عملها، أو تهدد الإجماع المهيمن وحقائقه المتخيلة -وكأن هناك إجماع في مصر الآن.

عمليات اختراع السياسة الجارية في مصر تخلق قابليات متعددة للفعل السياسي إن لم يؤد تصريفها عبر قنوات شرعية كثيرة؛ فإن المجتمع والدولة سيكونان في مأزق كبير خاصة أن الغاطس من تفاعلات المجتمع (مجتمع الظل) واقتصاده (الاقتصاد غير الرسمي) أكبر من الظاهر المعلوم، وعدم اليقين الاستراتيجي أكبر من القدرة علي التخطيط، والتقلبات الجيواستراتيجية في الإقليم والعالم أعظم من مرونة المؤسسات وصانعي القرار على التعامل معها.
الملمح العام هو: أن السياسة موجودة بأشكال ومعايير جديدة رغم الحصار والانتزاع. وإذا لم يتم مأسستها وشرعنتها فإن الأزمات ستتداعي علينا -مجتمعا ودولة – كما تداعي الأكلة إلي قصعتها -وهو ما سيكون عليه اشتغالي في المقال القادم.