مع عجز في توازن القوى وعدم اهتمام الأطراف الدولية بلعب دور فاعل في الوساطة من أجل تفكيك أزمة سد النهضة تبحث مصر خياراتها. وتكثف تحركاتها الدبلوماسية لإيجاد حلول للأزمة. فقد عقد وزير الري المصري أمس الأول اجتماعا مع مسئولي البنك الدولي ضمن مراهنات على قدرة الوزير الذي تولى منصبه مؤخرا وما يمتلكه من خبرات سابقة مع منظمات دولية للتوصل إلى توافقات.
ويتسم موقف البنك الدولي من أزمة سد النهضة بتباين كبير. إذ يمكن القول إن هناك اتجاهين رئيسيين. الأول يرى أن البنك وطبقا لسياساته منذ سنوات يطمح إلى تسليع المياه ولا يتدخل في تفكيك الأزمات. حتى وإن بدا مشجعا للعب دور تنموي من خلال مشروعات الري. إلا أن ذلك متصل بقضية تسليع المياه.
الاتجاه الثاني يرى إمكانية الاستفادة من تمويل البنك وأن تصبح المؤسسات الدولية مساندة لمواجهة آثار أزمة سد النهضة.
وفي التقرير قراءة لتجارب البنك الدولي في تمويل مشروعات المياه في مصر. واستشراف لما يمكن أن يقدمه البنك الدولي ومستهدفات مصر.
لقاء سويلم والبنك الدولي: رسائل إدارة المياه وتأثيرات السد
بحث هاني سويلم -وزير الري والموارد المائية المصري الجديد- أمس الأول مع وفد البنك الدولي بدائل مواجهة الشح المائي. بما فيها نظم الري الحديث للأراضي الزراعية. وذلك لتقليل فاقد المياه.
وكرر “سويلم” ما سبق وأعلنه في مناسبات عدة من حقائق أبرزها أن مصر من أكثر دول العالم معاناة من الشح المائي. كما أوضح مخططات الحكومة في ترشيد الاستهلاك والاستفادة القصوى من المياه. ذلك ردا على مزاعم إثيوبية بشأن إهدار دولتي المصب المياه.
وحسب بيان وزارة الري المصرية تم بحث التنسيق المشترك في مجال دراسات الري الحديث في مصر. وإجراء مراجعة لتحديد أولويات ومناطق العمل خلال الفترة المقبلة. ومناقشة مختلف البدائل المستخدمة عالميا في المجال.
وتضمن اللقاء مناقشة ترشيد الاستهلاك بما فيه حملات التوعية وإشراك المجتمع الزراعي فيها.
وقد راجع اللقاء نتائج زيارة بعثة البنك الدولي في شهر مارس/آذار الماضي وتقرير البنك الدولي عن الري الحديث في مصر والتجارب السابقة في مصر والعالم.
رسائل مصر بخصوص المياه
وتتضح رسائل وزارة الري مركزة على أن مصر أكثر دول العالم التي تعاني الشح المائي. وإيضاح الدور والجهود التي تتخذها القاهرة لمواجهة التحديات الناتجة عن محدودية الموارد المائية. ومنها مشروعات إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي ونظم الري الحديث لتحقيق الأمن الغذائي. والذي يمثل تحديا حقيقيا في ظل توقعات بتأثيرات ظواهر مناخية ضاغطة على الإنتاج الزراعي. وهذا قد يخفض الإنتاج العالمي من المحاصيل الرئيسية. ما يزيد حالة عدم استقرار سوق السلع الزراعية.
البنك الدولي ومشروعات تمويل المياه
في ظل ارتفاع الاحتياجات المائية المتزايدة لمصر يهدد سد النهضة حصتها المائية بالنقصان. حتى لو تم التوصل إلى اتفاق مع إثيوبيا. وفي الوقت ذاته تواجه مصر عددا من التحديات الاقتصادية التي تستوجب التوسع الزراعي. خاصة مع ازدياد الطلب على الحبوب كونها أكبر مستورد للقمح عالميا. كما يتطلب تسريع وتيرة التنمية الصناعية توفير موارد مائية كافية.
وحسب تقرير حديث صدر إبريل/نيسان الماضي من البنك الدولي يلعب قطاع الزراعة دورا حيويا في النمو الاقتصادي ويعمل به 30%. وهو مصدر رزق 55% من السكان. إلا أن التحديات طويلة الأمد تؤثر في الإنتاجية الزراعية وتشمل ندرة المياه والأمن الغذائي وتغير المناخ.
واتفق البنك مع وزارة الري عام 2010 على تنفيذ مشروع يهدف لتعزيز معرفة المزارعين بأنظمة الري الحديثة وتكنولوجيات تحسين الأراضي وإنتاج المحاصيل.
وشملت نتائجه تحديث أساليب الري عبر استبدال المراوي المفتوحة بمواسير مدفونة. والذي استفاد منه نحو 128 ألف من ملاك الأراضي والمستأجرين. وضمن بيان أصدره البنك في ديسمبر 2010 قال هاني السعدني -الرئيس المشارك لفريق عمل المشروع في البنك الدولي: “أصبح الإقراض لأغراض إدارة المياه الزراعية البرنامج المستدام الرئيسي في العقود الماضية هدفا. علاوة على ذلك سيسهم المشروع في تطوير القطاع الخاص المحلي عبر التعاقد المحلي على الخدمات والأشغال لتحديث شبكة الكهرباء وأنظمة الري في المزارع”.
وفي دراسة للباحث عبد المولى إسماعيل يرى أن البنك الدولي لا يكفُّ عن ربط الاستدامة المائية بآليّات السوق. وبلغ إجمالي تمويله لمشروعات المياه خلال خمس سنوات في الفترة من 2009 إلى 2013 الماضية ما قيمته 16.9 مليار دولار. وفي المنطقة العربية وعلى مدار ما يقرب من 60 عامًا بدأت منذ 1961 بلغت جملة الاستثمارات المائية 15 مليار دولار في 284 مشروعًا اختصت مصر وحدها بـ25 مشروعا. وعلى الرغم من هذه الاستثمارات ما زالت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تعاني المزيد من المشكلات المائية بشهادة البنك الدولي ذاته.
تمويل محدود وفرض أجندات
ويتضح أن مشروعات البنك أولا محدودة التمويل في قطاع الزراعة والري قياسا بتمويلات أخرى. سواء في مناطق العالم أو على مستوى القطاعات الأخرى الممولة.
وتوضح مؤشرات وبيانات البنك محدودية مشروعات المياه والصرف الصحي في شمال إفريقيا والشرق الأوسط من حيث العدد. وأيضا قدر التمويل الذي لا يتجاوز 1 بالمائة. بينما يصل التمويل في شرق إفريقيا 9 بالمائة.
وتبلغ تمويلات البنك للقطاع نفسه في شرق آسيا 10 بالمائة. وجنوب آسيا 6 بالمائة. أي إن تمويلات البنك لمشروعات المياه هي الأقل عالميا بين مشروعاته. وأيضا هي محدودة بالنسبة للتمويلات التي وجهت للشرق الأوسط وشمال إفريقيا. والبالغة في السنة المالية 2022 قيمة 4.9 مليار دولار لتمويل 29 عملية.
بينما بلغت في شرق إفريقيا في العام نفسه 18.2 مليار دولار بغرض تمويل 100 عملية. تشمل 2.9 مليار دولار من ارتباطات البنك الدولي للإنشاء والتعمير و15.3 مليار دولار من ارتباطات المؤسسة الدولية للتنمية. وبالتالي المراهنة على تمويلات البنك ليست بالقوة الكافية.
البنك الدولي وقضية المياه وسد النهضة
اشترط البنك الدولي موافقة أطراف النزاع لتمويل سد النهضة. بعد أن كان يخطط لتمويل مشروعات إثيوبيا المائية خلال 2005. في السياق يقول خبير السدود رفعت عبد الملك إنه كان مقررا عام 2005 أن تبني إثيوبيا خمسة سدود صغيرة. وحصلت على موافقة البنك الدولي لتمويل السد وفقا للأعراف الدولية.
حينها كان يعمل “عبد الملك” في شركة تولت تدقيق دراسة الجدوى لصالح البنك الدولي ومدى صلاحيتها. وحين قررت إثيوبيا بناء سد واحد -الأكبر على نهر النيل- رفض البنك الدولي التمويل وانسحب لأن ما تم طرحه مخالف لدراسة الجدوى وخارق للأعراف الدولية.
وبذلك بقيت مسألة تمويل السد ترتبط بأطراف أخرى تربطها مع إثيوبيا مصالح مشتركة. بينها الصين التي تمدها بالمعدات الميكانيكية والكهربائية والتوربينات. هذا فضلا عن حملة التمويل الشعبي والتي استدهدفت تعميق الارتباط بمشروع سد النهضة كمشروع قومي رائد للداخل الإثيوبي يسهم في تقوية السلطة وترميم آثار النزاعات العرقية للوصول إلى حالة توحد حول مشروع يسوق على أنه يجري وسط تحديات منها ميول استعمارية كما تروج إثيوبيا.
سد النهضة وتجارة المياه
بينما يرى عبدالمولى إسماعيل أن الجدل حول “سد النهضة” وغيره من السدود التي تقام على الأنهار الدولية يأتي في إطار السياسات الرامية إلى إحكام السيطرة على موارد المياه بواسطة الشركات عابرة القومية وبدعم ومساندة مؤسسات التمويل الدولية. وبخاصة البنك الدولي والاستثمار الأوروبي. والهدف تحويل الأنهار العالمية التي تدخل ضمن إطار الملك العام إلى قيم تبادلية لصالح الشركات الكبرى ومؤسسات التمويل الدولية.
ولعل سد النهضة يمثل واحدا من تلك التجارب التي تهدف أن تكون نموذجا يحتذى في خلق أسواق دولية للاتجار بالمياه.
وحسب “عبد المولى” فإن كل ما تبذله دول المنبع في الترويج لسياسات تسليع الموارد المائية باعتبارها مدخلا يأتي في السياق الذي يتم الترويج له من قبل مؤسسات التمويل الدولية وبدلا من التصدي لتلك السياسات من دول المصب والممر كخط الدفاع الأول في صون حقوقها فإنها تمارس الأدوار المفروضة عليها من قبل مؤسسات التمويل الدولية في الترويج لتلك السياسات. ومن ثم مزيد من الانتقاص لحقوق المواطنين على ضفتي المنبع والمصب في الوصول للمياه.
وقد طالبت مصر منذ اتفاق “إعلان المبادئ” مع السودان وإثيوبيا عام 2015 بوساطة دولية للوصول إلى اتفاق ملزم يحفظ حقوق مصر المائية. وخلال ديسمبر 2017 اقترحت مصر وجود طرف ثالث له رأي محايد وفاصل يشارك في أعمال اللجنة الفنية الثلاثية يتمثل في البنك الدولي. نظرا لما يتمتع به البنك من خبرات فنية واسعة. ورأي فني يمكن أن يكون ميسرا للتوصل إلى اتفاق داخل أعمال اللجنة الثلاثية”. وتابع: “مصر تثق بحيادية البنك الدولي وقدرته على الاستعانة بخبراء فنيين على درجة عالية من الكفاءة”.