لأنها لم تكن حدثا عابرا في التاريخ الحديث، ولأن مشروعها تجاوز حدود مصر، وآثارها امتدت لتحدث تغييرات سياسية لافتة ليس في منطقة الشرق الأوسط وحسب بل في العديد من مناطق العالم، لذا فمن الطبيعي أن تبقى ثورة 23 يوليو هدفا لهجوم كل من تهددت عروشهم وتأثرت مصالحهم، وأن يظل قائدها جمال عبد الناصر في مرمى الطعن والتشويه حيا وميتا.

بعد فترة وجيزة من وفاة الرئيس جمال عبد الناصر (28 سبتمبر 1970)، فتح خلفه أنور السادات الباب أمام استهداف تجربة سلفه وتصفية مشروعه ورجاله، تمهيدا لتسليم مفاتيح مصر والمنطقة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد انتصار 6 أكتوبر 1973، سمح «بطل الحرب والسلام» بهامش من الحرية ليثبت لأصدقائه الجدد أنه قادر على مسايرة ركابهم وتطبيق نموذجهم. اُستغل هذا الهامش في إطلاق حملات منظمة للإجهاز على إرث عبد الناصر ووضعه في قفص الاتهام وتحمليه مسئولية كل ما جرى ويجري في مصر ومحيطها من خيبات وإخفاقات.

تدفقت في هذه الآونة كُتب ومقالات تعفي الاستعمار القديم والجديد من مسئولية تخريب مصر و«تُلقيها على عاتق الإصلاح الزراعي والسد العالي ومجانية التعليم ومحاربة الاستعمار والتطور الصناعي، إلى آخر هذه الجرائم الفادحة»، بحسب الكاتب الصحفي الكبير صلاح حافظ في مقال له بـ«روز اليوسف» منتصف سبعينيات القرن الماضي.

شيئا فشيئا تجاوزت الحملات ضد ثورة يوليو وعبد الناصر حدود التضليل، ودخلت مرحلة البذاءة وأصبح يشترك فيها من وصفهم حافظ في مقاله بـ«القواديين» ويغلب عليها ألفاظ «رواد الحانات وبيوت الدعارة، ثم انعقد لواؤها في النهاية للذين احترفوا —في مختلف العهود— كتابة التقارير لأجهزة المباحث. فخيالهم الذي تدرَّب طويلًا على اختلاق التقارير جعلهم أقدر من غيرهم في الاختلاق على عبد الناصر، وأكثر رواجًا وجاذبية»، يضيف حافظ وهو الكاتب الصحفي اليساري الذي قضى في سجون عبد الناصر نحو 8 سنوات لكن ذلك لم يمنعه من التحفظ على حملات الهجوم والتشكيك في ثورة يوليو ومشروعها وقائدها، وحاول خلال رئاسته لتحرير مجلة «روز اليوسف» أن يكون متوازنا وموضوعيا في تقييم التجربة ونقدها.

مع إعادة تدويرها بمناسبة وغير مناسبة خلال العقود التي أعقبت رحيل عبد الناصر، ترسخت الافتراءات والمطاعن التي تم إطلاقها والتأسيس لها في سبعينيات القرن الماضي للنيل من تجربة ثورة يوليو، حتى تحول بعضها مع الوقت إلى حقائق ثابتة ومعلومات موثقة لا تحتمل النقد والمراجعة.

قد تُفهم مبررات الإخوان ومن لف لفهم في الهجوم على يوليو وقائدها، وقد تُفهم أيضا منطلقات الأنظمة التي تعاقبت على حكم مصر بعد رحيل الرجل «الذي أتعب من بعده»، أما دوائر المصالح من رجال أعمال وإعلام وساسة فهؤلاء على دين حكامهم إن هاجموا عبد الناصر فهم في مقدمة المهاجمين وإن مجدوه فهم لفضله شاكرين مهللين.

ما يُستعصي على الفهم هو سقوط كُتاب وصحفيين مشهود لهم بالمهنية والمصداقية والنزاهة في هذا الفخ ومشاركتهم في حملات شيطنة الثورة التي نقلت عموم الشعب المصري من طبقة «عبيد الإحسان» إلى مرتبة أصحاب البلد، وكأن هؤلاء الكتاب أصابهم «داء يوليو»، تتأثر تحليلاتهم وتحرك نزعاتهم ما يمكن تسميته بـ«متلازمة عبد الناصر»، تنضح من يبن سطور مقالاتهم كراهية التجربة رغم أن بعضهم يعترف دون قصد بفضل الثورة وآثارها على حياته وحياة أهله.

كسلا أو عندا أو لأسباب لم تنشق عنها الصدور، يعلق من أصابهم «داء يوليو» كل ما لحق البلاد من إخفاقات وسقطات على شماعة عبد الناصر وثورته، يصرون على أن ما تمر به بلادنا من تردي هو من ارتدادات يوليو وتوابعها، فانهيار التعليم والصحة والزراعة والصناعة وانكماش الدور المصري في الإقليم ورهن الإرادة والقرار الوطني بتوجهات بعض القوى الإقليمية والدولية هو حصاد حكم «ضباط يوليو» الذين وضعوا أُسس وقواعد كل آفات الحكم والسياسة من تزوير الانتخابات وتكميم الأفواه والعصف بالحريات العامة والخاصة .. إلخ، بحسب وجهة نظر هؤلاء الكتاب.

لم يكتف هؤلاء بتحميل ما يجري في مصر إلى يوليو ومشروعها، بل ذهب بعضهم إلى أن انكسارات وهزائم الوطن العربي المتتالية وتفتيت بعض دوله وتسليم البعض الآخر إرادته وقراره وثرواته إلى أمريكا وإسرائيل هو أيضا من توابع يوليو، فلو عثرت بغلة في العراق فيسئل عنها عبد الناصر وثورته، هكذا بلغ الأمر ببعضهم.

ما يعلمه هؤلاء ويقره بعضهم وينكره البعض الآخر أن ثورة 23 يوليو كانت حتمية تاريخية، فالبلاد قبلها ولشهور طويلة كانت تعاني من اضطرابات وأزمة سياسة وحكم طاحنة.

كشف حريق القاهرة في 26 يناير 1952، عن أن مصر تقريبا لم تكن بها سلطة سياسية، انفلت زمام أمور الحكم والأحزاب والتنظيمات القائمة مجتمعة أو منفردة ولم يستطع أي منها التقاط طرف السلطة «الملقاة الطريحة التي كانت تبحث عمن يلتقطها»، بحسب تعبير المؤرخ والقاضي الراحل طارق البشري.

في كتابه «الديمقراطية ونظام 23 يوليو» تحدث البشري عن الفترة التي سبقت اندلاع الثورة والتي لوحظ فيها نمو تيار بين العناصر غير الحزبية يفتش عن «الرجل» «القائد» «الزعيم»، بل ينادي جهرة بالبحث عن «الديكتاتور» الذي تحتاجه مصر، وزاد هذا الاتجاه نموا بعد انكسار التنظيمات الشعبية الذي أعقب حريق القاهرة وحتى 23 يوليو 1952.

قيمة شهادة البشري ليس فقط لأنه مؤرخ له وزن، ولا لأنه قاض مشهود له بالنزاهة والاستقلالية، بل لأنه لا يمكن تصنيفه أبدا على معسكر يوليو ولم يعرف عنه أنه انتمى إلى التيار الناصري في أي مرحلة من مراحل حياته. أنصف الرجل الثورة واعتبر أن اندلاعها وتصدي الضباط الأحرار لمهمة إسقاط حكم أسرة محمد علي كان نتيجة طبيعية للانهيار الذي طال البلاد قبلها ولم تتمكن أي قوى سياسية وعلى رأسها الوفد من التعامل معه.

اعتبر البشري أن الإطاحة بالشريحة الاجتماعية والسياسية التي كانت تهيمن على مقادير البلاد قبل 1952، من أهم منجزات الثورة، «كانت تلك الشريحة من أخطر معوقات التطور الديمقراطي في مصر، بل بالعملية السياسية ذاتها».

«ما هي إلا شهور حتى انطلقت الثورة تحقق من الانتصارات الوطنية ما بلغ ذروته في تأميم قناة السويس والتصدي للعدوان الثلاثي وانتهاج سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، والسعي إلى الوحدة العربية وتبني سياسات وطنية واقتصادية مستقلة»، يقول البشري الذي انتقد أيضا في كتابه ثورة يوليو على غياب الديمقراطية.

لام البشري على ثورة يوليو أنها لم تنشئ تنظيما سياسيا وشعبيا له مقومات الوجود الذاتي المستمر، «أبقت جهاز الدولة وحده بعد تطهيره كجهاز سياسي وإدراي وحيد، تنجز به كافة مهامها السياسية والاجتماعية وغيرها»، مضيفا «قامت الثورة من داخل جهاز الحكم، واستمر جهاز الحكومة هو مؤسستها الوحيدة، وهو المؤسسة الوحيدة على نطاق المجتمع كله، به وحده خاضت كل معاركها، ما أنجزته وما تعثرت به».

ويرى البشري أن إخفاق حكام يوليو في تحقيق أحد أهم مبادئ الثورة وهو الديمقراطية كان له عواقب وخيمة «إذا كان كفاح الشعب المصري منذ سبعينيات القرن الـ19 قد أظهر أن الديمقراطية هي طريق تحقيق الاستقلال الوطني وإلاطاحة بالاحتلال، فإن هزيمة 5 يونيو قد كشفت أنه حتى ولو أمكن تحقيق الاستقلال بغير الديمقراطية، فإن الديمقرايطة السياسية لازمة للمحافظة على الاستقلال سواء في مجال السياسة أو الاقتصاد».

البشري شدد على أن دولة يوليو انتهت بعد رحيل قائدها: إن «دولة الخمسينيات والستينيات بما تشكله وما تمثله من نظم وأوضاع وسياسات اجتماعية واقتصادية قد طويت، وقد بدا لكثيرين عبر سنوات من السبعينيات أن ثمة استمرار وأن الأمر أمر تعديل وليس تغيير، ومن هؤلاء بعض من صفوة المثقفين والمفكرين السياسيين، وكان هذا استصحابا لأوضاع مع قبل مايو 1971 من الناحية التنظيمية لقد جرى العدول في السبعينيات بالأسلوب ذاته الذي كان يجري به التغيير من قبل من خلال مؤسسة الرئاسة كمؤسسة وحيدة تسيطر عليها قبضة واحدة».

ووصف البشري عبد الناصر بأنه «رمز للاستقلال وتحرير الإرادة الوطنية»، ويقول: «على مدى 18 عاما وهي فترة حكم جمال عبد الناصر تجلت إيجابياتها ليس بإجلاء المستعمر الإنجليزي فقط وليس برفض دخول مصر في تكتلات وأحلاف مع الدول الكبرى فقط ولكنها تجلت في تحرير الإرادة الوطنية، ذلك الطموح الشعبي لبناء مجتمع ناهض ومستقل».

ويرى أن مشروع الاستقلال الذي مثلته ثورة 23 يوليو يعد امتدادا لحركة «مصر للمصريين» التي تأسست في أواخر السبعينيات من القرن التاسع عشر وثورة عرابي ثم الحزب الوطني ومن بعده حزب الوفد، مؤكدا أن مسألة الاستقلال الوطني بالنسبة لعبد الناصر كانت هي «الأساس في كل سياساته وفي كل توجهاته السياسية والاقتصادية وغيرها ومنها توجهه بسياسة الدولة إلى مفهوم عدم الانحياز ومنها توجهه للعروبة وتوجهه للاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية في الداخل لتمصير الاقتصاد ثم تأميم وسائل الانتاج الرئيسية وإعداد خطط التنمية».

وختم البشري شهادته في كتابه بقوله: يمكن القول إنه عند عبد الناصر «في البدء كان الوطن» وما يبقى منه ومن دولته هو هذا الطموح إلى الاستقلال كمشروع للنهضة الوطنية، وهذه القضية هي التي أصبح بها عبد الناصر زعيما وليس حاكما.

ويمكن القول بإطمئنان، والحديث لايزال للبشري، أن مشروع الدولة المستقلة بآفاقها المتسعة الشاملة جوانب الاقتصاد والتطوير الاجتماعي تعود في قمتها الأولى إلى محمد علي ثم تعود في قمتها الثانية إلى عهد عبد الناصر.

انتهت شهادة البشري، وأرجو من أصدقائنا الكتاب الذين لا هم لهم إلا الهجوم على يوليو وقائدها أن يتحلوا بإنصاف القاضي المؤرخ وأن يذكروا للثورة ما لها وما عليها، وأن يعترفوا أن تجربة ومشروع عبد الناصر انتهى بوفاته وما بدأ بعده مشروع آخر بمحددات وقواعد أخرى، وأن يبحثوا لهم عن شماعة أخرى يعلقوا عليها ما يرون أنه فشل أو إخفاق.