عانى الاقتصاد السوري على مدار 11 عامًا من تبعات الصراع السياسي والعسكري، الذي دمر معه البنية التحتية، وحول بلدًا كان يعيش اكتفاءً ذاتيًا من الحبوب والطاقة، إلى مستورد يجاهد لتوفير العملة الصعبة.

الصراع الذي تجاوز العقد وامتدت أطرافه لتشمل جيوش 5 دول حاليًا: تركيا وإيران وروسيا وأمريكا وإسرائيل، سبب خفضًا في حجم النشاط الاقتصادي إلى النصف. مع توقعات بانكماش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 2.6٪ عام 2022.

وحاليًا، تعاني التعاملات الاقتصادية الخارجية لسوريا من تقييدات قوية تعوقها عن الاستيراد والتصدير. خاصة مع تفاقم الأزمة عالميًا وفي دول الجوار  لبنان وتركيا، إلى جانب فرض عقوبات أمريكية جديدة بموجب ما يُعرف بـ”قانون قيصر”.

 

ويحظر “قانون قيصر” التعامل مع جميع المصارف السورية، ويعاقب أي شركة أجنبية تتعامل معها. ورغم استثنائه الأغذية والأدوية نظريًا. لكن في الواقع يتم منع التحويلات المالية بشكل عام، ما يعيق وصول السلع بصرف النظر عن نوعية وطبيعة استخدامها.

قبل أيام، وأمام أزمة العملة الصعبة، خفض البنك المركزي السوري، سعر الصرف إلى 3015 ليرة للدولار. لكن سعر السوق السوداء المستخدمة على نطاق واسع بمعظم الأنشطة الاقتصادية والتجارية يبلغ نحو 4440 ليرة.

ولا يختلف الأمر كثيرًا على مستوى السياسة المالية أيضًا. فنسبة عجز الموازنة العامة للدولة هذا العام تقدر بنحو 31% مقارنة بنحو 29% عام 2021، مع دفع الحكومة إلى إعادة النظر في فلسفة الدعم، وإزالة أسر من قوائم المستحقين بدعوى أنهم ميسورين ماليًا.

الصراع يضيع الاكتفاء

دمرت الحرب أكثر من ثلثي موارد الاقتصاد السوري الذي كان مصنفًا قبل 2011 كواحد بين أكثر اقتصاديات الدول النامية تنوعًا. ويبلغ حجم الاقتصاد حاليًا نحو 20 مليار دولار مقابل 60 مليار دولار في 2010. إذ كانت سوريا تنتج 80% من احتياجاتها قبل 2011 وتصدر منتجاتها أكثر من 60 دولة حسب بيانات  المكتب المركزي السوري للإحصاء. كما كانت تنتج 450 ألف برميل يوميًا قبل الحرب، تكفى احتياجات السوق المحلية التي تستهلك 300 ألف برميل، ويصدر الباقي لأوروبا.

منذ 2011، سيطر المسلحون على معظم حقول النفط والغاز بشرقي البلاد، وبعدها سيطر عليها تنظيم داعش حتى عام 2017. ثم انتقلت السيطرة إلى قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وحليفتها واشنطن والتي تتهمها دمشق بالاتجار غير المشروع للنفط وتصديره عبر العراق.

امرأة تمشي في أحد شوارع أريحا بمحافظة إدلب ، 12 مارس 2020 (وكالات)
امرأة تمشي في أحد شوارع أريحا بمحافظة إدلب ، 12 مارس 2020 (وكالات)

واضطرت الحكومة السورية إلى استيراد نحو 3 ملايين برميل من النفط الخام شهريًا، غالبيتها من إيران بتكلفة 1.8 مليار دولار سنويًا ما مثل ضغطًا على الموازنة العامة للدولة.

وقد انعكست الأزمة الاقتصادية على توافر السلع بالأسواق، ليقفز التضخم السنوي إلى 90% عام 2021، مقابل 114% في 2020. ومع صدمة الحرب بأوكرانيا من المتوقع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود لمستوى أعلى.

وقفز مؤشر الحد الأدنى لأسعار مجموعة الغذاء بنسبة 97% خلال 2021، بالإضافة إلى زيادة بنسبة 236% في 2020، بسبب ارتفاع أسعار السلع الأساسية.

قبل الحرب الداخلية، تراوح إنتاج سوريا من الحبوب 4.5 مليون طن سنويًا. كما استقبلت 8 ملايين سائح عام 2010. لكن الوضع تغير خلال العقد الأخير، فعائدات السياحة توقفت، والحرب والجفاف أثرا على الإنتاج الزراعي حتى باتت دمشق تستورد من موسكو 1.5 مليون طن قمح.

ارتفاع معدلات الفقر

أظهرت بيانات برنامج الأغذية العالمي -في أحدث تقاريرها- أن 52% من الأسر السورية أبلغت عن عدم كفاية استهلاك الغذاء في فبراير/ شباط الماضي، وأصبح 75% من السوريين لا يستطيعون تلبية احتياجاتهم الأساسية. بينما يوجد 5.6 مليون لاجئ في البلدان المجاورة، و6.9 مليون نازح داخليًا.

وهوى معدل الأجر الشهري للعامل الذي كان يبلغ متوسطه 450 دولارًا قبل الأزمة إلى 35 دولارًا حاليًا. وبحسب برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة فإن 67% من السوريين بحاجة إلى مساعدات شهرية لمواجهة الجوع.

اقرأ أيضًا: سوريا.. تحولات إقليمية تقود لتعويم الأسد وتهيئ لدور مصري

في الوقت ذاته، ارتفع مؤشر الأسعار بشكل عنيف فسعر البيضة من 3 ليرات قبل الحرب إلى 300 ليرة حاليًا. كما تضاعفت أسعار الخبر 60 ضعفًا. وأصبحت الأسرة المكونة من خمسة أشخاص تحتاج إلى نحو ثلاثة ملايين ليرة شهريًا من أجل الطعام والشراب فقط، بحسب اقتصاديين سوريين.

يقول مدير مكتب الإحصاء المركزي السابق شفيق عربش، إن معدل الفقر بسوريا بلغ 90% بين عامي 2020 و2021، وفقًا لإحصائيات رسمية، لم تنشر نتائجها حكومة النظام السوري.

تؤكد الإحصائيات أن عدد المحتاجين إلى المساعدة في سوريا بلغ 14.6 مليونًا عام 2021، بزيادة 1.2 مليون عن 2020. ويُقدر من يعيشون في فقر مدقع بنحو الثلثين من بين 18 مليونًا يعيشون بسوريا حاليًا.

ويوجد خطر  آخر يتمثل في تحويل الجهات المانحة بعض المساعدات بعيدًا عن السوريين، وسط الانخفاض العالمي في تمويل الجهد الإنساني. الأمر الذي سيؤدي إلى تفاقم الحادة بالفعل انعدام الأمن الغذائي بالبلاد.

اضطرابات أعنف واقتصاد منهك

الركود الاقتصادي وتدهور الخدمات العامة قد يؤدي لزيادة الاضطرابات الاجتماعية. ومن المتوقع أن يعاني الحساب الجاري لسوريا عجزًا شديدًا بسبب اختلال الميزان التجاري، والذي يتم تعويضه جزئيًا بواسطة صافي تدفقات التحويل، لكن الأمر قد بتغير.

تسببت الأزمة المالية بلبنان في مشكلات مضاعفة لسوريا، التي كانت تعتمد عليها في كسر العقوبات، في ظل وجود ودائع وحسابات سورية كبيرة بالمصارف اللبنانية، تتراوح ما بين 10 و40 مليار دولار، وبعضها كانت مستخدمة من رجال الأعمال السوريين في تمويل وارداتهم.

الأزمات التي تعاني منها اقتصاديات المنطقة، تضيف ظلالاً ثقيلة على دمشق، وتهدد بتراجع التحويلات من العاملين بالخارج. وقد مثلت حادثة مرفأ بيروت ضربة موجعة لدمشق، فالقطاع الخاص السوري اعتمد من خلاله، على جلب الواردات، وتجارة الترانزيت.

كما تراجعت قوة العمل الشابة بسوريا وأصبحت القطاعات الإنتاجية تعتمد على كبار السن أو الأطفال. فالشباب يهاجرون بأي وسيلة للهروب من التجنيد أو بحثًا عن غد أفضل.

مستقبل محفوف بالمخاطر

وبحسب تقارير دولية، فإن خسائر الاقتصاد السوري بسبب الأزمة حتى نهاية عام 2014 بلغت نحو 202 مليار دولار، تعادل بالأسعار الثابتة 276% من الناتج المحلي الإجمالي للعام 2010. بينما تتحدث سوريا عن أنها خسرت نحو 107 مليارات دولار من عائدات النفط والغاز منذ عام 2011. ما أدى إلى مزيد من المشاكل الاقتصادية بالبلاد.

وفي مايو/أيار 2021، انخفض تدفق نهر الفرات بشمال شرق البلاد لأدنى مستوى له على الإطلاق. ما تسبب في أسوأ موجة جفاف منذ 1953، علاوة على تضرر قطاع الطاقة. فالنهر هو المصدر الرئيسي للمياه للزراعة والاستهلاك المنزلي، وسدود الفرات الثلاثة توفر حوالي 70٪ من الكهرباء المستهلكة بسوريا.

كما أن الانخفاض الكبير بمخزون المياه في سدود “الطبقة وتشرين والبعث” على نهر الفرات يهدد الإنتاج الزراعي لأكثر من 475 ألف فدان من الأراضي، وبالتالي فقد المزارعون المحليون 80% من محصولهم، الأمر الذي تجاوز 90% في بعض المحافظات.