ثمة شيء في مسلسل “وش وضهر” للمخرجة مريم أبو عوف، يذكرنا بزمن لم يكن الضابط فيه يجلس على الطرف الآخر من طاولة المخرج الأول ليشاركهما كتابة المسلسل، لذا يذكرنا أيضا بالفن في ذكائه، وهو يخبرنا عن النفس الإنسانية، ما لا تستطيع رؤيتنا المحدودة المحكومة بشروط الواقع الضيق، أن تراه، ففي النهاية أبطاله منتحل لصفة طبيب وراقصة تنتحل صفة ممرضة، وراقصة كل رغبتها هي العائلة والحب دون أن تدرك أن عدوها في ذلك هو الفقر الذي لا يغفر الأحلام، ومتعهد أفراح يملك حلما بأن يكون نجما، دون أن يملك من تلك النجومية سوى الموهبة الخام، لكن ينقصها الذكاء والمظهر وإدراك متطلبات الصراع في عالم النجومية الذي لا يرحم.

ثمة من منع الفرصة عن الجميع، ولم يترك لهم سوى تأليف الحكاية بأنفسهم.

يبحث أبطال المسلسل سواء في كذبتهم عن أنفسهم أو في تخيلهم الحالم عن فرصة ثانية. في حياتنا سيعطلنا حكمنا الأخلاقي المباشر، حكم الضابط والرقيب والكاهن داخلنا، أن نفهم، وسننفي أبطال المسلسل فورا من دائرة الحق في الحلم إلى دائرة الذنب، ولو تمكنا لن نتراجع قيد أنملة عن أن نخترع من أجلهم جحيما دنيويا، يسبق حتى جحيم الآخرة.

الضابط إذ يفهم المجرم لأن طبيعة عمله تقتضي ذلك، لا يدرك الإنسان فيه إذا ما عالجه الفن، يدرك الوجه دون الظهر ويظن العكس دائما، والكل في نظره مجرمون حتى يثبت العكس، لذا لم يكن دوره أبدا التدخل في الدراما، كما يحدث في مسلسلات رمضان في السنين الأخيرة، فلا نرى سوى دراما معلبة منقوصة وبلا روح، كل ما فيها مصنوع بحيث تنضبط مع رؤية لا تشبه الواقع، لكن اليوتوبيا في ذهن ضابط هي عالم خال من المذنبين، أناس ملائكيون، متشابهون كعجينة واحدة يمكن تشكيلها بمنطق الأسرة التي يرأسها رب عائلة يأمر فيطاع، لذا الضابط والفن لا يجتمعان. خاصة في مسلسل يدور حول مذنبين وحول الغفران والسؤال: ماذا لو كان بإمكاننا أن نكتب أنفسنا حكاية حياتنا وأن نتحكم في مقدراتها؟

لا حكم أخلاقي واحد من صناع المسلسل على عالم الراقصات مثلا، أو العامل في شركة أدوية الذي تنكر كطبيب أو الراقصة التي انتحلت كونها ممرضة، أو على العلاقة بين الراقصة والعازف ابن العوالم، لم يظهر مثلا كرجل مستغل يتلاعب بها، بل رجل خائف لا يملك وهو يصارع فقره، ويحلم بتخطيه عبر ضربة حظ أو موهبة، أن يتحمل مسئولية عائلة ستكبله أثناء محاولته لانتشال حياته، بل بدا عاشقا حقيقيا تمنعه الظروف لكنه يبر بوعده حتى بعد هزيمته وفشل أحلامه.

لا أطالبك عزيزي القارئ بأن تغفر لهؤلاء في الواقع، لا أطالبك بتغيير مرجعيتك الأخلاقية التي لا ترى منفذا لأحد، وتدين الجميع بلا استثناء إن لم يوافقوا مازورتك عن الحياة، فقط أسألك الاستمتاع بالهدنة التي يوفرها لنا الفن، أنا مثلك أيضا لدي أحكامي، فإن كنت سأتسامح في الواقع مثلا مع أغلب شخصيات المسلسل، لكني لن أسامح مثلا طبيبا قد يعالجني أو يعالج ابني، بينما هو ليس طبيبا، لأن مسائل الحياة والموت لا يمكن الغفران فيها. كل ما أفعله أن أذكرك أنك لست الضابط.

لكن الفن -وتلك عظمته- أوسع من أحكامنا النهائية في الواقع، الفن هو مفتاح فهم للعالم، لا يتاح لنا في حياتنا اليومية، وقد لا نملك رفاهيته، لكن وحده الفن سيمنحني تلك الفرصة لفهم الشخصية بمعزل عما تتطلبه الشروط الضيقة للعيش، لأفهم شيئا أوسع عن الإنسان، لأن ما يحكي عنه المسلسل ليس الانتحال، بل نظرة تأمل لمسارات حياتنا عندما تتعطل لأسباب خارج عن إرادتنا أو حتى في لحظات اخترنا فيها بشكل خاطئ. ألسنا جميعا قد روادنا ذلك الأمل؟ إصلاح ما فسد.

شخصيات المسلسل هاربون من الضابط والرقيب والمتدين المدعي، مثلنا تماما، متباهيا بحكمته وقد نسي الغرض منها، وقد مثل في شخصية أبي براء الذي لم يعد يتذكر إلا وهم تفوقه الأخلاقي ولا يجد غضاضة في إطلاق الأحكام أو التدخل في حياة الناس، يفعلها بأريحية كأنها الأمر الطبيعي، فالكل مدانون في نظره، حتى وهو يطعم الفقير مثلا، ينسى الغرض من المسألة، فتتحول من عمل بينه وبين ربه، إلى استعراض أمام الفقير وتملكا لحياته، لقد وفق المسلسل حين لم يحكم عليه هو الآخر، لكن جعل صوته حاضرا وعاليا كطنين ذبابة مزعج. لا تكتشف الشخصيات حقيقتها أو سبيل نجاتها الحقيقية إلا باختفائه.