كان ضمن آثار الحراك العمالي فقدان الاتحاد العام للعمال سيطرته واتساع الفجوة بينه وبين قطاعات عمالية على مستوى النقابات العامة والفرعية. وذلك بعدما تصاعدت وتيرة الاحتجاجات العمالية في العشرة أعوام الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك بسبب السياسات الاقتصادية التي انتهجها. والتي أدت إلى تغييب العدالة الاجتماعية. ولم تستطع النخبة الحاكمة آنذاك احتواء غضب العمال.
وأخذت الحركة العمالية تصعد مطالبها واحتجاجاتها. وكان 6 إبريل 2008 يمثل حدثا فارقا في تاريخ نضالها. حيث تحول إضراب عمال شركة غزل المحلة إلى انتفاضة عمالية شهدتها المدينة وامتدت حركة الاحتجاج للمحافظات.
وأعلنت قيادات عمالية تضامنها مع عمال المحلة. وضمن آثار الاحتجاج تحول شعار “الأجر العادل” إلى مطلب عام لكل العمال. كما رفع العمال شعار “حد أدنى للأجور” قدر حينها بمبلغ 1200 جنيه.
لماذا ظهرت النقابات المستقلة وما أدوارها؟
هذا الوضع المشار إليه مهد الطريق لخلق تنظيم بديل للعمال يمثلهم ويبرز مطالبهم. كبديل لاتحاد العمال الرسمي الذي خضع لسيطرة حكومية. وهنا ولدت كيانات نقابية مستقلة.
يقول المحامي والقيادي العمالي صابر بركات إن الأصل في تأسيس النقابات والانضمام إليها هو مبدأ “حُريّة الاختيار”. أي حق أعضائها في اختيار شكل مٌنظماتهم (هياكلها وبُنيانها). وتحديد لوائحها وسياستها وبرامج عملها واختيار قياداتها بغير تدخل. وذلك منذ تأسيسها وطوال فترة حياتها ووجودها وفي كل أعمالها.
ويضيف أن الاتحاد العام لعمال مصر خسر مصداقيته بالكامل بعد ثورة 25 يناير. بسبب صلاته بالنظام السابق ومواقفه ضد الثورة والمطالب العمالية.
نقابة العاملين بالضرائب العقارية الشرارة الأولى
أعقب إضراب غزل المحلة اعتصام موظفي الضرائب العقارية أمام مبنى مجلس الوزراء. وقاد كمال أبو عيطة الاحتجاج. وكان ضمن مطالب المعتصمين نقل تبعيتهم من وزارة الإدارة المحلية إلى وزارة المالية لتحسين أجورهم. وانتهي الاعتصام بالاستجابة لمطالبهم وتقنينها تشريعا بصدور قانون الضرائب العقارية رقم 196 لسنة 2008.
وأخذت قيادات الاعتصام على عاتقها تأسيس أول نقابة مستقلة عام 2009 للحفاظ على مكتسبات الموظفين والدفاع عن حقوقهم. وانتزع الموظفون الاعتراف بنقابتهم والتي انضم إليها 30 ألفا من أصل 50 ألف موظف. لتصبح نقابة الضرائب أولى التجارب المستقلة في هذا الشأن. وبعد عام تم تأسيس نقابة العاملين الفنيين بالرعاية الصحية ونقابة المعلمين. ليصبح هناك ثلاث كيانات مستقلة قبل ثورة يناير.
خريطة جديدة
تزايدت وتيرة تأسيس النقابات المستقلة بعد ثورة يناير والتي شارك فيها العمال بشكل ملحوظ. بل حضروا لها حسب دراسات عدة وبعد الثورة شكلت عدة اتحادات عمالية تنسق بين تلك الكيانات المستقلة. وكان ضمن خريطة التكتلات العمالية “الاتحاد المصري للنقابات المستقلة” و”اتحاد عمال مصر الديمقراطي” و”اتحاد عمال مصر الحر”.
وشهدت مرحلة ما بعد 2011 ظهور نقابات مستقلة. وقدم أحمد البرعي -الذي عُين وزيرا للقوى العاملة في 2011- “إعلان الحريات النقابية” في مارس/آذار 2011 الذي حاول تمهيد الطريق لرفع القيود القانونية المفروضة على حق العمال في التنظيم.
الحريات النقابية رهينة العداء
أعد وزير القوى العاملة الأسبق أحمد البرعي مشروع قانون للحريات النقابية. وذلك ليتناسب التشريع مع التطورات السياسية. وليتم تقنين الحياة النقابية وفقا للمستجدات بعد ثورة يناير. ومررت الأجهزة الرسمية تأسيس النقابات المستقلة ثم عادت لترفض وتعرقل تأسيسها والاعتراف بحقها في التنظيم.
تزامن ذلك مع إصدار المجلس العسكري مرسوما في 24 مارس/آذار 2011 يتضمن غرامة تصل إلى 50 ألف جنيه على كل من يشترك أو يشجع الاعتصام والإضراب. وسعى المجلس لتقويض تشكيل النقابات المستقلة وشل الحركة العمالية التي كانت قد أخذت في الاتساع.
وتصدر “الإخوان” وحلفاؤهم موقع السلطة التشريعية في 2012 ليصدر مشروع قانون الحريات النقابية. تلا ذلك حل البرلمان في يونيو/حزيران 2012. و مع انتخاب محمد مرسي رئيسا للجمهورية سعى للتفاوض مع صندوق النقد الدولي لاقتراض 4.8 مليار دولار.
فرض الصندوق شروطا اقتصاداية من ضمنها إعادة هيكلة الاقتصاد وتغيير السياسات المالية والنقدية. وخفض الدعم على السلع والخدمات. وهو ما استمر بعد ذلك مع رحيل الإخوان عن الحكم. ووصل الأمر إلى طلب تقويض للحركة العمالية والنقابية المستقلة وتقييد حركتها بما يسمح بتمرير القوانين والسياسات الاقتصادية التي تلبي شروط المؤسسات الدولية المانحة للقروض.
ثورة 30 يونيو التشديد والتضييق
بعد الإطاحة بحكم الإخوان في يونيو/حزيران 2013 وتولي حكومة حازم الببلاوي إدارة البلاد في المرحلة الانتقالية تولى كمال أبو عيطة وزارة القوى العاملة. إلا أن الوضع لم يتغير بالنسبة للكيانات المستقلة.
بعد انتهاء المرحلة الانتقالية بصياغة دستور جديد وانتخابات رئاسية وبرلمانية تولت حكومة إبراهيم محلب إدارة المشهد. واستهدفت السلطة التنفيذية النقابات والاتحادات المستقلة وسعت لضمها إلى مظلة الاتحاد العام لنقابات عمال مصر. بالإضافة إلى تشديد القبضة عليها والتضييق على حركتها المستقلة بكل السبل. بجانب توجه الحكومة إلى التفاوض لامتصاص الاحتجاجات دون طرح حلول عملية لتحقيق مطالب العمال.
في هذه الفترة قدمت منظمة العمل الدولية ملاحظات لمصر حول تقييد الحريات النقابية. وتزامن ذلك مع تفاوض الحكومة للاقتراض من صندوق النقد الدولي. وأظهرت الحكومة استعدادها لإقرار مشروع قانون جديد لتنظيم النقابات. وصدر فعليا القانون رقم 213 لسنة 2017. وبناء عليه أجريت أول انتخابات نقابية بعد الثورة.
يقول كمال عباس -منسق دار الخدمات النقابية والعمالية- إنه في 2012 تم إصدار إعلان الحريات النقابية وتأسست بموجبه نقابات مستقلة خارج إطار الاتحاد العام للعمال.
ويوضح “عباس” أن القانون القديم الذي يعود لعام 1976 كان ينص على اتحاد واحد لديه 3 مستويات تنظيمية بشكل هرمي. يبدأ من اللجان النقابية وصولا إلى الاتحاد العام. وتابع أن القانون الجديد جاء ليتلافى وضع مصر على القائمة السوداء للمرة الرابعة لأسباب بينها وجود تنظيم نقابي واحد بالمخالفة لقوانين منظمة العمل.
عوامل تعثر
عانت التنظيمات المستقلة منذ نشأتها من مشكلات كثيرة أثرت بشكل سلبي على أدائها وتحقيقها مطالب العمال. سواء المرتبطة بعلاقات العمل أو الحماية الاجتماعية والمطالب الاقتصادية. هذا بجانب التضييق الذي تمارسه السلطات التنفيذية على النقابات والاتحادات المستقلة.
إلى جانب ذلك هناك مشكلات ذاتية ضمنها أولا قصور الكفاءة المؤسسية في الإدارة. وثانيا ضعف الموارد المالية وثالثا غياب الديمقراطية وزيادة الصراعات الداخلية على المناصب القيادية داخل التنظيم النقابي المستقل.
وفي السياق وحول تحديات تواجه النقابات المستقلة يقول القيادي العمالي صابر بركات: “لا تملك النقابات الجديدة قدرات وخبرات الإدارة النقابية تنظيمياً ومالياً وجماهيرياً. ولا تقدر على مواجهة العداء للحرية النقابية وحدها. وإن تحملت في ذلك بعض المسئولية بسبب تأخرها في الانطلاق نحو بناء قدرات منظماتها. والابتعاد عن الصراعات والاحتكاك. ناهيك بمقاربة ممارسات فساد النقابات القديمة والتنافس عليها”.
كيف تُفعِل النقابات المستقلة دورها؟
في هذا السياق المرتبط بالتشريعات النقابية وسياسات رسمية وضعف هيكلي في بناء النقابات المستقلة لا يمكن أن تُفعِل النقابات المستقلة دورها إلا بعدد من الإجراءت. منها أولا تحسين قدرة وفاعلية التنظيمات النقابية المستقلة عبر إزاحة العقبات البيروقراطية وإتاحة الحرية لها في الحركة والتواصل مع قواعدها.
ثانيا -وضمن أبعاد ذاتية تخص النقابات نفسها- يجب أن تعزز النقابات المستقلة آليات التواصل والتنسيق الداخلي بما يسمح بخلق ممارسة ديمقراطية تمكّن أعضاءها من التعبير عن أنفسهم. ما يعزز الثقة والانتماء للتنظيم النقابي.
ثالثا -فيما يخص البرامج- يجب أن تصوغ النقابات مطالبها وتعمل مع باقي النقابات المستقلة على تحقيق الأهداف المشتركة.
وعن دور النقابات المستقلة وأهميتها يقول أحمد البرعي -وزير القوى العاملة السابق- إن عنصر التقدم الأساسي لأي بلد هو المواطن. وكل الدول الأوروبية التي بدأت الثورة الصناعية أدركت ذلك. وكلما كانت هذه الطبقة -العمال- مثقفة وتعليمها أكثر تطورا قدمت إنتاجا أفضل.
ويشير أستاذ التشريعات العمالية الدكتور أحمد البرعي إلى تأكيد المحكمة الدستورية العليا أهمية وجود عمل نقابي. وذلك بأنها تتوخى الدفاع عن مصالح أعضائها من العمال المنضمين إليها. وكذلك حماية حقوقهم المشروعة وتطوير أوضاع وشروط العمل والنهوض بثقافتهم وتطوير كفاءتهم المهنية وحثهم على دعم المال العام وحماية الإنتاج. فضلا عن رعايتهم صحيا واجتماعيا.
ما المكاسب من أدوار النقابات المستقلة؟
تسهم النقابات عموما في إتاحة فرص التنظم والتعبير. وهو ما يترجم النصوص الدستورية. كما تسهم في إقرار وتحسين منظومة حقوق الإنسان.
وتعد الحقوق العمالية واحدة من مقاييس المنظومة الحقوقية. وينعكس دور النقابات في إقرار سياسات عمل تحقق إنتاجية عالية نظرا لترسيخ سياسات وقواعد تلبي مطالب العمال. ما ينعكس على دورهم الإنتاجي. وكل ذلك يسهم في خلق بيئة عمل مناسبة -ليس للعمال وحسب- ولكن جاذبة لعمليات التصنيع عموما.
تشير منظمة العمل الدولية إلى أن الحوار المجتمعي أمر حيوي لمواجهة التحديات. على جانب آخر تمثل النقابات كإطار للحوار والتفاوض آلية لتسوية بعض المشكلات وتحقيق بعض المطالب ضمن آليات التفاوض بين أطراف العمل.