يكون الشعب قويا عندما تكون للقوانين قوة، هكذا قال الفليسوف بوبليليوس سيروس، وهذه المقولة إنما تعبر عن قيم القانون في داخل المجتمعات، حيث لا يوجد مجتمع بدون نظام، ولا يوجد نظام دونما قانون، ولا بدون سلطة عامة تطبق القواعد القانونية دونما فرقة بين المواطنين على نحو يجعل من القانون سيدا فوق الناس كافة، وقد أدركت المجتمعات البشرية منذ بداية ظهورها، وعلى مر العصور المختلفة، أهمية القانون لحياة الإنسان وضرورته لحفظ الأمن والنظام داخل المجتمع الذي يعيش فيه، وفي هذا القول المأثور أن: “مجتمع بدون قانون هو غابة بلا ضابط ولا رابط يلتهم فيها كبيرها صغيرها ولا يأمن فيها المرء على نفسه وماله وأهله”.

اقرأ أيضا.. عن القانون واحتياجات المجتمع

ومن هنا نستطيع أن نقول بأنه لا يكون للمجتمعات قيمة أو قوة دون وجود قواعد قانونية حقيقة تنظم سبل التعامل بين أفراد المجتمع وبعضهم البعض من ناحية، وبين السلطة وبين المواطنين من زاوية ثانية، إذن فالقواعد القانونية هي التي تنظم سبل العيش في داخل المجتمعات، حيث إن الإنسان لا يستطيع أو لا يمكنه الحياة بمفرده وبمعزل عن الآخرين، ذلك بحسبه كائنا اجتماعيا بطبيعته يحيا متفاعلا مع أفراد المجتمع الآخرين، وبالتالي لابد من وجود قواعد تنظم سبل الحياة بينهم وبعضهم البعض، وبينهم وبين السلطة الحاكمة لهم، كما أن قيام المجتمع على أسس من النظام يستلزم وجود تلك القواعد القانونية، التي تسعى إلى إقامة التوازن بين حقوق المواطنين والواجبات الملقاة عليهم، كما أن تلك القواعد القانونية تسعى إلى وجود حياة منظمة وهادئة بعيدة عن الفوضى التي كانت في المجتمعات القديمة.

إذن، فالقانون هو الوسيلة اللازمة لإقرار الأمن والنظام، كما أنه الوسيلة الضرورية لتحقيق التوافق بين الحقوق والمصالح المتضاربة، سواء بين المواطنين وبعضهم البعض أو بين المواطنين والسلطة الحاكمة، وذلك من أجل حماية سلامة الأفراد وممتلكاتهم والحفاظ على استقرار المجتمع ودوامه بشكل آمن. كما يعسى القانون إلى تحقيق العدالة والمساواة بين كافة طوائف المجتمع وكافة أفراده، ذلك بغض النظر عن منزلة المواطنين الاجتماعية أو مكانتهم أو وظيفتهم أو مدى ثرائهم وقوتهم الشخصية، حيث يجب أن تطبق قواعد القانون على المواطنين كافة دون أي تمييز، وهذا ما يضمن تحقيق الاستقرار المجتمعي والانسجام بين أفراد الجماعة.

ومن هنا تبدو القيمة العليا لوجود القانون أو النظم القانونية، هو تحقيق العدالة بين المواطنين، ولتحقيق تلك العدالة المنشودة لابد وأن تراعي النظم القانونية حين وضعها من قبل الهيئة الاجتماعية المنوط بها وضع قواعد القانون أن تبتغي في ذلك صالح الجماعة، ولا تحيد لتغليب فئة على فئة أخرى، وبمعنى أدق لابد في واضعي القوانين أن يتمتعوا بصفة الاستقلال وعدم الميل، بمعنى عدم خضوعهم لجهة ما أو لطائفة ما، إذ إن ذلك ما يسبب أن تكون النظم القانونية قد صممت لأغرض تحقق صالح الفئة الغالبة، وهو الأمر الذي يبعد بالقواعد القانونية عن أي مسميات للعدل.

وتدور فكرة القانون في فلك تحقيق مضمون الحق بمعناه الواسع، الذي يتسع ليشمل كافة أنواع الحقوق سواء كانت شخصية أو عمومية، فالقانون والحق يجب أن تكون هناك علاقة ترابط وتكامل بين هذين المصطلحين، فالقانون هو مجموعة من القواعد التي تنظم سلوك الفرد في المجتمع وفي علاقته مع غيره، أما الحق فهو الصلاحية التي يمنحها القانون لشخص ما، والتي تمكنه من الاستئثار بشيء معين في مواجهة الغير، فهنا يكمن التكامل بينهما لأن الحق هو نتاج للقانون، فالحقوق لا توجد ولا تحترم إلا في ظل القانون وبوجوده.

ومن هنا، فلابد من التركيز على كيفية صناعة القوانين، وعن الهيئة التي تقوم به، ومدى ضمان حياديتها وبعدها عن الخضوع لأية جهة فوقية تملي عليها ما يتناسب مع مصلحتها واحتياجاتها، لتصبه في صيغة قوالب تشريعية، وهذا الأمر ما لا يصب في خانة المصلحة المجتمعية، ولا يتماشى مع احتياجات المواطنين لتلك القواعد، وهذا الأمر من الممكن التعبير عنه بطريقة الصناعة الفوقية، وهي تلك الصناعة التشريعية التي تفرض على المواطنين دونما أية نقاشات أو احتياجات مجتمعية، وهي بالتالي تحول دون تحقيق فكرة العدالة، إذ إنها تسعى إلى تغليب مصلحة على مصلحة، ولا يكون الهدف من تلك النظم التشريعية تحقيق الاحتياجات المجتمعية في شكل قواعد تشريعية حقيقية تنظم تلك الاحتياجات، ذلك لكون القانون في أبسط مستوياته يتعلق بتخفيف حدة الصراع فى المجتمع.

عند وضع القوانين تحدد المجتمعات تحديدا دقيقا كل ما يدفع إلى الصراع وتعمل على تجريمه، بعض الأشياء واضحة –مثل القتل والسرقة– وقد أدرجت في قوانين تمتد من العصور القديمة حتى الآن. ومع ذلك، مع مرور الوقت وتغير المجتمعات، تتغير سلوكيات الناس وما كان مقبولا في الماضي لم يعد مقبولا والعكس صحيح، ولذلك تتكيف النظم القانونية بحيث يمكن أن توفر الوضوح والسياق للأعمال غير المقبولة. كما أنها توفر مبادئ توجيهية للعواقب المناسبة.

إذن ولهدف تحقيق الغاية المثلى من وجود القوانين، فلابد من أن يهدف صناعه إلى تحقيق تلك الغاية المتمثلة في العدل، والحفاظ على المكتسبات المجتمعية، وتنظيم العلاقات بين الأفراد والمحافظة على الممتكات والمكتسبات الخاصة والعامة، وهذا ما يضمن لنا التقدم والرقي والازدهار، أما إذا تغيا القانون وهيئته المتحكمة في صناعته هدفا أو غرضا دون تلك الأغراض، فلا قيمة حقيقية لتلك التشريعات سوى لدى المنتفعين منها والمستفيدين من وجودها.

ونجد من زاوية مغايرة أن القانون يعمل على توفير الظروف الملائمة للفرد في ممارسة نشاطه واستثمار وجوده في المجتمع لتحقيق مصالحة عن طريق مد جسور التعاون مع بقية أفراد المجتمع من خلال بناء العلاقات المتنوعة وتبادل المنافع عن طريق رسم وتوضيح نطاق العلاقات والمعاملات بين الأفراد، فالقانون يبين لكل فرد ماله من حقوق وحريات وما عليه من واجبات والتزامات تجاه المجتمع وأفراده، ولا يجيز لأي فرد تعدي حدود حقوقه وحرياته، ويلزمه بأداء واجباته وما عليه من التزامات تجاه المجتمع وأفراده، فهو ينظم أطراف العلاقة، ويسمح للجميع من تحقيق أهدافه ومصالحة دون أدنى تعارض، فلا يسمح لتداخل الحريات وجحد الالتزامات، ويمنع تعدي القوي على الضعيف، فقيام القانون ببيان حدود الحريات وأنشطة الأفراد وضمان نمط سلوكهم الاجتماعي، وإعمال الجزاء في من يمس بهذه الأسس من خلال السلطة العامة المختصة يحقق الطمأنينة والاستقرار لدى الأفراد والذي تنعكس نتيجته على المصلحة العامة للمجتمع فيتحقق الأمن والنظام في المجتمع وهذا يشجع الأفراد إلى الانصراف للممارسة نشاطهم وحرياتهم وتوطيد سبل التعاون بينهم.