في كل الأحاديث التي تتردد وتؤكد وجود صراع أجيال خطأ كبير لا يجب أن يستمر.
الأصل أن علاقة الأجيال ببعضها البعض تبقى علاقة تكامل لا صراع.

والمؤكد أن كل جيل مر على مصر أدى دوره بشكل أو آخر، لكن الحقيقة أن هناك قضية رئيسية تشغل كل جيل وتلهمه وتثير خياله وتستأثر بطموحاته لبلده ومستقبلها.
من جيل التحرير من الاستعمار ثم جيل تحرير الأرض في أكتوبر 1973 نهاية بجيل التغيير في يناير 2011 شهادة مؤكدة على تطور الوعي وتكامل وتواصل أجيال هذا البلد.

الاستقلال وحرية الوطن كانت هي القضية التي ألهمت أجيالا كاملة من الشعب المصري، والخلاص من الاحتلال وتحرير الإرادة الوطنية كانت هي القيم التي دفعت فيها أجيال مصرية كل صور التضحية والجهد والنضال، حرية الوطن واستقلاله لا مهادنة فيهما ولا مساومة، هكذا تعامل جيل “التحرير” مع القضية، وهكذا ألهمت الفكرة أجيالا من المصريين بكل صور الكفاح للخلاص من الاستعمار والسيطرة على ترابه وخيراته وأهله.

اقرأ أيضا.. العنف المجتمعي.. الفقر والاستبداد متهمان

في التاريخ الحديث رفعت أجيال من المصريين رايات النضال، ودافعت عن قضيتها الملهمة: الاستقلال. هؤلاء بدأوا كفاحا ضد الاستعمار من أول الثورة العرابية ضد الغزو البريطاني وبعد صدام مع حكام مصر الأتراك، وامتد إلى ثورات عظيمة سطرها المصريون بالدم دفاعا عن استقلال وطنهم وحريته، فكانت ثورة 1919 بقيادة الزعيم سعد زغلول، وانتفاضة المصريين المطالبة بالاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، والكفاح المسلح ضد القوات البريطانية في قناة السويس، والمشاركة في حرب فلسطين عام 1948 وصولا لتوقيع اتفاقية الجلاء عن مصر عام 1956.

لكل جيل قضية تلهمه وتدفع بكفاحه إلى الأمام، هده قاعدة مؤكدة أثبتها التاريخ.

وبنفس روح النضال المستمر تسلّمت الأجيال الأكبر الراية إلى أجيال شابة لتكمل النضال الوطني نحو وطن حر ومتقدم لكل أبنائه.

بهذه الحسابات فإن جيل التحرير من الاستعمار، ثم جيل تحرير الأرض في أكتوبر 1973 قد أدوا أدوارهم باقتدار، وواصلوا إلهامهم النبيل حتى سلموا أمانة الوطن للأجيال التالية محررا كريما.

أما ما بعد جيل التحرير فقد جاء جيل الدعوة للتغيير، جيل يناير 2011، وهو الجيل الذي درس واستوعب تاريخ مصر قبل أن تلهمه قضيته الخاصة والغائبة عن وطنه: الحرية.

بكل حساب صادق، فإن الحرية هي الإلهام الأكبر لجيل التغيير الذي ظهر في يناير 2011، صحيح إن الحرية في حد ذاتها تبقى قضية “نخبوية”، إلا أنها هي الهم الأكبر الذي يشغل “الكتلة الحرجة”، تلك التي تهتم بالشأن العام وتمارس العمل السياسي وترجو لوطنها مستقبلاً أفضل، وهذه الكتلة بالتأكيد هي التي تحرك المجتمع وتدفعه دفعا إلى الأمام، وتملأ الفراغ المخيف حينما نتحدث عن المستقبل.

الحرية في عرف الأجيال الجديدة- أجيال التغيير- هي الحق في التعبير والتفكير والاعتقاد والكتابة والإبداع والتظاهر السلمي وغيرها من صور الحريات العامة والشخصية، دون أن يتعرض أحد للسجن أو التضييق أو الملاحقات القضائية، ثم قبل هذا وبعده إيمان هذه الأجيال بحقها في اختيار من يحكمها دون فرض أو وصاية، ثم قدرتها على مساءلة من اختارته للحكم ومحاسبته سياسياً وعزله بصندوق الانتخابات في حالة فشله أو تقصيره، ثم إيمانها الراسخ بالحق في الكرامة الإنسانية، فلا يهين آدميتها مسئول أو صاحب منصب، فالمسئول دوره تطبيق القانون لا إهانة الإنسان.

إلهام الحرية بالنسبة للأجيال الجديدة من ناحية أخرى يصطدم بكل صور القمع والاستبداد والسيطرة على التفكير والتسلط على المجتمع، ولعل الحقيقة أن الحرية هي القيمة التي أضحت أكثر إلهاما لكل الشعوب في العالم، فصورة “الديكتاتور” الفرد، أو الزعيم الملهم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أو القائد الذي تمتلئ الميادين بتماثيله وهو يشير بيده للجماهير قد انكسرت وانهارت في عيون الأجيال الشابة، فقد قادهم وعيهم إلى الاعتقاد بأن الحاكم هو مجرد موظف عام يعمل لديهم لعدة سنوات، ثم يرحل ليستكمل غيره المسيرة بأصواتهم.

ولعل مظاهرات إيران الأخيرة التي بدأتها أجيال شابة -غالبيتهم من الفتيات- ضد حكم “الملالي” وحكومات “المرشد” هي المؤشر الكاشف لأن الحرية أضحت هي الإلهام الأعظم ليس في مصر فقط بل في العالم أجمع، فقد تسربت حالة التمرد على القديم وعلى الحكم الديكتاتوري ووصلت لأكثر النظم قمعية ورجعية وانغلاقا كما حدث في إيران.

بحسابات العقل فإن الأجيال الجديدة ستنتصر لقضيتها الملهمة كما انتصرت الأجيال التي سبقتها في قضية الاستقلال، الأهم أن يدرك كل من هم في السلطة أن الصدام مع أفكار الأجيال الجديدة هو مجرد وهم لن ينتصر، وأن التغيير هو الأصل، وأن الذكاء والحكمة يقتضيان احترام قيم التغيير والامتثال له، والابتعاد عن كل صور الدخول في صدام مع حركة التاريخ، فلا السجون يمكن أن تحرم كل الذين ألهمتهم الحرية من الحلم، ولا القمع يمكن أن يخيف الناس إلى الأبد.

بلا صدامات وبطريقة آمنة يمكن لمصر أن تنتقل إلى الحكم الديمقراطي، وإلى دولة الحرية والمواطنة والقانون واحترام حقوق الإنسان، وبنفس الطريقة يجب أن يدرك كل من في يده المسئولية أن تحقيق مطالب وأحلام الأجيال الجديدة، التي هي جزء من الحاضر وكل المستقبل، هو الأكثر أمنا لهذا البلد، وقبل كله هذا وبعده على الجميع أن يدرك أن الحكم على الطريقة القديمة قد سقط للأبد، وبات كل وقت لا نبدأ فيه فورا في الانتقال نحو الحكم المدني الديمقراطي مخصوما من عمر البلد، ومن إمكانية أن يسير على طريق التقدم الذي طال انتظاره، وعليهم في نفس الوقت إدراك أن العقد الاجتماعي القائم على توفير السلطة للطعام والاحتياجات الاجتماعية في مقابل الابتعاد عن السياسة والحكم انتهى ولن يعود، فالبلد تغيرت وأجيالها التي انفتحت على العالم بحضارته لا يمكن أن تقتنع بالحكم على طريقة قرن مضى.

بدون تحقيق أحلام أجيال التغيير في الحرية لا يمكن الرهان على تقدم في أي مجال، بل لا يمكن الحديث عن استقرار مجتمعي بينما أجياله التي تمثل المستقبل ترى أن حلمها سجينا وسط مأساة الحكم الفردي والاستبدادي، وقد آن الأوان أن يدرك الجميع أن الانتصار في قضية الحرية مؤكد وعلينا جميعا أن نتعاون ليصبح واقعا بأقل تكلفة ممكنة، وبأقصى نجاح ممكن.