أحاول هنا أن أُميّز بين “محمد بن عبد الله” الإنسان والقائد الذي يتحرى الحكمة ويشاور أهل الخبرة في كل قول أو فعل، ومحمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مبلّغ الرسالة والمعصوم بعصمة الله له، حتى تصل الرسالة كاملة إلى أصحابها، وحتى يتلو عليهم نبيهم آخر آياتها: {اليومَ أكملتُ لَكُم دِينَكُم وأتْمَمْتُ عليكمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلامَ دِينًا}. [المائدة:3]

اقرأ أيضا.. شيخ بلا عمامة.. “سعد الدين هلالي”

سوف أتوقف إزاء “محمد بن عبد الله” في مشهد من أجلّ المشاهد، لنقدمه ونتعلم منه، كما نتعلم من كل أصحاب الحكمة وقادة الأمم في الشرق والغرب، نتوقف إزاء طريقته المميزة في تعامله مع (أصحابه)، لنستخدم هنا وصف (أصدقائه)، وأنا أدرك ما بين الوصفين من فروق مُهمّة صعدت بالأول إلى مرتبة المصطلح الفقهيّ، ولكننا هنا نتحدث عن محمد في سياق إنساني خالص، ومن الأفضل أن ندخل إليه من هذا المدخل لنؤكد على بشرية التجربة وإمكانية تكرارها والاستفادة منها.

وقد يكون مفيدًا هنا أن نشير إلى وعي أصحاب النبي (أصدقائه) بهذين البعدين فيه، لقد كانوا يميزون بين محمد الإنسان ومحمد الرسول المعصوم؛ فيسأله رجل مثل “الحُبَاب بن المُنْذر” بعد أن رأى الجيش في موقعة “بدر” ينزل عند أدنى بئر من آبار ماء بدر: يا رسول الله! أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزله الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ – قال: “بل هو الرأي والحرب والمكيدة”.. فقال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله… إلخ

كان “الحباب بن المنذر” (رحمه الله) يُدرك الفرق بين ما هو إنسانيّ يمكن النقاش حوله، وما هو رسوليّ يجب اتباعه حتى لو لم تظهر لنا الحكمة منه، ولذا كان سؤاله الواضح قبل تقديم مشورته: “أمنزلًا أنزلكه الله”؟ فلما تيقن له أن هذا الاختيار ليس من أمر السماء بادر بتقديم مشورته التي أنصت إليها “محمد” ثم عمل بها، لتبدأ الوقائع الأولى لأهم معارك المسلمين وأخطرها في حياتهم، معركة بدر الكبرى (2 هجرية).

ولعلك لو تتبعت تفاصيل الغزوات كلها لتبينت وضوح هذه الرؤية من قِبَل النبي أولًا ومن قبل أصدقائه ثانيًا، فهم يتدخلون ويشيرون وهو يسمع وينصت، ولكنهم يتوقفون تمامًا عن النقاش ويسمعون ويطيعون حين يكون الأمر غير ذلك، ولنتذكر كيف حفروا هذا الخندق حول المدينة اتباعًا لفكرة طرحها “سلمان الفارسي” (رحمه الله)، ولكنهم يرجعون إلى أمره في صلح الحديبية على كُرْهٍ منهم، إيمانًا بأنه عبد الله ورسوله، وأن الله لن يضيع عبده ورسوله كما أخبر أبو بكر الصديق صديقَه عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما).

صورة تعبيرية للمسلمين في غزوة بدر

أما لو نظرت في الطريقة التي كان يتعامل بها مع أصدقائه وكيف كان يهديهم إلى كنوز أنفسهم، فيجلو لهم وللدنيا من بعدهم خير الصفات وآيات العبقرية، لقلت في نفسك: هذا جانب من جوانب العظمة في “محمد” لا ننتبه إليه بما يكفي؛ لقد كان معنيًا باكتشاف أصحابه وتقديمهم ليبروزا إلى جواره نجومًا مشرقة.. إنه يخلع عليهم الألقاب المميزة والصفات الدالة على جوهر كل منهم، وهو لا يفعل ذلك دون مناسبة ظاهرة أو دون سبب واضح، ولكنه يفعل ذلك في موقف مشهر، وعقب حدث كبير.. ولننظر كيف وَشّح صدر “أبي بكر” بهذا الوشاح الذي بات علامة عليه، حين لقَّبه بالصّدِّيق تأكيد على عمق إيمانه، وصفاء عقله ونفسه، كان ذلك –في أظهر الآراء- عقب حادثة الإسراء والمعراج، تلك الحادثة التي لم تزل -حتى اليوم- محطة فاصلة بين الإيمان والزيغ. لقد كان موقف أبي بكر رائعًا واستثنائيًا، حين استقبله أحد المشركين: أرأيت صاحبك؟ إنه يقول كذا وكذا.. فيرد أبو بكر باطمئنان وثقة: “إن كان قد قال فقد صدق”.. إن المسألة بالنسبة لأبي بكر مفروغٌ منها، ولا يشغله إلا صحة نسبة الكلام إلى محمد فحسب..!

ومنذ هذه اللحظة سيتقدم لقب “أبي بكر” على اسمه، وسيغلب معنى التصديق على فعله وقوله، سيكون هاديًا وحازمًا وقاطعًا في مواقف الاضطراب والقلق بفضل هذا الصدق الواعي بطبيعة الرسالة وموقع محمد منها، دعني أذكرك مثلًا بوقفته الصّادقة بعد وفاة النبيّ (عليه السلام) حين قام في الناس متحدثًا بهذه القولة الخالدة: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت.!

انظر كيف اتسع مفهوم الصدق، وكيف هيمن على قسمات عقله وروحه، فردّ الناس إلى أنفسهم وإلى دينهم وإلى واقعهم..! وقل الأمر نفسه عن موقفه الصّارم مما عرف بحروب الرِّدة أو حروب مانعي الزّكاة.

ولعلك تتذكر هذا الموقف الشهير الذي وشّح فيه محمد صديقه “عمر بن الخطاب” بلقب الفاروق، كان ذلك باكرًا جدًا، وعقب إسلام عمر مباشرة؛ فقد جهر المسلمون -بفضل جسارته- بصلاتهم لأول مرة أمام الكفار دون خوف أو وَجَل، حتى قال قائلهم “ما زلنا أعِزّةً منذ أسلم عمر”. (صحيح البخاري 3684)

لقد كان عمر حاسمًا في رفض الاستخفاء بالحق أمام الباطل، وهنا لقبه النبي الكريم بـ”الفاروق” ولعلك إذا تتبعت سيرته المباركة منذ ذلك التاريخ وحتى وفاته لوجدت هذا الوشاح الكريم في كل فعل وقول يقوم به، إنه موجود دائمًا بإشراقة عقله وصفاء نفسه، يزيل الالتباس ويفضّ الاشتباك بين الحقّ والباطل والإيمان والزَّيغ، وظاهر النص والمقصد منه.

والأمثلة على هذا المعنى يصعب حصرها في مقال كهذا، ولذا سأكتفي هنا بهذا الوشاح الذي وشّح به “محمد” صدر صديقه “خالد بن الوليد” حين طوّقه بهذا اللقب العجيب: “سيف الله المسلول”..!

كان ذلك عقب تنظيم ابن الوليد أعظم خطة انسحاب في ذلك الوقت، بعد أن استشهد قادة غزوة مؤتة (8 هجرية) الذين عينهم رسول الله تباعًا، واختار الجند خالدًا لقيادة الجيش المنهك والمحاصر بأضعاف عدده من الروم، وهنا أيقن القائد العسكري النابغة أن خسارته مؤكدة، وأن أفضل ما يمكن عمله هو تنظيم خطة انسحاب تحفظ ما بقي معه من جند المسلمين، وقد كان.. وفي هذا الظرف الاستثنائي يدرك محمد جوهر هذا الرجل وسر امتيازه وتفرده، فيخلع عليه هذا اللقب المدهش، ليقود خالد بعدها الجيوش ويضع الخطط تلو الخطط، ولا يرحل عن دنيانا إلا بعد أن أسهم بأعلى سهم في تقويض ملك الروم في الشام، وملك الفرس في العراق..!

أرأيت كيف كان محمد يعامل أصدقاءه؟!

إنه لا يخلع عليهم الأوسمة على سبيل المجاملة، وما أكثر المجاملة بين الأصدقاء..! ولكن “محمدًا” يأبى أن يجامل فيبتذل اللغة ويفرغ الوشاح من معناه، لقد كان يفعل ذلك في سياقات دالة وكاشفة عن نفوس هؤلاء الرجال، إنه يختار اللحظة المناسبة التي تبرز فيها مواهبهم، فيلتقطها بخبرة وحكمة وبصيرة، ويصوغ لها وسامها الذي يليق بها، فيتعرف أصدقاؤه على أنفسهم من خلال نظرته وعمق تشخيصه.. ومع الوقت تزدهر هذه المواهب، فتغدو علامة على أصحابها ويغدون علامة عليها.

كان محمد قائدًا استثنائيًا. كان مبشرًا وهاديًا، إنه يمنحنا أعظم درس في إدارة البشر، وما أحوجنا إلى مثله اليوم وغدا.. وخلاصة هذا الدرس: أن القائد العظيم لا يخشى أصحابه، لأنه لا يفكر في نفسه بقدر ما يفكر في أمته وفي دعوته، ولذا فهو يُقرّب منه أصحاب المواهب والهمم العالية، ولا يترك هذه المواهب دون رعاية حتى تؤتي ثمارها… القائد العظيم لا يرضيه أن تنتشر فكرته فحسب، وإنما يرضيه أن تستمر من بعده، ولن تستمر دون قادة في كل مجال من مجالات الحياة.. وها هو محمد يرحل إلى ربه، وها هم صحابته الأكارم يردون الناس إلى الحق والعدل، ويزودون عن دعوته.. لا يوجد فراغ هنا، على عظمة الراحل وقسوة الحدث على نفوس أصدقائه.

لقد ترك محمد من بعده عشرات القادة الذين يمكن للناس أن يختاروا منهم من يقودهم ويتقدم بهم.. وهذا ما كان.. !

وما هي إلا سنوات قليلة، حتى يستوي العرب أمة ناهضة لها إنجازها الكبير في حضارة الإنسان على هذه الأرض..!

ومن خير الكلام، قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم، عزيزٌ عليه ما عَنِتُّمْ، حَريصٌ عَلَيْكُمْ، بالمُؤْمنينَ رءوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]