تواجه الدولة المصرية أزمة اقتصاد غير مسبوقة إثر تعرضها لصدمات عالمية متتالية بدأت من جائحة كورونا لتتعمق مع الحرب الروسية-الأوكرانية. ما زاد الديون ومعدلات التضخم وفاقم أزمة العملة المحلية أمام الدولار والعملات الأخرى. 

وقد دعت الدولة المصرية لمؤتمر اقتصادي ينعقد في نهايات شهر أكتوبر/تشرين الأول الجاري. وذلك لبناء تصورات وحلول للخروج من الأزمة التي تلقي بظلال كثيفة على المستوى المعيشي للمواطنين.

ويطرح هذا الملف -الذي يصدر ضمن ملفات خاصة تصدر عن موقع “مصر 360”- رؤى متنوعة لخبراء يشخصون الأزمة الاقتصادية. فضلا عن مقترحات لكتاب رأي نشروا مقالاتهم حول الموضوع ذاته. كما تربط هذه الرؤى بين أزمات الاقتصاد والسياسة والحوار الوطني الراهن في ظل ترابط عملية الإصلاح الاقتصادي مع نظيره السياسي.

للاطلاع على الملف كاملا اضغط :

توزيع أكثر عدلا لعوائد التنمية الاقتصادية

يقول الكاتب الصحفي حسين عبد الغني إن مصر تحتاج مع هذه الأزمة المركبة إلى مؤتمر وطني شامل يضم كل العقول والمراكز البحثية المصرية في الاقتصاد السياسي والسياسة والبحوث الاجتماعية. وذلك للوقوف على أبعاد تلك الأزمة وإنجاز هدفين. الأول: التوصل إلى استراتيجيات طويلة المدى لإعادة هيكلة الاقتصاد المصري في اتجاه اقتصاد تنمية مستقلة يجعل إسهام القطاعات الإنتاجية -خاصة الصناعة- أكبر بكثير من القطاعات غير الإنتاجية المتصفة في طبيعتها بأنها سريعة التأثر هبوطا وصعودا بالمتغيرات الخارجية وما يتبعها من دورات التحسن والتدهور والتضخم والانكماش المتكررة في الاقتصاد المصري. على أن تضمن تلك الاستراتيجية عملية توزيع أكثر عدلا وإنصافا لعوائد هذه التنمية. تضمن معدلا محترما للادخار والاستثمار الوطني وترشيد الاستهلاك ومنع الإسراف السفيه. فيكون عاملا من عوامل التنمية المستدامة وعبور برزخ التخلف.

وقال إن الأزمة باختصار تتعدى بوضوح مستوى الاقتصاد بأكمله إلى مستوى الأمن القومي الشامل. من زاوية دورها الحاسم في تحديد مصير الاستقرار السياسي في هذا البلد على المدى المنظور. وفي الضغط على قدرته في الحفاظ على مكتسباته التي حققها في السنوات الماضية في دفع خطر الإرهاب إلى أدنى مستوياته. وعدم السماح لظروف الأزمة وصعوباتها على الناس بأن تخلق مناخا قلقا يعود فيه الإسلام السياسي الكامن حاليا إلى قيادة الشارع المأزوم مرة أخرى. وعدم السماح أيضا لأطراف إقليمية تتربص بمياه مصر أو بدورها الإقليمي في انتهاز ما يجري لتحقيق مكاسب على حساب وطننا.

وتابع أنه آن لصناع القرار الاقتصادي ألا يقفوا محشورين في زاوية رؤية واحدة وقد أفسحها الله والعلم عليهم وعلينا. وقد اتضح أيضًا أن تكرار سياسات مدرسة التفكير السائدة لم تقُدنا لتنمية مستدامة ولم تقدنا إلى تساقط ثمار التنمية على جميع المواطنين. بل خلقت آلية جهنمية لتركز الثروة في يد أقل من 10% من السكان من السكان وداخل هؤلاء الأقلية يتمتع 1% بالنصيب الأكبر من هذه الآلية لتركز الثروة. وهي طبقة مستهلكة وتنشر قيم الاستهلاك. فصرنا من أقل البلدان ادخارا على المستوى الوطني. وهذا الادخار هو قاطرة التنمية الأهم قبل الاستثمارات الأجنبية وقبل القروض الخارجية.

لو كنت رئيسا للمؤتمر الاقتصادي

وتحت العنوان السابق كتب السفير السابق والقانوني أيمن زين الدين أن هذا المؤتمر ربما يكون طوق نجاة لمصر من أزمتها الاقتصادية. وفرصة لفتح آفاق أرحب لتطوير مشروع التنمية الاقتصادية بشكل أعم. والذي لا يؤدي فقط إلى الارتقاء بأحوال المواطنين والوطن وإنما أيضًا هو الذي يحصن الاقتصاد من تكرار مثل هذه الأزمات ويجنبه آثارها في حالة حدوثها.

لكن المؤتمر يحقق هدفًا آخر لا يقل أهمية -بحسب “زين الدين”- وهو بناء قدر أوسع من التوافق الوطني حول السياسات الاقتصادية. وبالتالي قدرة أكبر على التحمل والتضحية على أساس من الاقتناع والرضا. وليس الاضطرار وقلة الحيلة. ويضع هذا عبئا ضخمًا ومسئولية جسيمة على المؤتمر وبوجه خاص على مَن سيكلف برئاسته وتنظيم أعماله.

ولكي يقوم النقاش خلال المؤتمر المقبل على أساس موحد ودقيق فهناك ضرورة لتوافر أقصى مساحة ممكنة من الشفافية. وإتاحة كاملة للبيانات الاقتصادية الرسمية. بحيث يتمكن المتحاورون من بناء أفكارهم واقتراحاتهم على أسس سليمة. والابتعاد عن الأفكار التي لا تعكس الواقع بشكل كافٍ.

واتصالا بالنقطة السابقة، وفي ضوء ما هو متوقع من المشاركين ينبغي الاستعداد من الآن لتقديم خريطة متكاملة عن الشركات والمشروعات المملوكة لمؤسسات تابعة للدولة. خاصة المسجلة كمشروعات خاصة. بما فيها قوائمها المالية.

كما أنه من الحكمة الاستعداد لمختلف الاحتمالات في التعامل مع هذا الملف. بما في ذلك نقل ملكيتها سواء إلى القطاع الخاص أو القطاع العام. لتخضع للنظام القانوني المستقر لأي من هذين القطاعين بعيدًا عن الأوضاع الاستثنائية التي تزعزع الثقة بعدالة المنافسة وتعرقل الاستثمار.

(للاطلاع على الملف كاملا اضغط هنا)

سياسة التقشف ونمو التضخم

يقول الخبير الاقتصادي مدحت نافع إنه لا يجوز أن تتجه الدولة إلى التقشف لعلاج التضخم إذا كان ذلك التضخم مشفوعا في الأساس بأزمة في العرض لا في الطلب.

ويضيف أن أزمة العرض ناتجة ربما عن ضعف النشاط الإنتاجي الذي ينخفض معه المعروض السلعي عن الطلب. فترتفع أسعار ذلك المعروض كنتيجة طبيعية لآليات عمل العرض والطلب.

من هنا يتسبب التقشف في تفاقم الأزمة ومثله سياسات التشديد النقدي للبنك المركزي برفع أسعار الفائدة لامتصاص فائض السيولة وكبح التضخم. فكلاهما يستهدف العرَض التضخمي دون نظر إلى المرض الإنتاجي على مستوى الاقتصاد الحقيقي.

وتابع أن التقشف والتشديد يتسببان في مزيد من التضخم عبر تغذية ركود النشاط الاقتصادي. إما بتخفيض الإنفاق المحفز للإنتاج والمثبّط للطلب الفعّال (المدعوم بالقوى الشرائية) أو بتثبيط الاستثمار برفع تكلفة الاقتراض التي تنعكس على تكلفة إقامة المشروعات وتوسعها.

وحذر “نافع” الحكومات السابقة -وتحديدا وزيرة التعاون الدولي- من الاقتراض لمجرد أننا نستطيع الاقتراض. وطالب أن نستبدل هذا بمبدأ الاقتراض لأننا نستطيع السداد.

فإذا ما أضفنا ذلك إلى القاعدة الذهبية التي وردت ببعض التحليلات المتخصصة والتي مفادها الاقتراض من أجل الاستثمار لا الاستهلاك وسداد الأجور. تلك التي تشير الأدبيات إلى أنها اخترقت منذ عام 2005 في ظل ظرف سياسي مشحون. ورغبة في اكتساب التأييد الشعبي على حساب قاعدة هامة لم تتغير على مدى قرون. اليوم يشير السيد وزير المالية إلى أنه قد صدم في الأموال الساخنة. وهذا دليل جديد على أن الإنصات إلى الآراء المخالفة مبكرا هو أمر شديد الأهمية.

البنك المركزي
البنك المركزي

اقتصاد الحرب

كثيرا ما تتردد عبارة اقتصاد الحرب في وقت الأزمات الكبرى للاقتصاد.

ويشير “اقتصاد الحرب” في تعريفه المجرد إلى مجموعة من إجراءات الطوارئ التي تتخذها الدولة لتعبئة اقتصادها للإنتاج
خلال فترة الحرب. لكن مفهومه اتسع ليضمن التدابير التي
تتخذها الدولة خلال الأزمات كي يصمد اقتصادها خلال هذه الظروف الاستثنائية. وذلك عبر اعتماد نظام إنتاجي يعمل على توفير الموارد الاقتصادية لضمان استمرارية التماسك على المستوى الداخلي المدني.

إن تطبيق “اقتصاديات الحرب” يتضمن تدخلا قويًا من الدولة في الاقتصاد. أو بمعنى آخر ركن الاقتصاد الحر على الأرفف
لمعالجة النقص في سلع أساسية. إضافة إلى تثبيت الأسعار
وفرض الرقابة التموينية المشددة. فضلا عن تقنين بعض المواد الأساسية من السلع الاستهلاكية الأخرى فتعمل الدولة على توزيعها بموجب البطاقة التموينية.

الخبير الاقتصادي أيمن فودة يقول إن المجموعة الاقتصادية في عزلة عن المستثمرين. فالبورصة تتراجع منذ 2018. وهناك أسهم فقدت 80% من قيمتها وعندما تصعد 10% يتم إيقاف العمليات. ما يمثل مشكلة لأي مستثمر أجنبي. خاصة في ظل وجود أسواق منافسة قوية مثل دبي التي حققت من مارس 2020 إلى اليوم ارتفاعا بنحو 200%. بينما البورصة المصرية فشلت في الوصول إلى معدلات ما قبل كورونا.

التعايش والرقابة معا

مشكلة الأسواق الناشئة ليست في ارتفاع الفائدة الأمريكية فقط. لكنها سلسلة مترابطة ومتوالية من ارتفاع أسعار الطاقة والأغذية والسلع وانخفاض قيمة العملات أمام الدولار. فضلا عن ارتفاع العوائد على السندات الأمريكية وارتفاع تكلفة التمويل وتذبذب أسعار الذهب وتغيير خطة الاستثمار في أدوات الدين في الأسواق الناشئة -بحسب الخبير المالي أحمد العطيفي.
ويضيف أن الآمال معقودة في مصر على عوائد الغاز و
عودة السياحة وارتفاع عوائد قناة السويس. التي ارتفعت متأثرة ليس بالتجارة ولكن بالرسوم الجديدة على ناقلات الغاز. لكن الجنيه المصري سيتأثر طبعًا مثله مثل كل العملات رغم أنه استبق الحدث عند ارتفاع الفائدة سابقًا. لكن دون جدال البنك المركزي يملك أكثر من سيناريو في مرونة سعر الصرف. ما يعني أننا قد نرى انخفاضًا وارتفاعًا وتذبذبا في سعر الصرف. بمعنى أنه لا يوجد استقرار حاليًا حتى تضح الرؤية نسبيًا.

مولد الحوار

عادة ما يستخدم المصريون لفظ “المولد” -بحسب الكاتب هشام جعفر- للتعبير عن الاحتفاء الوقتي الذي سرعان ما ينفض. فهو احتفال وفرح وسرور لكنه سرعان ما ينتهي بعد الليلة الختامية التي تكون قمة الفرح. ولكن ميزة الموالد في مصر أنها تكاد تكون مكونا أساسيا من مكونات الثقافة الشعبية. فما أن ينقضي واحد حتى يجري الشروع في الاستعداد لآخر في عملية مستمرة طوال
العام.

على ما يبدو أن هذا النهج قد صار أحد مكونات ممارسة السياسة في بر مصر. وبغض النظر عن رأي المتشككين في جديته فإنه يثبت أن الطريقة التي أديرت بها البلاد والعباد -على مدار السنوات القليلة الماضية- تحتاج إلى تغيير جذري. وأننا يجب أن ندرك أن السياسة هي تعبير عن التعددية التي تأخذ شكل تدافع سلمي بين أصحاب المصلحة والفئات الاجتماعية في المجتمع. ولا تأخذ بأي حال شكل عالم خالٍ من المصالح المتضاربة أو الحلول المتعددة للمشكلات الملحة. أو عالم تكون فيه السياسات العامة الرئيسية -المحلية والدولية- مسألة تتعلق بالأسرار الإمبراطورية -أسرار الدولة- وليست محلا للجدل العام أو المداولات.

سياسات ضد الأولويات

فيما يقول الكاتب الصحفي عمرو بدر إن مصر في أزمة اقتصادية كبرى نتيجة سياسات افتقدت طوال السنوات الماضية للأولويات. وبددت أموالا طائلة على مشروعات لم تكن ذات أهمية قصوى لشعب يعاني من الفقر والغلاء والبطالة.

وأضاف: “استمرت سياسة السلطة الحالية في العمل دون دراسات جدوى. ولم تقتنع بضرورة وجود مشروعات إنتاجية توفر فرص العمل وتؤمّن فرص التصدير وجلب العملة الصعبة لتفتح آفاقا لمستقبل أفضل”. متابعا: “في ذروة أزمة اقتصادية شديدة كانت مساحات الاستبداد تتوسع وسجناء الرأي يزيدون عددا يوما بعد الآخر. ليستمر إهدار الأموال على الأمن السياسي بديلا عن توفير هذ الأموال في مشروعات أو خدمات يحتاج إليها المواطن أكثر من أي وقت مضى”.

وطالب “بدر” بـ”إعادة مراجعة المشروعات الكبرى بالكامل والتوقف ولو مؤقتا عن استمرار المشروعات التي أنفقت المليارات. على أن يتم توجيه هذه الأموال إلى مشروعات أكثر أهمية وحيوية. مشروعات منتجة يحتاج إليها البلد بشدة لتساعد في إنعاش الاقتصاد وتوفير فرص عمل”.

وقف الاستدانة وإطلاق الحريات

كما طالب بالعودة إلى النص الدستوري الذي يلزم الدولة التوسع في الإنفاق على الصحة والتعليم. فهذا هو الاستثمار الحقيقي
للمستقبل. ولو أراد البلد أن ينهض فليس عليه أكثر من
الإنفاق على مواطن يحصل على تعليم جيد يناسب العصر الذي نعيشه. ومواطن سليم صحيا يستطيع أن يعمل وينتج ولا يخاف من المرض والاحتياج. فضلا عن التوقف بشكل فوري عن القروض والاستدانة. وإطلاق طاقات المجتمع لتشارك في صناعة القرار عبر إنهاء التسلط والحصار وإطلاق حريات الرأي والتعبير والصحافة والبحث العلمي والأكاديمي. والسماح بدور فاعل للأحزاب والجمعيات والمراكز البحثية وضمان حق القوى الحية في
طرح الرؤى والبرامج والبدائل ليستفيد المجتمع من مؤهلات وتخصصات أبنائه.

ويلفت الكاتب حسام مؤنس إلى أن الحوار الوطني لن يكتسب مصداقية كافية وجدية حقيقية لدى القطاعات الأوسع من المجتمع إذا لم ينتج آثارا تمس الحياة اليومية للمواطنين وتواجه موجات الغلاء المتتالية. وهو ما يحتاج إلى تفكير جاد وعميق ومدروس أيضا لما يمكن أن يطرح بشكل عاجل وسريع في نقاشات هذا الحوار. ودون انتظار لنهاية جلساته ومحاوره. على أن يسهم في تخفيف آثار الأزمة الحالية بإجراءات جادة ترقى لمستوى العدالة الاجتماعية ولا تتوقف عند حدود إجراءات الحماية الاجتماعية. وربما يكون ذلك فاتحة خير وبداية طريق مختلف يفتح آفاقا أوسع لما يمكن طرحه من حلول في مواجهة أوضاعنا الاقتصادية الراهنة.