المعاني الرئيسية التي احتواها مقال “عبد الناصر ليس أسطورة” لم تنل من الرئيس الراحل بقدر ما وجهت سهامها إلى الذين يحاولون استخدام اسمه في معركة تكريس مواقعهم في السلطة، وتمرير سياساتهم تحت أعلام ناصرية، وأذكر الأستاذ هيكل وهو يجيب على سؤالي: ماذا لو أنك وأنور السادات كنتما في الجانب الخاسر يوم 13 مايو سنة 1971؟، ما هي النتائج التي تتصورها لو أن هذا حدث؟

كانت إجابته مطولة لكنه ظل يؤكد على أن أكثر شيء كانت البلد مرشحة له هو حرب أهلية، وقال: “كنت أكاد أرى ألسنة نيرانها عند الأفق، وأتصور أن مصر كانت ستُحكم بالحديد والنار، وأشد الأساليب البوليسية بطشا وجورا، وكان كل ذلك سيتم تحت أعلام ناصرية، وخلف صورة جمال عبد الناصر، وأعتقد أن مصر تحت حكم هؤلاء كانت مرشحة للسقوط بطريقة غير كريمة في قبضة الاتحاد السوفيتي”.

كان مقال “الأسطورة” يقصد على وجه التحديد الذين واجهوا المقال من جماعة الاتحاد الاشتراكي خاصة المجموعة التي كان يقودها السيد علي صبري، وقد وجدوها فرصة سانحة لتحجيم دور هيكل على أقل تقدير، وإضعاف تأثيره على صناعة القرار بقربه من الرئيس السادات.

**

ولا شك أن متابعة ما يجري فوق ساحة السلطة في ذلك الوقت تؤدي بنا إلى القول –مطمئنين- أن مقال “عبد الناصر ليس أسطورة” تعمد فيه هيكل أن يضرب على الوتر الذي يريده السادات، وكان من شأن ذلك أن يقف السادات حائلا دون النيل منه وقد كان ذلك ممكنا.

كان السادات قد قرر أن يستخدم ما جرى في اجتماع اللجنة التنفيذية العليا الذي أراد محاكمة هيكل على المقال، بغرض توسيع الهوة بين الجميع، فأطلع هيكل على ما دار في الاجتماع، وذكر له ما قاله كل الأعضاء، وإمعانا في تزكية الخصومة بين هيكل واللجنة التنفيذية قال له في نهاية المكالمة: “روح لسامي اسمع الشريط عنده”.

وختم السادات مكالمته مع هيكل بقوله: سوف أدعوك لحضور اجتماع اللجنة العليا لتدافع عن نفسك؟

**

فكرة استدعاء هيكل إلى أعلى اجتماع سياسي في البلد من دون منصب رسمي في الدولة أزعجت أعضاء اللجنة العليا الذين عارضوا الفكرة من أساسها باعتبار أنها تقليد غير سليم، وأنه ليس من المعتاد استدعاء كل رئيس تحرير أو كاتب مقال لمناقشته حول ما يكتب.

ضياء داود (وكان هو العضو المكلف بالإشراف على الإعلام والصحافة من اللجنة التنفيذية) ذكَّر السادات بأن الاتحاد الاشتراكي هو مالك الصحف، وأنه يكفي أن تناقش اللجنة ما عرض عليها وتتخذ بشأنه ما تراه ويبلغ هيكل بقرارها.

واقتنع السادات أكثر بخطته، حين وجد ممانعة كبيرة، وفرض حضور هيكل اجتماع اللجنة التنفيذية العليا التي كانت قد بدأت في محاكمة مقاله.

**

لم يكن هيكل يأمن جانب المجموعة، ومن ناحيته التقط السادات الفرصة التي كان يتحينها، أراد أن يضم هيكل إلى جانبه بشكل كامل، وأن يوسع الهوة بينه وبين الآخرين، وألا يترك مجالا لأحد لكي ينزع منه ورقة هيكل القوية التأثير.

وأراد -وهذا هو المهم بالنسبة له- أن يفرض أسلوبا جديدا في التعامل معه هو شخصيًا، فخطورة أن ينفرد بإحضار هيكل إلى اجتماع على هذا المستوى هو نوع من تفريغ هذا الاجتماع نفسه من قيمته التي يحاول أعضاؤه إعطاءها إياه.

يقول على صبري: “فوجئنا بـأنه اصطحب معه هيكل، وطلب منا الإذن له بالحضور ليدافع عن نفسه أمام اللجنة”، وقال السادات: “أنا لا أقبل أن يتهم واحد من أقرب الناس إلى جمال عبد الناصر بدون أن نعطيه فرصة الدفاع عن نفسه”.

وإزاء المركز الخاص لهيكل -كما يقول ضياء داود- والذي يستمده في نظر الناس من قدرته الفائقة على الكتابة، وحجم المعلومات والأسرار التي تتوافر لديه من خلال عمق صلته بالسلطة فقد قبلت اللجنة اقتراح السادات بمناقشته.

وكسب السادات أول معاركه، وقبلت اللجنة بعد أن وضعها السادات أمام الأمر الواقع، وضغط على زر جرس ليدخل أحد الموظفين فيقول له الرئيس السادات: “استدعوا الأستاذ هيكل”.

**

كان هيكل ينتظر في صالون مجاور، ودخل وطلب إليه السادات أن يجلس في الطرف الآخر من منضدة الاجتماع، وبدأ السادات يتحدث فقال:

-“سمعنا من الدكتور لبيب شقير في الجلسة الماضية شرحًا لمقال الأستاذ هيكل، انتهى بطلب اتخاذ إجراء ضده، وأريدكم أن تعرفوا من الآن أسلوبي، إنني لن أتخذ قرارًا ضد أي إنسان إلا بعد أن يُواجه ويدافع عن نفسه”.

وتوجه السادات ناحية الدكتور لبيب شقير قائلا: “اتفضل يا دكتور لبيب اشرح ما أثرته في الجلسة الماضية حتى يسمع الأستاذ هيكل الاتهام الموجه إليه ويدافع عن نفسه”.

وكان لوجود هيكل أثر كبير في خفض درجة حرارة الحديث عن الاتهامات الموجهة إليه، كما أنه أغاظ الحاضرين جميعا كونه سابقة لم تحدث من قبل، وبدأ الدكتور شقير في توجيه بعض الأسئلة إلى هيكل، ولكن السادات قاطعه محتدا:” لا ليس من حقك أن توجه الأسئلة، اللجنة الآن هي الحكم، ثم تسمع دفاعه ثم تتخذ القرار.

**

بداية غير موفقة أمام الذين حاولوا محاكمة هيكل. ولم يكن عرض الدكتور لبيب شقير لقضيته موفقا هو الآخر عكس ما أبداه في الجلسة الماضية من استعداد وتحضير لقضيته التي يبدو أنه خسرها لحظة وجود هيكل في الجلسة.

وتكلم هيكل، ودافع عن نفسه وقال إنه كان اللصيق بجمال عبد الناصر والأقرب إليه فكرًا وشخصًا وأنه من حقه أن يتكلم عنه بهذه الصفة.

وبدا أن هيكل هو الذي استعد هذه المرة.

كان منطقه قويًا ودعم أقواله بأوراق ووقائع ثابتة أشهد عليها بعض الحضور، وتحدث عن وصية عبد الناصر بأن يكون هو الذي يكتب تاريخ ثورة يوليو وعبد الناصر بعد رحيله، واستشهد على ذلك بلقاء ضمه مع السادات وعلي صبري وحسين الشافعي، وفي حين وافقه السادات على ما رواه، وأمَّن على استشهاده، بينما أشار الشافعي إلى أنه لا يذكر الواقعة، إلا أن علي صبري نفى الواقعة، وقال إنها لم تحدث على الأقل في حضوره.

**

وانصرف هيكل غاضبا، وكانت حباله قد قُطعت مع اللجنة وأعضائها المتنفذين.

وسأل السادات الحاضرين: “والآن، بعد أن استمعتم إلى وجهتي النظر، ما رأيكم؟، وتداخلت الكلمات، وسأل ضياء داود السادات:

-“هل يعني ما حدث الآن، إنه إذا نسب أي اتهام لأي صحفي أو لأي رئيس تحرير أن يُستدعى على هذا المستوى لمناقشته، مثلا هل إذا كتب موسى صبري مقالا سوف نستدعيه هنا لمناقشته؟

ملاحظة على الهامش:

كان هذا السؤال هو الأكثر إيلاما لمحمد حسنين هيكل، أن يوضع اسمه في مقارنة مع اسم موسى صبري، وعندما التقى مع ضياء الدين داود عاتبه، وأظهر له استياءه الشديد من هذه المقارنة وهو يردد أمامه قول الشاعر:

ألَمْ تَرَ أنَّ السَّيْفَ يَنقصُ قدْرُهُ…. إذا قيل إنَّ السيفَ أمضى من العصا

**

استمر الاجتماع بعد مغادرة هيكل، وبادر علي صبري بالحديث، وقال ضمن ما قال:

-“بصفتي كنت واحدا من أقرب الناس إلى عبد الناصر، وبالتالي إلى الثورة في مراحلها المختلفة، فإني أؤكد أنه لا يوجد شخص واحد بمفرده يستطيع أن يدون آراء ووقائع كل خطوة خطتها الثورة، وأشار إلى أن هناك أجزاء يعرفها البعض، وتخفى على البعض الآخر، والعكس صحيح، وقال: “وإني أقرر أن هناك من الأمور ما أعرفه بالقطع عن فكر عبد الناصر لا يعرفها هيكل، لذلك فإني أقترح ألا يكتب أي شيء عن فكر عبد الناصر مستقبلا قبل أن يعرض على اللجنة العليا أو من يمثلها من لجان تشكل لهذا الغرض”.

وسأل ضياء الدين داود السادات: “هل نعتبر مقالات هيكل تعبيرا عن فكر الدولة ورأس النظام أم الرأي الرسمي أم أنها مجرد اجتهاد شخصي لكاتبها؟

وكان هيكل قد وصف نفسه أمامهم بأنه المتحدث باسم الدولة، ولم يجب السادات بشكل مباشر على سؤال داود، ولكنه أشار إلى أن “الأهرام باعتبارها صحيفة لها سمعتها وانتشارها فإن الدولة أحيانا تنشر من خلالها مواضيع منسوبة لمصدر رسمي أو ما شابه ذلك.

وبدأ السادات يتململ من كثرة المجادلة. كان قد أحس أنه حقق ما يريد، وقرر أن يمضي في الشوط إلى نهايته، وقال وكأنه يلقي الكلمة الأخيرة: “بصراحة الذين يثيرون البلبلة واللغط حول مقال هيكل هم العيال بتوع الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الشباب”.

وكلمة من هنا، وكلمة من هناك، كانت المناقشة استوفت المقصود منها، ولم يعد هناك جديدا يُقال، وأنهى السادات الجلسة قائلا: إذن الأمر منته طالما ليس هناك اتهام بالخيانة. وأعلن رفع الجلسة، وهو في قمة الثقة بالنفس. ولعلها المرة الأولى التي يشعر فيها بهذا الإحساس منذ توليه رئاسة الجمهورية.

**

حقق السادات كل ما يريد، واشتعلت الخصومة بين هيكل والآخرين، وظهر هو في صورة الذي لا يحكم على أحد إلا بعد إعطائه فرصة الدفاع عن نفسه، وأفشل مخطط الآخرين في تلقين هيكل درسا، ودفع هيكل إلى موقع التحالف معه، وأثبت أنه قادر على حمايته من محاولات المساس به، ثم أنه أثبت لنفسه وللآخرين أنه قادر على الحركة بنجاح وسط تناقضات يؤججها ويزيدها نارها اشتعالا.

ولا شك في أن المتابعة الدقيقة لتواجد هيكل على ساحة إعادة ترتيب النفوذ عند القمة ستسفر عن أنه كان يعمل بدأبٍ وبصبر وبذكاء شديد على أكثر من محور وأبقى -في كل الظروف- على اتصاله بالوقائع، وبالأشخاص، لا تفوته منها واقعة، ولا يفوت عليه إشارة يرسلها البعض، تفيد في فهم الاتجاهات، وقد كانت تلك اللحظة، تحوي الكثير من الإشارات وتذخر بزحام من الاتجاهات.

كان قد انحاز مبكرا لأنور السادات. سمعتها منه في مكتبه. وسمعها منه، ونقلها عنه الكثيرون، وتكاد تكون بألفاظها نفسها، كأنه يحفظها من كثرة ما رددها:

-“لو عاد بي الزمن مرة أخرى، إلى ما كنا فيه في أعقاب رحيل عبد الناصر، فسوف أقف الموقف نفسه الذي اتخذته في ذلك الوقت لأن الصراع عندئذ كان بين أطراف ليس أسوأهم أنور السادات. وكان يقول كنت مخيرا بين الانحياز إلى الجهالة أو السفالة.

**

زاوية النظر في تلك الفترة إذا أخذنا جانب السادات فإن هيكل يكون قد عبر عنها بأفضل صورة في هذا مقال “الأسطورة”، فالسادات الرئيس الضعيف الذي يحيط به أشخاص أقوياء بمواقعهم المركزية في الدولة التي يرأسها، وبظهورهم الفج على صورة الورثة الحقيقيين لعبد الناصر.

كان يدفع نصف عمره لقاء من يقول علنا أن هؤلاء ليسوا هم الورثة الحقيقيين، أو على الأقل ليسوا وحدهم، ثم إن الخلاف العلني معهم بهذه الصورة من شخص بحجم هيكل وثقله وموقعه من عبد الناصر يدفع بالكرة في ملعب السادات، وهو الذي كان يبدو في ذلك الوقت ممنوعا من أن يُقدم على اتخاذ قرارات كبرى.

**

أهم النتائج المباشرة للمقال أنه أفرز هيكل أكثر فأكثر إلى جانب السادات في مواجهة جماعة الاتحاد الاشتراكي، واستطاع السادات -بذكاء المتآمر- أن يوسع الفجوات بين أصحاب النفوذ من حوله حتى يتسع له هامش الحركة الحرة منفردًا.

وفي حوار مع الأستاذ محمد فائق وزير الإعلام وقتها قال لي إنه “لا يشك في أن السادات عمل على إقناع هيكل بأن مجموعة معينة في الحكم تريد به شرا”.

وأشار فائق إلى الكيفية التي تعامل بها السادات مع مقالة هيكل، وأكد أن السادات كان يلعب على هيكل لعبة توسيع هوة الخلافات بينه وبين بعض المسئولين قبل 15 مايو لكي يضمنه إلى جانبه، وأشار إلى أن السادات كان دائما يقول: “أنا نفسي في ثلاثة بس، شعراوي وسامي وهيكل”.

**

اللافت أن هيكل لم يذكر وقائع مقال الأسطورة فيما بعد كثيرًا، لأنه يدرك أن المقال كان عزفًا على وتر أراد السادات أن يسمع نغماته وخاصة إذا كان العازف بمهارة واحد مثل هيكل.

أستطاع هيكل أن ينزع من أعداء السادات فضلًا ينسبونه إلى أنفسهم باعتبارهم الأمناء الحصريين على تراث عبد الناصر، وأنهم الخلفاء والصحابة الذين يتقدمون باسمه ويفسرون نيابة عنه، وأن يرضي السادات وكانوا ينزعون منه الصفات التي منحوها لأنفسهم، والأهم أنه استحوذ على حق الأمانة على تراث الرجل ومسيرته.

واللافت أيضًا أنه مع تسليمنا بصحة تخوف الأستاذ هيكل -المبكر- من أن يتعمد البعض من أنصار عبد الناصر أن يرفعوه فوق مقام الأسطورة، ورغم ذلك يبدو أنه أغفل تحذير البعض من مريديه من أن يصروا على رفعه إلى مقام الأسطورة.!

**