منذ أيام شاهدت مجموعة من الصور لزيارة قام بها وزير التربية والتعليم الجديد لعدد من المدارس الحكومية، كانت الصور مشابهة لكل زيارات المسئولين الحكوميين لأي مكان، المدرسة تم تزيينها بالكامل والجميع يرتدي أفضل ما لديه من ملابس، الطلاب يجلسون في انتظام.
في سبتمبر من عام 2019 قام مجموعة من أعضاء المجلس القومي لحقوق الإنسان بالإضافة إلى مجموعة من رجال الصحافة والإعلام بزيارة إلى منطقة سجون طرة. حظيت الزيارة بتغطية إعلامية واسعة، كما حظيت باهتمام كبير من جانب المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك لما بدا خلال الزيارة من المظاهر التي لا يمكن أن يصدق عقل أنها من داخل السجون، وكانت صورة الشيف في زيه الأبيض أثناء إعداده لوجبة “الكباب” الأكثر شهرة واستفزازا للجماهير.
تزامنت الزيارة مع حملة اعتقال واسعة شملت سياسيين بارزين وصحفيين ومدافعين عن حقوق الإنسان، وهو ما زاد من حالة الاحتقان عبر وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصا مع تكرار شكاوى المحبوسين من سوء المعاملة وتردي أوضاع السجون وازدحام أماكن الاحتجاز، فقد كانت مشاهد بيض النعام وثلاجات المياه الغازية والشيكولاتة غير مناسبة لكل ما نعرفه عن سجون مصر.
بعد أسابيع من تلك الزيارة، تحولت من موقعي كمتابع لأوضاع السجون إلى نزيل بأحد سجون منطقة طرة، هناك استطعت أن أرى حقيقة أوضاع السجون بعيدا عن الروايات المتضاربة بين التقارير الحقوقية المستندة إلى شهادات محبوسين، والزيارات الرسمية التي تصور السجون وكأنها فنادق.
في الحقيقة فإن أوضاع السجون تختلف تماما من سجن لآخر، كما أنها تختلف من غرفة احتجاز لأخرى داخل نفس السجن، بل والأغرب أنها تختلف داخل الغرفة الواحدة من سجين لآخر، أوضاع المسجونين تتفاوت بين الروايات شديدة القسوة التي تم رصدها في عدة تقارير حقوقية وبين الصورة الرسمية، وكلاهما صحيح، هناك بداخل السجون من يفترش الأرض ويعاني من سوء المعاملة وممنوع من الخروج خارج حدود زنزانته بالشهور والسنوات، ويتغذى على ما يقدمه السجن من غذاء رسمي، ولا يملك من الملابس سوى زوجين من بزات السجن الرسمية، بينما يعيش آخرون في غرف أكثر نظافة، يسمح لهم بالزيارة وبدخول المأكولات والمشروبات والملابس والكتب، كما يسمح لهم بشراء وجبات الطعام من مطعم السجن وشراء الكماليات من مناديل ومنظفات وشيكولاتة ومياه غازية، وزنزانته مؤثثة بثلاجة وسخان وفرن كهربائي وتلفزيون وراديو وكرسي وطاولة، ويتلقى رعاية طبية ملائمة.
بين هذين النموذجين يتفاوت نزلاء السجون، كل فرد يختلف وضعه عن الآخر، وقد أتاحت لي التجرية أن أعاين النموذجين وما بينهما من نماذج وأن أعايشهم.
تحديد وضع السجين بين هذه النماذج تتدخل عدة جهات في تحديده، فالنيابة تحدد السجن المناسب للمتهم، وحسب رغبة النيابة تحصل على أول نطاق للتمييز بين السجون المختلفة، بداخل السجن تتولى إدارة السجن تحديد موقعك داخل النطاق التمييزي الثاني والثالث، ويتم ذلك وفقا لمعايير كثيرة يضعها الضباط المسئولون.
في الحقيقة ملف السجون ملف شائك ومعقد للغاية، ولا يمكن حله عبر التشريعات وحدها، فإن إلزام إدارة السجن بتطبيق اللوائح بشكل كامل هو أمر شبه مستحيل، فإن الطريقة الأسهل دائما هي الرد على الشكاوى بردود مكررة، والتجهيز للزيارات الرسمية عبر تهذيب الحدائق وتزيين المكاتب.
دائما ما يكون الحفاظ على حياة السجناء ومنع المخالفات حجة إدارة السجن للتضييق على النزلاء وحرمانهم من حقوقهم، لمنع تداول المخدرات ومصادرة ما يمكن أن يتم استخدامه كسلاح أثناء الشجار بين النزلاء، وهو ما يبدو مفهوما تماما للسلطات العليا والنيابة العامة، كما أنها تتناسب مع استراتيجية الدولة عموما باعتبار أن الأمن يعلو على الحقوق وهو ما يكون داخل السجن أكثر وضوحا.
الحل الوحيد لفك عقدة هذا الملف هو فتح مساحة لحوار حقيقي بين القائمين على السجون سواء من الداخلية أو النيابة العامة، والمهتمين بالملف من المدافعين عن حقوق الإنسان، والمجلس القومي لحقوق الإنسان، حول تعديل وتفعيل لائحة السجون وكيفية تنفيذ الجزء المتعلق بحقوق السجناء داخل الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، كما يجب أن يشمل الحوار عدد ممن تم الافراج عنهم، فقد خاضوا التجربة وعايشوها وهم أدرى بها من الطرفين، حتى يكون الحوار مجديا وأن يتم التوصل إلى إجراءات قابلة للتطبيق، أتمنى أن تتم إتاحة هذه المساحة داخل إحدى جلسات الحوار الوطني.
وأن يكون الحوار بهدف الوصول إلى حلول فعالة، عبر طرح الأزمة على حقيقتها بعيدا عن التهويل والتهوين، كما تراعي الحلول التوازن بين رغبة جهات إنفاذ القانون في السيطرة على السجن وحزم الإجراءات وبين حقوق السجناء في ألا تتحول عقوبته من مجرد تقييد الحرية إلى حزمة من العقوبات المتعددة والانتهاكات الواسعة.
كما يجب أن يشمل الحوار عددا ممن تم الإفراج عنهم، فقد خاضوا التجربة وعاينوها وهم أدرى بها من الطرفين، حتى يكون الحوار مجديا وأن يتم التوصل إلى إجراءات قابلة للتطبيق.