منذ أيام قررت “أوبك+” التي تضم في عضويتها 23 دولة من ضمنها 13 دولة تشغل عضوية منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك”. وهي السعودية والبحرين وإيران والجزائر والجابون وأنجولا والعراق وليبيا والكويت ونيجيريا وفنزويلا وغينيا الاستوائية وجمهورية الكونغو الديمقراطية. إلى جوار عشر دول من خارج منظمة أوبك. وهي روسيا وأذربيجان والبحرين وكازاخستان وسلطنة عُمان وسلطنة بروناي والمكسيك والسودان وجنوب السودان وماليزيا. قررت “أوبك+” خفض معدل الإنتاج اليومي من النفط بمعدل 2 مليون برميل.

كان خفض الإنتاج متوقعًا بنحو نصف مليون برميل يوميًا بسبب تدني الأسعار إلى ما يقرب من التسعين دولارًا للبرميل الواحد. بعدما كان قد تجاوز المائة وعشرين دولارًا منذ أشهر معدودة. لكن الخفض اليومي بمقدار 2 مليون برميل لم يكن متوقَعًا على الإطلاق.

المثير في قرار “أوبك+” هو أنه قد سبق زمنيًا عملية انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي ستحل بعد أسابيع قليلة وسط انهيار ملموس في شعبية الرئيس بايدن سيزيد من تدهورها ارتفاع أسعار النفط المتوقعة بسبب خفض حجم إنتاج “أوبك+”.

وهنا تتعين الإشارة إلى أن اعتماد أمريكا على ما يُستَورد من النفط للاستهلاك المحلي لا يُشَكِل نسبة عالية. لكن مشكلتها في هذا الخصوص تكمن في أمرين اثنين:

أولًا سيزيد ذلك من تعميق النزيف الاقتصادي لحلفاء أمريكا في أوروبا والعالم ممن لا غنى لهم عن استيراد النفط بالأسعار الجديدة التي سترتفع بدفعٍ من قرار “أوبك+” الأخير. خصوصًا بعدما زادت أسعار الغاز الطبيعي لنقص إمداداته جراء الأزمة الأوكرانية. وهو ما سيقتضي من أمريكا تقديم مزيد من الدعم لهؤلاء الحلفاء. بما سيعود بالسلب على مَالِيتِها المُرهَقة بالأساس. وثانيا لأن النفط يباع داخل أمريكا بالأسعار العالمية المرتفعة. بما يعنى زيادة في معدل التضخم الذي كان الاحتياطي الفيدرالي قد نجح -بِقَدْرٍ ما- في خفضه في الآونة الأخيرة. وهو ما سيؤثر في قرار الناخبين الأمريكيين الذين سيلعب الحزب الجمهوري على متاعِبِهم وآلامهم ليحصل على أصواتهم في انتخابات التجديد النصفي.

نكأت أزمة “أوبك+” جراحًا أمريكية تاريخية حيث أَخَلَّت بمعادلة التوازن الاستراتيجي التي دشنها الثعلب العجوز “هنري كيسنجر” بعد حرب أكتوبر 1973 التي يجدر بنا -في هذه الأيام- بذل الدعوات بالرحمة دون حصر ولا عدد لأرواح شهدائها ومن سبقهم ومن لحق بهم في صراعنا مع إسرائيل.

تأسست معادلة التوازن الاستراتيجي تلك على فِكرةٍ مؤداها أن هناك ضرورة لتحويل نفط الشرق الأوسط إلى مجرد سلعة يتم التعاطي معها كأداة اقتصادية فقط للحيلولة دون تكرار استغلالها في أي معارك سياسية مُقبلة بعد المُعاناة البالغة التي تسبب فيها حظر تصدير النفط أثناء حرب أكتوبر. والذي استُخدِم كورقة عربية للضغط لأجل تحقيق مركز حاسم في الحرب للبدء في تفاهمات لتسوية عادلة للقضية الفلسطينية ولاسترداد باقي الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل.

قام الثعلب العجوز بتطوير تلك الفكرة في إجراءات محددة تتضمن -في أهمها- الإمساك بزمام عملية البحث عن حل لأزمة الشرق الأوسط اتباعًا لسياسة “الخطوة-خطوة”. والقبول بزيادات أسعار النفط مع العمل على امتصاص الفوائض المتولدة عنها لتدويرها بالبنوك الأمريكية. وتشجيع الأموال العربية على أنماط استهلاكية تهدر الثروة ولا تحفظها*.

لاحِقًا وعندما شعرت الولايات المتحدة الأمريكية أن الرئيس العراقي صدام حسين سيخل بمعادلة التوازن الاستراتيجي تلك ضربته ثلاث مرات. مرةً من خلال الزج به في حرب مع إيران في 1980. وثانيةً في دَفعِه لغزو الكويت في 1990. وثالثةً عندما قضت على نظامه قضاءً مُبرمًا بغزوها العراق في 2003.

مرت سنوات وسنوات تغيرت فيها أحوال العالم لكن بقيت مصادر الطاقة هي المُحرك المحوري للأحداث. وكيف لا وتلك المصادر هي أساس العملية الاقتصادية التي تُشَيدُ عليها دعائم الإمبراطوريات؟ طرح الغاز الطبيعي نفسه إلى جوار النفط كواحد من أهم مصادر الطاقة على مستوى استهلاك الأفراد والمصانع. إلا أنه قد فات على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها إجراء عملية “تأمين” للغاز الطبيعي كما فعل الثعلب العجوز بعد حرب أكتوبر 1973 بتأمينه النفط كمصدر وحيد للطاقة حينها. فما أن كانت الأزمة الأوكرانية وما تبعها من أحداث إلا وقد حدث انكشافٌ مُشابهٌ في جوهره مُختلفٌ في صورته لما حدث في 1973.

شرعت مراكز الأبحاث الأمريكية في إعداد دراساتٍ لاحِقةٍ إثر اندلاع الأزمة الأوكرانية بحثًا عن حلول لإحداث توازنٍ عام تستعيد من بعده قُدرة الهيمنة على العالم في ظل ظروف استثنائية تتجلى تبعاتها داخل أمريكا ولدى حلفائها في ركود تضخمي حاد وحجم هائل للدين العام ومستوى مُتنامٍ غير مسبوق في عجز الموازنة. لتبدأ الإدارة الأمريكية في ضوء تلك الدراسات في التحرك بشكلٍ مختلف.

نشَرت “وول ستريت جورنال” يوم الخميس الماضي خبرًا مفاده أن إدارة الرئيس بايدن تستعد لتقليص العقوبات على نظام الرئيس الفنزويلي “نيكولاس مادورو” -الذي كانت تصفه دومًا بالنظام الاستبدادي- من خلال السماح لشركة “شيفرون كورب”** بالعودة للعمل في ضخ النفط هناك. بما سيؤدي إلى إعادة فتحٍ مُحتَمَلة للأسواق الأمريكية والأوروبية أمام صادرات النفط الفنزويلية في مقابل قيام نظام الرئيس مادورو بالتفاهم مع المعارضة لإجراء انتخابات رئاسية حرة في عام 2024.

وقد أشارت “وول ستريت جورنال” أيضًا إلى أن مفاوضات قد جرت بين الإدارة الأمريكية وشخصيات من المعارضة الفنزويلية تم فيها الاتفاق على الإفراج عن مئات الملايين من الدولارات من أموال فنزويلا المجمدة في البنوك الأمريكية لاستخدامها في سداد فاتورة الغذاء والدواء والإنفاق على شراء المعدات اللازمة لتطوير البنية التحتية.

على مستوى ثانٍ وفي مناورة سياسية تهدف للتفكيك الهيكلي لاستقلالية منظمة “أوبك” و”أوبك+” من ناحية ولأجل تهدئة الرأي العام الأمريكي الذي يتلمظ غضبًا جراء ارتفاعات الأسعار من ناحية أخرى. تحركت بعض دوائر صنع القرار الأمريكي لإعادة مناقشة ومن ثَم التجبيه بين النواب الديمقراطيين والجمهوريين لترتيب تمرير مشروع قانون “لا لتكتلات إنتاج وتصدير النفط” (No Oil Producing and Exporting Cartels) المعروف إعلاميًا باسم “نُوبِك”. والذي يتيح للمدعي العام الأمريكي مقاضاة “أوبك و”أوبك+” على خفض إمدادات النفط.

على مستوىً ثالث ربما نشهد تسوية للملف النووي الإيراني في مقابل خروج إيران عن إجماع “أوبك+” وامتناعها عن الانضمام كعضو رسمي “بمنظمة شنجهاي للتعاون”. والتي تشغل بها إيران حاليًا صفة المُراقب ضمن أربع دول تضمها وبيلاروسيا ومنغوليا وأفغانستان. بما يؤثر على قوة وتماسك هاتين المنظمتين.

ستمارس أمريكا أيضًا سطوتها على مؤسسات التمويل الدولية كالبنك الدولي الذي تنعقد جلسات اجتماعه السنوي بواشنطون خلال هذا الأسبوع. في رسم سياساتٍ اقتصاديةٍ وماليةٍ تنسجم مع أهدافها الرامية لاستعادة مناطق النفوذ التي تكاد أن تتسرب من بين يديها و/أو السيطرة على مناطق نفوذٍ أخرى في ظل ظروفِ دَاخِلٍ مأزومٍ اقتصاديًا وماليًا وسط تحدياتٍ دوليةٍ استثنائية فرضها واقع شديدُ الإيلام قررته روسيا الباحثة عن دور تراه مُستَحَقًا. والتي أظن أن المسرح قد أُعِدَ لاستدراجها لفَخٍ ستتضح أبعاده قريبًا جدًا من خلال دفع الأمور لحافة الهاوية بتفجير جسر القرم صباح يوم كتابة هذه السطور. بما يحمله ذلك من تَحَدٍ بالغ الوضوح تمثل -بجانب الخسائر المادية الفادحة المترتبة عليه- في ضربة نفسية هائلة بإظهار روسيا بمظهر القوة الواهية التي أمكن اختراقها استخباراتيًا وضربها في القلب بحسمٍ شديدٍ في اليوم الذي يحتفل فيه الرئيس بوتين بعيد ميلاده السبعين. لتجعل منه عيدًا بائسًا لا يُنسى في تاريخ الشعب الروسي. فإن فقد الرئيس بوتين أعصابه وتمكن منه غرور القوة فقرر الرد بعنف من خلال تصعيد مستوى حملته العسكرية لآفاقٍ مختلفة فيمكن لأمريكا عندئذ حشد المجتمع الدولي ضده في إجراءاتٍ أشد وطأة وفعالية بما يُعيد روسيا عشرات السنين إلى الوراء بعد تجريده من حلفائه الجدد في “أوبك+” و”منظمة شنجهاي للتعاون” واستعادة الكثير منهم مرة أخرى ضمن دائرة النفوذ الأمريكية.

أما إن تَماسك الرئيس بوتين ولم يبادر بردود فعل ذات دَويٍ خاص يتناسب مع فداحة الحدث فسيكون ذلك بمثابة نصرٍ معنوي لأمريكا وحلفائها تستحث بموجبه أوكرانيا -مدعومةً بسلاحٍ متطور نسبيًا- على مزيد من هجمات الاستنزاف لتعديل ميزان القوة بالمنطقة تدريجيًا لأجل دفع روسيا للتفاوض بالشروط الأمريكية.

المخاطر الوحيدة التي أظن أن أمريكا قد قامت بحسابِ تبعاتها تكمن فقط في القوة النووية الروسية التي ما زال الرئيس بوتين يُمسِكُ بمفاتيحها لاستخدامها كورقة في التفاوض المستقبلي.

الأيام القادمة ستكون حُبلى بأحداثٍ جسامٍ أتمنى ألا يدفع الأبرياء من دمائهم ثمنًا لها. أو كما قال الشاعر الأوكراني القديم تاراس شيفشينكو: “إنه يُشرق. حَافةُ السماءِ تَتَوهَج. يَلتقي العندليبُ بالشمسِ في بُستانٍ مُظلِم”.

 

 

*انظر الصفحة 90 (نقلَا عن مذكرات هنري كيسنجر) من كتاب “حرب الخليج” للأستاذ/محمد حسنين هيكل- الطبعة الأولى 1992 عن مركز الأهرام للترجمة والنشر.

** شركة أمريكية يقع مركزها الرئيسي في مدينة سان ريمون بولاية كاليفورنيا. وتعمل حول العالم في مجال الطاقة بإجمالي أصول تبلغ 240 مليار دولار. وقد حققت إيرادات وصلت إلى 162.5 مليار دولار وأرباحا صافية تقدر بـ15.6 مليار دولار في عام 2021. وهي صاحبة تاريخ عريق في إفساد البيئة بأمريكا الجنوبية وإفريقيا وآسيا. ما أسهم بشكل جوهري في أزمة المناخ الحالية.