عندما تم تعديل الدستور في إبريل 2019، تمت إضافة بنود جديدة إلى مهام القوات المسلحة، فلم تعد مقتصرة على حماية البلاد والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها، بل تمددت المهمات وتوسعت وتعددت كما ورد في المادة 200 لتشمل ما يلي: صون الدستور والديمقراطية، والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد.

جاءت هذه المهمات لتوكل للقوات المسلحة حماية دستور فرغته هذه التعديلات من فحواه ومحتواه فتحول من دستور يلبي مطامح الشعب إلى دستور في خدمة مطامح رئيس الجمهورية، ثم أوكلت هذه التعديلات للقوات المسلحة مهمة حماية ديمقراطية لا وجود لها ولا لأي من مظاهرها على الإطلاق، فمنذ الساعات الأولى لبزوغ نجم دولة 30 يونيو 2013 وهي تنسف كل ما ينتسب إلى الديمقراطية بصلة من قريب أو من بعيد، كانت ترفع شعار مكافحة الإرهاب بينما هي -عمليا- تستأصل كل تراث ديمقراطي كافح لأجله المصريون على مدى قرنين من الزمن.. كان استئصال أي ملمح ديمقراطي سواء في بنيان الدولة أو في نسيج المجتمع هدفا مباشرا لسلطة ما بعد 30 يونيو 2013.

وقل مثل ذلك عن مهمة الحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، فليس المقصود دولة يحكمها القانون كما ورد في المادة 94 من الدستور التي تنص على أن سيادة القانون أساس الحكم في الدولة، وأن الدولة تخضع للقانون، وأن استقلال القضاء، وحصانته، وحيدته ضمانات أساسية لحماية الحقوق والحريات. لم يكن المقصود شيئا من ذلك، إنما المقصود بالحفاظ على المقومات الأساسية للدولة هو التراث الطغياني لحكم الضباط منذ تم إعلان الجمهورية في 18 يونيو 1953 وحتى ثورة 30 يونيو 2013 ثم بعدها حتى كتابة هذه السطور ثم إلى ما شاء الله، هذه المقومات تدور حول محور صلب هو في كلمات موجزة: الرئيس فوق الدولة، والدولة فوق الشعب، والشعب على الهامش.

ثم عندما أوكلت التعديلات الدستورية للقوات المسلحة مهمة حماية مدنية الدولة كانت الدولة في هذه اللحظة تشهد تأسيس ديكتاتورية عسكرية محضة أشد قسوةً من الديكتاتورية العسكرية الأولى فيما بعد ثورة 23 يوليو 1952، ففي ربيع 2019 حين جرت التعديلات الدستورية كانت الدولة قد نزعت عنها كل رداء مدني واكتست كل رداء عسكري، ثم تجاوزت الرداء إلى العقل والفكر والروح والخصائص حتى أصبح من المعتاد أن يكرر رئيس الجمهورية عبارته المشهورة: “أنا والجيش والشرطة”.

ثم عندما أوكلت للقوات المسلحة مهمة حماية مكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد كانت دولة 30 يونيو -التي حملت لقب الجمهورية الجديدة- قد انتكست ثم ارتدت ثم تخلفت بمكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد إلى ما قبل كافة ثورات المصريين في ظل الدولة الحديثة، أي إلى ما قبل الثورة العرابية التي بلورت -لأول مرة في التاريخ- فكرة مصر للمصريين، وهي فكرة على إيجازها وبساطتها كانت ومازالت الأساس الذي نهضت عليه الوطنية المصرية الحديثة، لقد انتكست دولة 30 يونيو أو الجمهورية الجديدة بمكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد إلى الحقبة الخديوية قبل الدساتير وقبل البرلمانات وقبل الصحافة الحرة وقبل القضاء المستقل وقبل التنظيمات والنقابات والأحزاب وقبل ظهور الرأي العام المتنور، لم تؤمن دولة 30 يونيو أو الجمهورية الجديدة في أي لحظة من اللحظات أن للشعب مكتسبات وحقوق كما لم تؤمن أن للأفراد حريات فتوسعت -بما يفوق كل الديكتاتوريات السابقة عليها- في تحويل جمهرة الشعب إلى مجرد كتلة بيولوجية منزوعة الحس السياسي ومحرومة من حرية الحركة وغير مسموح لها بالتفكير في الشؤون العامة خارج ما يراه الحاكم الفرد المطلق.

خلاصة القول، عندما أوكلت للقوات المسلحة -في إبريل 2019- مهمات تتعلق بحماية الدستور والديمقراطية لم يكن في الواقع دستور ولا ديمقراطية، ثم لما أوكلت لها مهمة حماية المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها كانت المقومات يتم اختصارها في حكم فردي مطلق فيه الرئيس فوق الدولة، والدولة فوق الشعب، والشعب مستبعد على الهوامش والأرصفة، ثم كان أن فقدت الدولة بالكلية وتعسكرت تماما، ثم لما أوكلت للقوات المسلحة مهمات حماية مكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد لم يكن متاحا للشعب ولا للأفراد غير حق الصمت ليلوذ بالأمان. وكانت خلاصة ذلك هو الانتكاس العام إلى تراث الخديوية الطغياني في الربع الثالث من القرن التاسع عشر.

خير من وصف لنا التراث السياسي الطغياني للخديوية هو الأستاذ الإمام محمد عبده 1849 – 1905. ففي ص 36 من المجلد الأول المعنون “تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده”، لمؤلفه محمد رشيد رضا، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2012، يقول الشيخ عبده: “وذلك أن أهالي مصر قبل سنة 1293 هجرية – 1876م وهي السنة التي استيقظ فيها المصريون على وضع اقتصاد مصر تحت رقابة أجنبية للوفاء بأقساط الديون المستحقة التي اقترضها الخديو إسماعيل – كانوا يرون شؤونهم العامة بل والخاصة ملكا لحاكمهم الأعلى، ومن يستنيبه عنه في تدبير أمورهم، يتصرف فيها حسب إرادته، ويعتقدون أن سعادتهم وشقاءهم موكولان إلى أمانته وعدله، أو خيانته وظلمه، ولا يرى أحد منهم لنفسه رأيا يحق له أن يُبديه في إدارة بلاده، أو إرادة يتقدم بها إلى عمل يرى فيه صلاحا لأمته، ولا يعلمون من علاقة بينهم وبين الحكومة سوى أنهم محكومون مصرفون فيما تكلفهم به الحكومة وتفرضه عليهم، وكانوا في غاية البعد عن معرفة ماعليه الأمم الأخرى سواء كانت إسلامية أو أوروبية”.

ثم يقول: “ومع كثرة من ذهب منهم إلى أوروبا وتعلم فيها منذ عهد محمد علي باشا الكبير وإبراهيم باشا لم يشعر الأهالي بشيء من ثمرات تلك الأسفار ولا فوائد تلك المعارف التي اكتسبت بها”.

ثم يشرح التراث الخديوي فيقول: “ومع أن إسماعيل باشا -يقصد الخديو إسماعيل – أبدع – يقصد أنشأ – مجلس الشورى في مصر 1283 هجرية – 1866 م- وكان من حق هذا المجلس أن يعلم الأهالي أن لهم شأنا في مصالح بلادهم وأن لهم رأيا يُرجع إليه فيها لم يحس أحد منهم ولا من أعضاء المجلس أنفسهم بأن له ذلك الحق الذي يقتضيه تشكيل هذه الهيئة الشوروية -يقصد الديمقراطية- لأن مبدع المجلس -يقصد الخديوي- قيده في النظام وفي العمل. أما النظام فلأنه قد نص فيه على أن نظر المجلس منحصر فيما تراه الحكومة من خصائصه- يقصد صلاحيات وسلطات المجلس- وما يعن لها أن ترسله إليه للمداولة فيه، وأما العمل فلأنه كان يُرسل من قبله -أي من الخديو- عند المداولة من يخبر الأعضاء بإرادة جنابه فيقررون ما يريده الخديو بعد مداولات صورية”.

ثم يقول: “فكانوا يشعرون بأن الإرادة المطلقة هي التي كانت ولا تزال تصرفهم -يقصد توجههم- في آرائهم “.

ثم يتساءل الأستاذ الإمام محمد عبده: “هل كان يمكن لأحد أن يعمل على خلاف ما يأمر به الخديوي؟ هل كان يمكن لشخص أن يميل بفكره عن الطريق التي رُسمت له أو الوجهة التي يتوجه إليها الحاكم؟”.

ثم يجيب: “كلا، فإنه كان بجانب كل لفظ -لا يتوافق مع إرادة الحاكم- أما نفي عن الوطن، أو إزهاق الروح، أو تجريد من المال”. انتهى الاقتباس من الأستاذ الإمام وهو كاشف تماما لما عليه الأوضاع في زمن الخديوية ثم ما انتكست إليه في زمن الجمهورية الجديدة فيما بعد ثورة 30 يونيو 2013.

***

عندما أُسندت للقوات المسلحة -في ربيع 2019- مهام حماية الدستور والديمقراطية والمدنية والحقوق والحريات لم يكن في مصر شيء من ذلك أصلا، كانت مصر في السنوات الست السابقة على تعديل الدستور قد ارتدت إلى الخلف لتعود مجرد خديوية تُدار فيها السياسة بالسجون ويُدار فيها الاقتصاد بالديون وتنشأ فيها المشاريع الضخمة بقرارات فردية غير مدروسة ومقطوعة الصلات بالأولويات الوطنية.

لكن بغض النظر عن وجود الديمقراطية من عدمه فإن دسترة الدور السياسي للجيش يظل موضوعا على أعلى درجات الأهمية، كان للجيش دور في قيادة الثورة العرابية، ولم يكن له دور في ثورة 1919، وكان من قام بالثورة في 23 يوليو 1952، ورحب ثم استوعب ثم احتوى ثم نسف ثورة 25 يناير 2011، ثم استعاد سيطرة كاملة على كل شئ بعد ثورة 30 يونيو 2013. والثابت من الخبرة التاريخية للمصريين أنه كلما زاد دور الجيش في السياسة كلما تراجعت فرص الديمقراطية، ولما بلغت السيطرة قمتها وذروتها بعد ثورة 30 يونيو 2013 تراجعت الديمقراطية إلى أسوأ درجاتها حتى درجة الصفر وما دون الصفر.

قبل مائة عام من دسترة دور الجيش في السياسة إبريل 2019 كانت الوثبة العظمى للمصريين كانت ثورة مارس وإبريل 1919، في مائة عام تراجعت مصر بصورة مؤسفة من لحظة كان الشعب فيها من الثقة في نفسه بحيث يواجه في وقت واحد استغلال سلالة محمد علي مع استعمار أعتى الإمبراطوريات في التاريخ.

هذا التراجع، بمعنى زيادة دور الجيش في السياسة وتقليص مساحة الديمقراطية، يعود إلى اللحظة الأولى للدخول المكثف للضباط في السياسة مع فجر ثورة 23 يوليو 1952.

في ص 42 من مذكراته -يقول عبد اللطيف البغدادي عضو مجلس قيادة الثورة ثم وزير ثم رئيس البرلمان-: “أول ما شغلنا هو الجيش وضمان استمرار السيطرة عليه وتأمينه، وأن يكون ولاؤه لأهداف الثورة، لهذا تم نقل بعض القيادات من الجيش إلى وظائف مدنية بالمرتب والدرجة التي كان عليها في الجيش”.

لقد ولدت الجمهورية بعيوب خلقية منذ إعلانها في 18 يونيو 1953 وحتى حملت لقب الجمهورية الجديدة في عهد الرئيس السيسي من صيف 2014 وما بعدها: أول هذه العيوب الخلقية أن أول رئيس لها تم تعيينه دون أي دور للشعب، عينه عشرة ضباط، ثم عزله عشرة ضباط، هذا العيب الخلقي ترتب عليه أن ظل الشعب بعيدا عن اختيار الرؤساء مع فارق أن الرئيس لم يعد يعينه مجلس قيادة الثورة وإنما يعين باستفتاءات مزورة وانتخابات مفبركة. ثم ثاني العيوب الخلقية هو الخلط الضار بين السياسة والعسكرية وهو أسوأ من الخلط بين السياسة والدين، فقد كان أول قائد عام للجيش بعد إعلان الجمهورية برتبة رائد تم ترقيته بجرة قلم إلى رتبة لواء ثم بعد ثلاث سنوات انهزمت مصر تحت قيادته في حرب 1956 فتمت مكافأته بعد عامين من الهزيمة في 1958 برتبة المشير، يعني في خمس سنوات فقط ترقى من رائد إلى لواء إلى المشير، وفي أحد عشر عاما فقط انهزمت مصر تحت قيادته ثلاث مرات في 1956 ثم في حرب اليمن التي استمرت خمس سنوات من 1962، ثم حرب 5 يونيو 1967. بعد هزيمة 1967 تقلص دور الجيش في الحياة السياسية، لكنه عاد بصورة كاسحة بعد 30 يونيو 2013.

نعود لمذكرات البغدادي، يقول في ص 50 “كنت أخشى من تولي عبد الحكيم -يقصد عبد الحكيم عامر- أمر الجيش، أن يصبح الجيش في المستقبل أداة تدخل في السياسة العامة، ومدى خطورة هذا التدخل على مستقبل البلاد. لذا رأيت أن اعترض على اقتراح جمال -يقصد جمال عبد الناصر- مُبينا أنه من الأفضل أن يتولى أمر الجيش ضباط محترفون، للتفرغ له، والابتعاد عن السياسة، ذاكرا أن الجيش إذا تدخل في السياسة فسد الجيش وفسدت السياسة أيضا، وأن هذه هي محصلة التجارب على مدى التاريخ”.

ثم يقول “ولكن جمال عبد الناصر تمسك باقتراحه مُبينا أنه من المستحيل أن يوكل أمر الجيش لشخص غريب، وليس منا، يقصد ليس من تنظيم الضباط الأحرار، فيتحكم في رقابنا على حد تعبير جمال عبد الناصر”.

ويقول البغدادي “وموقفي هذا من تعيين عبد الحكيم خلق حساسية بين جمال عبد الناصر وبيني لم أعلم بها إلا فيما بعد من جمال سالم”.

ثم يقول البغدادي كلاما خطيرا: “وكان من نتائج تعيين عبد الحكيم قائدا عاما للجيش إبعاد باقي أعضاء المجلس -يقصد مجلس قيادة الثورة- عن وحداتهم العسكرية تدريجيا، بحجة أن نترك العمل لعبد الحكيم حتى لا نتسبب في سوء تفاهم بيننا لو استمرت علاقتنا بزملائنا الضباط، وتم العمل على إبعاد زملائنا عنا بواسطة ضباط مكتب عبد الحكيم، وكان ذلك يجري بتهديدهم أو بحجة ضرورة ابتعادهم عنا حتى لا يقع عليهم أضرار بسبب علاقتهم بنا. وكان مكتب عبد الحكيم -وهو قائد عام للجيش- يعمل على تقريب الضباط منه بخدمات يتم تقديمها إليهم، حتى أصبح لا هم لكثير من الضباط إلا التقرب من عبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر أو إلى من هم قريبين منهم، طمعا في منصب أفضل، أو خدمة تؤدى لهم”؟ ثم يختم البغدادي بالقول: “بذلك أصبح الجيش مع مرور الوقت أداةً في يد جمال وعبدالحكيم، واعتزلنا نحن نهائيا عنه”.

ثم يضع خلاصة التجربة: “ونتج عن هذه السياسة فساد الجيش مما ترتب عليه نتائج وخيمة عسكرية وسياسية”.

***
من مفارقات التاريخ أن حركة الضباط الأحرار قامت لتطهير الجيش من الفساد ثم تورطت وورطت الجيش في فساد أكبر بكثير من فساده القديم لحظة قيامهم بالثورة، ثم قامت مدفوعة بالغضب من هزيمة الجيش في حرب فلسطين 1948 لكنهم تمكنوا من إنجاز الهزيمة تلو الهزيمة بما يفوق هزيمة 1948 التي كانت من أسباب ثورتهم على الملك، مع فارق في أحجام الخسائر التي تفوقت فيها هزائمهم، ثم مع فارق أن هزائمهم كانت تأتي بالعدو -مرتين في عشر سنوات- إلى السويس يعني كان العدو على مسافة ساعة من عاصمة البلاد ذاتها، ومع فارق أن فساد الجيش وسوء إدارة الملك كان يوجد في السياسة والصحافة والبرلمان والقضاء والرأي العام من يكشفه ويفضحه وينتقده بشدة، بعكس فساد وهزائم الضباط التي كانت ومازالت يتم تبريرها وتضليل الشعب عنها والارتفاع بها إلى مرتبة التربية الوطنية الواجب تلقينها للأجيال.

في ص 51 من كتابه “نداء الشعب: تاريخ نقدي للإيديولوجيا الناصرية ” الصادر عن دار الشروق في طبعته الأولى 2012 يقول دكتور شريف يونس: “كان المطلوب بعد ذلك -يقصد بعد فرز الجيش وتصفية كافة العناصر غير المرغوبة حيث صدرت قرارات بتقاعد 450 ضابطا يمثلون حوالي 10% من ضباط الجيش بسبب ارتفاع رتبهم عن رتب الضباط الأحرار وأعطيت لهم على سبيل التعويض مناصب مدنية قائمة أو خُلقت خلقا من أجلهم، وتم إلقاء القبض على ثلاثين ضابطا بتهمة تدبير انقلاب باسم اللواء فؤاد صادق، كما تم إلقاء القبض على خمسة وثلاثين ضابطا من سلاح المدفعية بتهمة السعي لقلب نظام الحكم رغم أنه لم تكن قد تأكدت بعد ملامح نظام الحكم – ثم بعد تلك التصفية داخل الجيش بصفة عامة بدأت التصفية داخل تنظيم الأحرار ذاته”.

وهنا يقول دكتور شريف يونس: “كان المطلوب بعد ذلك -أي بعد فرز الجيش- أن يجري فرز الضباط الأحرار، بالإبقاء على من يصلح منهم للتعاون مع مجلس القيادة في مهمة تأمين الجيش لمنع الانقلابات، ونقل من يصلح منهم ليقوم بمهام مساعدة في مؤسسات الدولة المدنية وهيئة التحرير -تنظيم سياسي تابع للضباط- ثم إبعاد الباقين عن الجيش بالنقل لوظائف مدنية أو حبسهم في حالة خطر التمرد”.

ثم يقول: “وقد تصدى عبد الناصر لهذه المهمة، فأصبح يعقد مع ضباط الصفين الثاني والثالث اجتماعات أسبوعية لتوثيق الصلة بهم ومناقشة الأوضاع معهم ومعرفة شكاواهم، كما تولى عبد الناصر أيضا إدارة مكتب القائد العام للجيش -الرئيس محمد نجيب- ليكون على اتصال بالضباط، ولكي يستطيع أن ينقل أي ضابط من موقع لآخر بما يؤمن سلطة مجموعة القيادة على الجيش”.

ويضيف: “ثم ترك عبد الناصر هذا المنصب لصديقه وعضو مجلس القيادة عبد الحكيم عامر الذي رُقي بعد إعلان الجمهورية مباشرة في 18 يونيو 1953 إلى رتبة اللواء، ليتولى منصب القائد العام للجيش”.

ثم يقول: “وقد أدى هذا كله إلى إيجاد نوع من تنظيم أمني -داخل الجيش- تابع لمجلس قيادة الثورة، أو – في حقيقة الأمر – تابع لبعض أعضائه والمقصود هنا عبد الناصر وعامر – هذا التنظيم الأمني داخل الجيش يوازي ويحكم التنظيم العسكري التقليدي عن طريق التجسس، وهو ما أدى في النهاية إلى إضعاف الجيش من الناحية العسكرية، لأن الأولوية بطبيعة الحال كانت لاعتبارات الأمن”.

ويختتم: “وبعد استقرار الحكم عام 1954 تم إخراج الضباط الأحرار من الجيش تدريجيا، بإغرائهم بمناصب مختلفة، ليعتمد عامر على ولاء عناصر غير مسيسة من الضباط، ولكنها راغبة في التقرب له بتقديم خدمات أمنية وغير أمنية، بعضها لا يشرف أحدا”. انتهى الاقتباس من يونس وهو يتوافق مع ما ذكره البغدادي حين قال في مذكراته إن سياسة عبد الناصر وعامر في الجيش أدت إلى فساد الجيش مما ترتب عليه نتائج وخيمة سياسية وعسكرية.

يؤكد هذا وذاك ما ورد في ص 43 من كتاب “التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط” لمؤلفه الدبلوماسي الأشهر إسماعيل فهمي 1922 – 1997 الذى شغل منصب وزير خارجية مصر بين عامي 1973 – 1977 حيث تقدم باستقالته احتجاجا على مبادرة السادات بزيارة إسرائيل في نوفمبر من ذاك العام يقول ” ” كان عبد الناصر يخشى تماما وجود جيش قوي، حيث كان يتوقع أنه قد لا يستطيع السيطرة عليه، ونتيجة لهذا شجع -يقصد عبد الناصر- وجود منافسات داخل الجيش، كما أنشأ عدة مراكز للقوى داخل القوات المسلحة، وربما ساعد هذا عبد الناصر على البقاء في السلطة”.

ثم يقول: “وكانت النتيجة بحلول عام 1967 أن أصبح الجيش المصري مؤسسة سياسية، بدلا من أن يكون آلة حرب محترفة”. ويذكر أن هذا هو السبب الأول في هزيمة 1967.

أما السبب الثاني لضعف الجيش المصري هو أنه منذ عام 1956 عاشت مصر في وهم أنها انتصرت في حرب ضد إسرائيل وبريطانيا وفرنسا، وقد أقنعت أجهزة الدعاية كل المصريين بذلك، يقصد النصر الوهمي الخيالي الخرافي الذي لم يحدث في الواقع الحقيقي. ويشير إلى حقيقة أن مصر لم تنتصر في الحرب لكنها انتصرت في معركة إعادة تشغيل قناة السويس بعد أن تعطلت فترة الحرب، والذي انتصر في هذه المعركة لم يكن الجيش، الذي انتصر هو مرشدو الملاحة في القناة والعاملون بها، وقد تم استخدام هذه الحقيقة للتغطية على أكذوبة أن الجيش انتصر في حرب 1956.
ويختتم الوزير إسماعيل فهمي في ص 44 بالقول أنه بعد حرب 1967 حاولت أجهزة الإعلام والدعاية إخفاء حقيقة الهزيمة كما نجحت في إخفاء هزيمة 1956 وتحويلها إلى نصر فيقول: “غير أن حجم الهزيمة كان أضخم من أن يظل خفيا لفترة طويلة، وأدرك عبد الناصر أنه مضطر لهجر سياسته القديمة التي كانت ترمي إلى إضعاف الجيش وبث الانقسام فيه، وأنه يتعين عليه بدلا من هذا أن يبني جيشا محترفا، أي قوة قتال محترفة ذات كفاءة عالية، وكان عليه أن يبدأ من نقطة الصفر.

***

وجهة نظر البغدادي التي لم يأخذ بها عبد الناصر من أن تدخل السياسة في الجيش يفسد الجيش والسياسة معا، تجد تطبيقها في أمثلة لا حصر لها في إفساد كل مرافق الدولة ومؤسساتها وليس إفساد الجيش فقط، ففي دراسة نالت بها صاحبتها درجة الماجستير من قسم التاريخ في جامعة المنوفية عنوانها “وزارة الخارجية: دراسة تاريخية 1954 – 1970” صادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في 2016، تقول الباحثة رشا علي طه بدوي في ص 20 وص 21 أنه منذ تولى اللواء محمد نجيب منصب رئيس الوزراء في سبتمبر 1952 شهدت المناصب الرئيسية في الدولة والوزارات هجوما مكثفا من جانب العسكر، وأنه حاول إيقاف هذا الزحف لكنه لم يُفلح، ومن هنا بدأ تغلغل العسكر في وزارة الخارجية، وتنقل عن السفير سعد الفطاطري في مذكراته المعنونة “سعادة السفير: مذكراتي في 40 عاما في السلك الدبلوماسي” أنه تمت تصفية وإبعاد العديدين من الدبلوماسيين المحترفين، ثم انفتح الباب ليدخل العسكريون السلك الدبلوماسي وأنهم لم يكونوا كلهم على قدر من الكفاءة، وأن بعضهم دخل وزارة الخارجية مستبعدا من الجيش، وبعضهم لوصل ما انقطع من أسباب الرزق، وقد سمع أحدهم يصرح علانيةً أنه جاء ليسترزق، وآخر قال إن جمال عبد الناصر أرسله ليزوج ابنته، وآخر كان يقول يقول وزارة الخارجية امتداد طبيعي للجيش، ثم تقول: “ولكثرة تغلغل العسكر في مناصب الخارجية ظهر اسم يدل على الاندماج الذي حدث بين وزارتي الخارجية والحربية فظهر للخارجية اسم جديد هو “الخاربية” المقطع الأول من اسمها مع المقطع الأخير من “الحربية” وبدأ تعيين العسكر في مناصب رؤساء البعثات الدبلوماسية.

وفي ص 134 من كتابه “مذكرات الجمسي: حرب أكتوبر 1973” يقول المشير محمد عبد الغني الجمسي آخر من حمل لقب وزير الحربية قبل أن يصير اسمها وزارة الدفاع بعد اتفاقية كامب ديفيد مع اسرائيل 1978 يقول: “دخلت القوات المسلحة في الإصلاح الزراعي، والإسكان، والنقل الداخلي، وأعمال مباحث أمن الدولة، والسد العالي وأشياء أخرى كثيرة، وكان للقوات المسلحة مندوبون في كل هذه الجهات يمثلون المشير عبدالحكيم عامر”.

ثم يقول: “ويهمني في هذه النقطة -من الناحية التاريخية- القول: إن انتشار سلطة القوات المسلحة في مختلف نشاطات الدولة أخرج القوات المسلحة أو قلل اهتمامها بمسؤوليتها الأساسية وهي إعداد القوات المسلحة للقتال”.

****

الحديث مُستأنف الأربعاء المقبل بمشيئة الله.