لم يعد أي خبير اقتصادي أو باحث تنموي يتحدث عن تجارب متنوعة في التنمية الشاملة والنهضة الصناعية إلا ولابد أن يذهب بحديثه إلى “فيتنام”، بلد المعجزة التي حققت إنجازًا تنمويًا ضخمًا بعد ما عانت بشدة من التخلف والفقر والحكم الشمولي والمركزي.

انتقلت فيتنام من بلد دُمرت بنيته التحتية بأكثر من 4 آلاف جسر و50 ألف ميل طرق، في حرب عنيفة مع الجيش الأمريكي إلى بلد جاذب لاستثمارات الشركات الكبرى في مجال الملابس والهواتف الذكية، وباتت فيتنام التي دمرت مناطقها الصناعية الست جميعًا أثناء الحرب تصنع 10٪ من الهواتف الذكية حول العالم في أراضيها، وتحولت من معدلات فقر مدقع كانت تزيد عن الـ70٪ من السكان في السبعينيات إلى أقل من 3٪، وانخفضت نسبة الأمية في صفوف الكبار إلى أقل من 5٪ فقط من إجمالي السكان، وارتفع معدلات الأعمار المتوقعة للمواليد إلى 75 عاما بعدما كان المتوسط أقل من 60 عاما في ستينيات القرن الماضي، وهي بالتأكيد مؤشرات لم تحدث من قبيل الصدفة بل حدثت كنتيجة وسبب لتجربة تنموية كبيرة بدأت منذ منتصف الثمانينيات نستعرض أبرز ملامحها سريعًا، والتي يمكن جدًا الاستفادة منها في واقعنا المصري.

في 1986 انطلقت استراتيجية التنمية الفيتنامية عبر سياسات الإصلاح المعروفة باسم “دوي موي” والتي اعتمدت التحول من الاقتصاد المركزي إلى الاقتصاد الحر، بدأت تلك الإصلاحات رغم الحصار والعقوبات الأمريكية عبر إطلاق اليد للمبادرة الخاصة والملكية الفردية وقررت الدولة منح الفلاحين ملكية الأراضي ليتمكنوا من الزراعة “الأسرية” بشكل فردي، والتخلي عن فكرة الزراعة الجماعية في نظام رأسمالية الدولة التي كانت تنتهجه فيتنام، فأصبحت فيتنام سريعًا تحقق فائضًا في إنتاجها المحلي من الأرز بعد ما كانت تعاني وتطلب المساعدات الغذائية قبل تلك الإصلاحات. تحرير التجارة وإتاحة تصدير الأرز للخارج بدلًا من زيادة المعروض داخليًا وخفض الأسعار بالتبعية خلق دافعًا قويًا لرفع الإنتاج الزراعي للأرز وتحقيق الأرباح من خلال التصدير، وأصبحت فيتنام ثالث دول العالم إنتاجًا للأرز.

لكن فيتنام لم تحقق طفرتها التنموية بمجرد تنمية القطاع الزراعي الذي كان يمثل 80٪ من ناتجها المحلي الإجمالي في الثمانينيات، لكن تحرير التجارة وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر وتنمية القطاع الصناعي لتتخطي نسبة الصادرات الصناعية 80٪ من إجمالي الصادرات هي ما حققت هذا التحول الجذري، لكن كيف حدث ذلك؟

أنفقت فيتنام بسخاء على البنية التحتية “المرتبطة” بالصناعة والاستثمار الأجنبي والتجارة الخارجية، فأصبح لديها أكثر من 320 ميناء بحري منهم 44 ميناء تتجاوز طاقتهم 500 مليون طن بضائع سنويًا، بالإضافة لـ 15 مطارا يتم استخدامها للأغراض المدنية والتجارية، مما مكن فيتنام من خلق بيئة جاذبة بحق للاستثمار الأجنبي المباشر، بالإضافة لما أصلحته في البنية التحتية للمواطنين من شبكات طرق وكهرباء ومحطات مياه وصرف صحي استطاعت تحسين مستويات المعيشة للمواطنين، مُول الكثير منها بقروض ومنح من البنك الدولي ومؤسسات أخرى، مع إشراك المؤسسات الدولية في الإدارة والإشراف على المشاريع ورفع كفاءة التنفيذيين الفيتناميين في برامج مستمرة وكثيفة.

أما عن الخصائص البشرية للسكان فأدركت فيتنام أن الإنسان هو سبب التنمية والمستهدف منها، فاستثمرت بشكل كبير للغاية في تحسين القوى العاملة والإنتاجية بالاستثمار الكثيف في رأس المال البشري من تعليم وصحة وخدمات اجتماعية، حيث أنفقت الحكومة في فيتنام ما يقارب من ربع إنفاقها السنوي على التعليم والصحة فقط لسنوات طويلة، على سبيل المثال في عام 2020 أنفقت فيتنام 4٪ من ناتجها المحلي الإجمالي على التعليم بواقع 14.2٪ مليار دولار أمريكي.

انعكس ذلك بالطبع على تصنيف فيتنام في مؤشر التنمية البشرية العالمي حيث بلغت المركز الـ48 عالميًا من أصل 157، فضلًا عن تفوق الطلاب الفيتناميين في البرنامج الدولي لتقييم الطلبة PISA والذي احتلت فيه المرتبة الثامنة في تقييم قدرات الطلاب في الرياضيات واللغات والعلوم متفوقين بذلك على طلاب ألمانيا وأمريكا واليابان وفرنسا والسويد وكثير من الدول المتقدمة.

تلك الإصلاحات والإنجازات في تطوير الخصائص البشرية وتحسين البنية التحتية وتحرير التجارة، اكتملت مع سياسات تحفيز للاستثمار الأجنبي المباشر وتحديدًا في القطاع الصناعي، وقدمت الكثير من الإعفاءات الجمركية والضريبية، وتسهيل مناخ الأعمال عبر سرعة إصدار التراخيص الصناعية وتخصيص الأراضي، وتوفير العمالة المدربة والرخيصة، فضلًا عن العديد من اتفاقيات التجارة الجماعية والثنائية والانضمام لتكتلات اقتصادية مثل تكتل أسيان وتكتلات أخرى للمناطق الحرة، وتحولت بذلك إلى وجهة رئيسية للاستثمارات الأجنبية الكبيرة عالميًا بعد الصين والبرازيل والهند وروسيا.

كان حجم الاستثمار الأجنبي المباشر في فيتنام عام 2000 هو 3.2 مليار دولار فقط، بينما في عام 2008 قفز إلى 17 مليار دولار، ومثلت عوامل الجذب الكثيرة للصناعات كثيفة العمالة حافزًا لقدوم شركات عالمية كبيرة إلى فيتنام ضمن أكثر من 10 آلاف شركة أجنبية بالبلاد تعمل في العديد من الصناعات والمجالات. مثل أديداس ونايكي وبوما للملابس، إنتل وسامسونج وهواوي وسوني وشارب وكانون وفوكس كون للصناعات والأجهزة الإلكترونية المختلفة، بالإضافة لمصانع هوندا وتويوتا للسيارات.

قطاع الصناعات التحويلية الذي يسابق زمانه في فيتنام بشكل مهول استطاع إضافة ما يزيد عن 1.5 مليون وظيفة صناعية جديدة في الفترة من 2014 إلى 2017 وامتلأ بقصص نجاح متنوعة مع الشركات الأجنبية الكبيرة مثل سامسونغ التي دخلت السوق الفيتنامي عام 2008 برأس مال يعادل 670 مليون دولار، وفي 10 سنوات فقط أصبح لدى سامسونج 6 مصانع داخل فيتنام وتستعد لإنشاء مركز بحث وتطوير عملاق لأكثر من 3 آلاف مهندس فيتنامي، وحققت سامسونغ تراكم في استثمارات الشركة لدى فيتنام بما وصل إلى 17 مليار دولار، لتصبح أكبر الاستثمارات الأجنبية في فيتنام.

توجت تلك السياسات الناجحة في عام 2021، حيث أصبحت الصادرات الفيتنامية من صناعة الأحذية بمفردها 17.6 مليار دولار، وحققت صادراتها من الهواتف الذكية ومكوناتها ما يزيد عن 57 مليار دولار، وبالتالي فيتنام حققت إجمالًا صادرات بقيمة 336 مليار دولار بما يصل لأكثر من 10٪ من قيمة ناتجها المحلي الإجمالي. بلغ حجم الصادرات الصناعية 85% تقريبا من جملة الصادرات السلعية، مع تراجع شديد في حصة المواد الخام منها، وبلغت الصادرات عالية التقنية حوالي 40٠٪ من جملة الصادرات المصنعة، وهو ما ساهم في رفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 100 دولار عام 1986 لأكثر من 2700 دولار في عام 2020.

الاقتصاد الفيتنامي المتوسع على مدار 40 عامًا يحقق معدلات نمو متقدمة تدور حول الـ7٪ سنويًا في المتوسط، مع تحقيق تحسينات كبيرة في المؤشرات الكلية المالية والنقدية باستقرار معدلات التضخم وأسعار الفائدة المنخفضة ومستويات الدين العام وعجز الموازنة، وذلك كله عبر خطط اقتصادية متتالية وليست من قبيل الصدفة، وهو ما جعلها بلدا ذات دخل متوسط وتطمح لأن تصل لمستويات أكثر تقدمًا إذا استمرت في تحقيق نفس المعدلات لفترات أطول، خاصة مع حسن استغلالها لأزمات الحرب التجارية بين أمريكا والصين، والصراع المحتمل مع تايوان، وقدمت سياسات تحفيزية كثيرًا لشركات كبرى في الصين لفتح مصانعها بفيتنام في حال تخارجها من الصين، وبالتالي استغلت كافة الأزمات الإقليمية والدولية في تحويلها لفرص اقتصادية واعدة.

الإنجاز الكبير الذي حققته فيتنام في التنمية برغم التحديات التي تحيط بها وبعض مكامن الخلل والمخاطر بذلك النموذج، إلا أنها تمثل دليلا استرشاديا للدول النامية التي تريد إحداث نفس التحول الكبير اقتصاديًا واجتماعيًا والتي تتشابه كثيرًا في الظروف التي بدأت عندها فيتنام واستمرت بها لسنوات وعقود كبلد نامٍ وصاعد، لكن التزم بخطط طويلة ومتوسطة الأجل تتمتع بسياسات شبه مستقرة وثابتة جعلتها محل ثقة للعالم الخارجي، ووضعت نصب أعينها تطوير القطاع الصناعي وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تضيف لاقتصادها القومي قيمة مضافة حقيقية، ولا تتركز في قطاعات العقارات أو الأموال الساخنة، وهو تمامًا ما تحتاجه الكثير من البلدان النامية لتبني اقتصادًا قويًا أكثر تحملًا للصدمات ولا يحتاج لسياسات إصلاح مالي ونقدي كل 5 سنوات، النموذج الفيتنامي في التنمية البشرية يعد دليلًا دامغًا على قيمة الاستثمار في عقول وصحة المواطنين بشكل يتساوى مع قيمة وأهمية الاستثمار في البنية التحتية وتحسين مناخ الاستثمار، فهي مسارات متوازية وليست متناقضة للتنمية، وهي ما تحتاجه بشدة الدول النامية لتصبح مثل فيتنام صاعدة من الهاوية إلى القمة.