منذ طفولتي وأنا أجد في قصص نصر 6 أكتوبر شيئا ملهما، فهي ليست أقل من عمل إعجازي يذكرنا أننا كشعب لسنا محكومين بالعشوائية والهزيمة، بل يمكن لنا أن نصنع نجاحا باهرا يعتمد على العلم والتخطيط، بل والإخلاص أيضا. ولفترة طويلة لم أفهم لم ظلت هزيمة 67 حاضرة في النفوس أكثر من تلك اللحظة الفارقة في 73 بكل ما تحمل لنا من فخر وأمل وإيمان.
مع الوقت فهمت، أن منجزات النصر باستثناء استرداد الأرض والكرامة، كلها تبخرت، الفرصة التاريخية التي اضطرت الدولة المصرية إلى الاستعانة بأهل الكفاءة لا الثقة، ضاعت فور أن قرر أنور السادات قبل مرور 48 ساعة على العبور، أن يحول ذلك النصر إلى نصره الفردي، باتخاذه كل القرارات وحده، وبدون استشارة، منها إخبار كيسنجر بنيته في الحرب، وأنه لا ينوي تطوير الهجوم؛ مما منح إسرائيل ضمانا مهما جعلها تركز ضرباتها على سوريا أولا، وإصراره على قرار تحريك القوات إلى المضايق، رغم تحذير سعد الدين الشاذلي، ثم قرار إبرام معاهدة سلام التي تفاوض فيها وحده بمنطق رئيس القبيلة دون استشارة أحد.
وقد أدرك الأمريكيون والمفاوضون الإسرائيليون تلك الثغرة ونجحوا في استغلالها. فبينما يفاوض السادات مؤسسات إسرائيلية تتشاور وتتناقش وترفض بحثا عن أفضل المكاسب، كان كل ما على المفاوضين الإسرائيليين أن يفعلوه هو أن يحصلوا من “رئيس القبيلة” وحده على كل ما أرادوا، عبر اللعب على ثغرة شعوره بالعظمة وأيضا حاجته إلى الحصول على أي مكاسب تحفظ ماء وجهه.
درس نصر 6 أكتوبر، لم يفهمه صانع القرار في الدولة سواء السادات أو من تلاه، الشروط الوحيدة المثالية لأي نجاح ممكن والمعنى الحقيقي لتضافر القوى الوطنية، كل في مجال تخصصه، لا انفراد بالقرار، إذا أردت أن تنفذ رؤية ما كقائد سياسي، كل ما عليك أن تفعله هو أن تتركها للمتخصصين، أن تسمح بتداول الآراء، أن تسمع الجميع قائد الميدان والجندي، أليس هكذا توصلنا إلى تحطيم خط بارليف المنيع، بفكرة شديدة البساطة والعبقرية عبر استخدام خراطيم الماء، والتي قدمها مهندس في الأساس برتبة مقدم، وكذلك الفكرة التي لا تقل عنها عبقرية وبساطة باستخدام اللغة النوبية وهي لغة منطوقة غير مكتوبة لذا لا يمكن حل شفرتها، والتي قدمها مجند نوبي.
الدرس المهم، هو أن يكون الرأي ابن العلم لا الفهلوة، التخطيط العميق لا النزوة، أن لا قائد ينجح وحده مهما بلغت درجة ذكائه الشخصي، الدرس الوحيد الباقي لشخص مثلي ولد بعد تلك الحرب بثماني سنوات، ولم يشهد منها سوى الأوبريتات المزيفة التي تحيل مثل ذلك النصر العبقري إلى إطار تافه يطغى على محتواه الثمين، ويحوله إلى وسيلة تثبيت شرعية لحكومات غير مؤتمنة على استغلال مسارات هذا النصر. رأينا التبعية التامة لأمريكا التي حصلت بلا مقابل هام على 100% من أوراق اللعبة، رأينا وعود الرخاء بعد أن سمينا أكتوبر آخر الحروب، تتبخر إلى ديون وتضخم وعشوائيات وفقر، حرب لم يستفد منها من ضحى بدمائه من أجلها وقدم أغلى هداياها طواعية، رغم أن الهزيمة الفادحة التي سبقتها لم تكن خطأه، بل هي ابنة غياب الشفافية وتنفيذ كل نزوة في رأس الزعيم دون الرجوع إلى أحد.
لذا ما زال شبح 67 يخيم بحضوره الثقيل، لأن النصر تخلي عن أسبابه، أما أسباب الهزيمة فتعض علينا بنواجذها.
كانت أصدق الأغاني الوطنية هي التي أنتجتها فترة ما بعد النكسة لا النصر، لأنها كانت لحظة مواجهة مع العدم والحقيقة، لحظة تخل صادقة عن الأوهام واعتراف بالأخطاء، وتشبث بالأمل المبني على تصحيح الخطأ بنزاهة، لذا نردد أغاني الهزيمة كأنها أغاني نصرنا، ولم يبق في القلب والذاكرة أي من أوبريتات استحلاب تلك اللحظة الباهرة دون التأسيس عليها لتطوير الدولة لا لتثبيت حكم مستبد.